المؤلف
الفصل الأول
لم يقض فلاديمير سانين أهم أدوار حياته في بيته بين أبويه، وهو الدور الذي يتكون فيه خلق المرء بالاتصال بالعالم والامتزاج بالناس. ولم يكن له من يتعهده أو يهديه، فتفتحت روحه كما ينمو الغراس في أتم حرية وأكمل استقلال.
غاب عن بيته سنين، فلما آب كادت تنكره أمه وأخته «ليدا» ولم تكن معارف وجهه وصوته وشمائله قد تغيرت إلا قليلا. ولكن شيئا غريبا جديدا ناضجا حدث على شخصيته فأجال في محياه ضوءا وأكسبه معنى لم يسبق بهما العهد. وكانت أوبته مساء فدخل الغرفة دخول من زايلها منذ خمس دقائق. وكان يعييك أن تلمح في وجهه الساكن - أو أن تستكنه من ركني فمه الناطق ببعض السخر - شيئا من أمارات الإعياء أو دلائل تحرك النفس وهو واقف في الغرفة مديد القامة وسيم الطلعة عريض الكتفين، فقرت ضجة التحية التي استقبلته بها أمه وأخته من تلقاء نفسها.
وجلس يأكل ويترشف الشاي وأخته قبالته تحدجه بنظرها وكانت مشغوفة به شأن مثيلاتها - أو جلهن - من الفتيات الجامحات الخيال في الولولع بإخوانهن النائين عنهن. وكانت أبدا تتمثله شخصا غريبا بالغا من غرابة الأمر مبلغ من تقرأ عنهم في الكتب، وتتصور حياته في دائرة الأرجاء بشتى الفواجع والمآسي. وتحسب أن حظه من العيش الشجي والوحدة ككل روح ضخمة مستعجمة.
فقال لها سانين وهو يبتسم: «لماذا ترميني بهذه النظرة؟»
وكانت هذه الابتسامة الهادئة والنظرة الفاحصة مألوف ما يطالعك من وجهه، ولكن العجيب أنهما لم يقعا من «ليدا» موقع الارتياح، وكأنما خيل إليها أن فيهما معنى الرضى عن النفس، وأنهما لا ينمان عن شيء من الصراع والألم الباطن، فصرفت وجهها عنه ولم تنبس، ثم جعلت غير عامدة تقلب صفحات كتاب.
ولما قضوا من الطعام والشراب حاجتهم مسحت أمه شعر رأسه في حدب وحنو وقالت: «والآن حدثنا عن حياتك وما صنعت هناك.»
فقال سانين وهو يضحك: «ما صنعت؟ لقد أكلت وشربت ونمت وكنت حينا أعمل، وحينا آخر لا أعمل شيئا!»
فجرى في وهمهما بادئ الرأي أنه لا يريد أن يحدثهما عن نفسه، ولكن أمه لما شرعت تسأله عن هذا الأمر بعينه أو ذاك ألفته يرتاح إلى قص تجاريبه. غير أن المرء لم يكن يسعه إلا أن يحس - لأمر ما - أنه لا يعبأ شيئا بما يكون لقصصه من الوقع والأثر في نفوس سامعيها. ولم يكن في شمائله - على دماثتها ورقة حواشيها - ما ينم على تلك الألفة التي لا تكون إلا بين أهل الأسرة الواحدة. وكأنما كان لطفه ودماثته من عفو الطبيعة كالمصباح يريق ضوءه على كل شيء بلا تمييز.
Página desconocida