43

ولفت إلى يوري وجهه الدميم الغائر العينين اللامعهما: «كل شيء يحيا. أما أنا فلا بد أن أموت. وإني على يقين من أن هذا الكلام لا يقع من نفسك إلا موقع القول المبتذل - لا بد أن أموت - ولكني لم أقتبسه من رواية ولا أخذته من كتاب يطالعك أسلوبه بصدق الفن وبراعة التصوير، إني حقيقة سأموت، وهذه الألفاظ في مسمعي غير مبتذلة. وستكف يوما عن حسبانها كذلك. إني أموت ... أموت وسيقضى الأمر.»

وسعل سمينوف مرة أخرى وقال: «وكثيرا ما يخطر لي أن الظلام سيشتمل علي بعد قليل وإني سأدفن في الأرض الباردة، وأن أنفي سيغور في وجهي وتتعفن يداي، على حين يبقى كل شيء في الدنيا كما هو الآن، إذ أمشي على طهرها حيا، وستكون حيا وتستنشق النسيم وتسبح في ضوء القمر وتمر بالقبر الذي يضم عظامي النخرة الشنيعة البلى. ماذا تظنني أعبأ ببيل أو تولستوي أو بمليون آخر من هذه القرود الهاذرة.»

وكان يوري أشد اكتئابا من أن يسعه أن يرد.

ثم قال سمينوف بصوت ضعيف خافت: «عم مساء فسأدخل البيت.»

فهز يوري يده وأدركه العطف الشديد على هذا الرجل الخاوي الصدر، المستدير الكتفين، ذي العصا العوجاء المتدلية من عروة معطفه، وكان بوده لو استطاع أن يعزيه وأن يبعث فيه الأمل. ولكنه أحس أن هذا مستحيل فلم يزد على: «عم مساء.» وتنهد.

ورفع سمينوف قبعته وفتح الباب وتضاءل وقع قدمه، وخفت صوت سعاله ثم عاد كل شيء ساكنا.

ورجع يوري يستقبل من طريقه ما استدبر وقد ماتت الدنيا في عينه - مات كل ما كان منذ نصف ساعة فقط، وضيئا جميلا ساكنا - ضوء القمر ونجوم السماء والأشجار الفضية الروعة والظلال الغريبة - وطالعه من كل هاتيك برد القبر وفظاعته وهوله.

ولما بلغ البيت قصد إلى غرفته وفتح النافذة المطلة على الحديقة، فجرى بذهنه لأول مرة في حياته: أن كل ما استغرق حواسه ومدراكه وأظهر في سبيله من الحماسة والإيثار ما أظهر، ليس في الواقع بالمهم ولا بالصواب. وإذا رفف الموت فوقه يوما مثل سمينوف فلن يقطع قلبه الأسف على أن جهوده لم تزد الناس سعادة ولن يحزنه أن مثله العليا لم تتحقق. وإنما يكون حزنه لأنه سيموت ويحرم النظر والاحساس والسمع قبل أن يتاح له أن يذوق كل مسرات الحياة ولذاتها.

ولكن هذا الخاطر أخجله فنحاه عن فكره وأخذ ينشد تعليل ذلك.

الحياة جهاد «نعم ولكن جهاد في سبيل من، إن لم يكن في سبيل الذات، ومكان المرء تحت الشمس؟»

Página desconocida