ألا فاعلمن أن النساء اللاتي كن ذوات أثر في أعاظم الرجال وذوات سلطة وشوكة حزن جمالا أعظم من هذا الجمال الخسيس وأبقى. لقد كان لهن جمال النفس الذي تزيده الأيام رونقا، بينما هي تحك القشرة هنا وهناك وتوسعها كل ساعة ذبولا وإتلافا. كان لهن جمال العقل وجمال القلب، وجمال حسن التصرف، وجمال اللطف الصحيح، وجمال المحبة الطاهرة العميقة المستخفة بالمظاهر التي لا يغرها جمال الشباب وجمال الأناقة وجمال الأزياء.
أتعلمن ما هو الشباب والجمال؟ هما حديقة تملؤها الأزهار النضرة والعطور المنعشة، أمامها يقف المارون معجبين. وما هو إلا يوم وليلة فتمر العاصفة صارعة أشجارها، مبددة أزهارها، مبيدة عطورها، وتغادرها خالية إلا من أكوام التراب والأغصان المكسرة، هذا ما تسمونه جمال الشباب؛ أي جمال القشور. أما الجمال الآخر فهو جمال الجوهر، الآلام تطهره والمصائب تجلوه، والعواطف تفعمه قوة ونبلا. هو الجمال الذي يبقى ناميا مدى الحياة. هو مسعد العائلة، وهو مساعد الزوج، هو مهذب الأطفال، هو السلام والخير والبركة. ولتحفظه المرأة ... اسمعن أيتها السيدات ... لتحفظ المرأة ذلك الجمال. عليها أن تكون وردة تحيط بها الأشواك ...
انتهت الوعظة، فعزف الأرغن الشجي وابتدأ الزياح فاشترك الجميع في الترتيل وتصاعدت الشعائر نحو الله ملحنة أنغاما ومحترقة أمام هيكله بخورا.
وعند خروجي من الكنيسة كان الظلام يغمر المدينة ومضيئو المصابيح يجرون في الشارع حاملين المشاعل، فوقف أحدهم يتفرج على السيدات وهو يفتر عن أسنانه البيضاء، ويثني على كل مارة الثناء المعتاد قائلا بلهجته المصرية النغشة: «إنت يا واد يا حلو! إنت ياللي زي الباشا! إنت يا واد يا حلاوة!»
هذه هي موعظة شهر الورود: على المرأة أن تكون وردة تحيط بها الأشواك. وما «أشواك» الوردة النسائية غير التكتم والحشمة والطهارة كما قال ذلك القس، فإن عجبتم اليوم لهذا الكم الطويل الذي يتعثر قلمي بأذياله فاعلموا أن سببه موعظة شهر الورود. وإن أعرضت عن ذلك الثوب الشفاف الساحر واستبدلته بهذا الشبيه بثوب أبينا الواعظ لكثافته فما سببه إلا موعظة شهر الورود. وإن غادرتكم الآن فما ذلك إلا لأني أريد أسمع موعظة شهر الورود مرة أخرى: على المرأة أن تكون وردة تحيط بها الأشواك.
الحركة بركة
1916
شكا الناس هذا العام وما فيه من كثرة الجلبة في ميادين القتال وقلة الحركة في ميادين الأعمال. قال بعضهم إن مصر فارغة في هذه الشهور فراغ جيب البخيل. وقال آخرون إن جيب البخيل لا تفرغ إن كانت يده لا تمتلئ؛ فسعى بالصلح جماعة أرضوا الفريقين بقولهم: «بل قد تكون جيب البخيل ويده ملآنين ولكن عينه تبقى فارغة.»
هؤلاء الناس سفسطائيون لا يعرفون شيئا. أيها القارئ، لا بد أن أسميك اليوم لبيبا؛ إذ لدي من الأقوال ما أود أن تقبله بلا اعتراض، وأن تضحك له لا منه، لهذا لا بد أن تكون لبيبا، فإذا كان دولاب الأشغال (كما يقول الاختصاصيون) قد أكله الصدأ، وما كثر في هذه الأيام من العمال إلا العاطلون فلا تظن الحالة موجبة لليأس. صحيح أن البورصة تحزن السماسرة بعض الحزن؛ لأنها عنيدة تأمل الطلوع، لكني أعترف لك سرا بأنها مصيبة، فليست الأيام أيام طلوع، وكل مرتفع معرض للمقذوفات. إنما الزمان زمان خنادق. حفرت البورصة لنفسها خندقا ملائما للأحوال ونزلت فيه صامتة.
غير أني أكرر أن الحالة لا توجب اليأس؛ لأن اللصوص قوم أذكياء، إذا هدأت الحركات غلت حركاتهم وتنوعت، يتهادون بين المنازل والدكاكين تهادي ربات الجمال وذوات الحجال، يسيرون من باب إلى باب، ومن مستودعات الجواهر إلى مستودعات الأموال، بخفة وهدوء لئلا يقلقوا راحة النائمين. الأدب حسن في كل حين، واللصوص جماعة «جنتلمن».
Página desconocida