ثمة حدث واحد لا يقع إلا لأقلية صغيرة من النجوم في مسار حياة الرقص التي تعيشها، يتمتع بأهمية نفسية كبيرة على ما يبدو. وهو يتمثل في الاقتراب الشديد لنجمين أو ربما ثلاثة بعضها من بعض، وما يتبع ذلك من قذف للشرر من أحدها تجاه الآخر. في هذه اللحظة الشبيهة ب «قبلة الفراشة» هذه، وقبل تفكك الشرر وميلاد الكواكب، فإن كل نجم يختبر على الأرجح شعورا بانتشاء مادي شديد القوة لكن يعجز البشر عن فهمه. ويبدو أن النجوم التي تمر بهذه التجربة يفترض أنها تكتسب إدراكا واضحا بدرجة فريدة لاتحاد الروح والجسد. أما النجوم «البكر» فبالرغم من أنها لم تنعم بهذه المغامرة الرائعة، فلا يبدو أنها ترغب في الإخلال بقوانين الرقص المقدسة من أجل تدبير فرص لمثل هذه اللقاءات. كل منها يتمتع برضا ملائكي فيما يتعلق بأداء دوره المخصص، ومشاهدة انتشاء هذه النجوم التي فضلها القدر. لا شك بأن وصف عقلية النجوم هو وصف ما لا يمكن فهمه باستخدام الاستعارات البشرية التي يمكن فهمها لكنها تزيف الحقيقة. وتتخذ هذه النزعة أهمية كبيرة في وصف العلاقات الدرامية بين النجوم وبين العوالم العاقلة؛ إذ يبدو أنه تحت تأثير هذه العلاقات، اختبرت النجوم للمرة الأولى مشاعر تشبه المشاعر البشرية على نحو سطحي. وما دام المجتمع النجمي كان محصنا من تدخل العوالم العاقلة، ظل كل فرد فيه يتصرف باستقامة تامة ويحظى بنعيم تام في التعبير المثالي عن طبيعته وعن الروح المشتركة. حتى الشيخوخة والموت كانا يقبلان بهدوء؛ إذ كانت جميع النجوم ترى أنهما جوهريان في نمط الوجود، وما كان يرغب فيه كل نجم، لم يكن الخلود لا لنفسه ولا للمجتمع، بل التحقق المثالي للطبيعة النجمية. غير أنه في النهاية حين بدأت العوالم العاقلة من كواكبها في أن تتدخل على نحو ملحوظ في طاقة النجوم وحركتها، دخل على الأرجح إلى خبرات النجوم شيء جديد وفظيع وعلى درجة كبيرة من الإبهام والتعقيد. وجدت النجوم المصابة نفسها في صراع عقلي مشتت. فلسبب لم تستطع تحديده وجدت نفسها تخطئ، بل وجدت أنها ترغب في أن تخطئ. لقد أذنبت في واقع الأمر. وبالرغم من أنها كانت ما تزال تعشق الصواب، كانت تختار الخطأ.
قلت إن الخطب لم يكن مسبوقا، غير أن ذلك ليس صحيحا تماما. يبدو أن شيئا لا يختلف كليا عن ذلك الخزي العام قد حدث في الخبرة الخصوصية تقريبا لكل نجم من النجوم. غير أن كل من كان يعاني قد نجح في الاحتفاظ بخزيه سرا إلى أن يصبح محتملا مع الاعتياد أو ينجح النجم في التغلب على مصدره. وقد كان من المدهش بالطبع أن نجد كائنات تختلف طبيعتها للغاية في العديد من الجوانب عن الطبيعة البشرية ولا يمكن فهمها، تشبه «البشر» بدرجة صارخة في هذا الجانب على الأقل.
في الطبقات الخارجية للنجوم الصغيرة السن، دائما ما تظهر كائنات دقيقة مستقلة من النيران، وهي لا تظهر على النحو المعتاد فحسب، بل تظهر أيضا على شكل طفيليات. ولا يزيد حجم هذه الكائنات في معظم الأحيان عن حجم غيمة في الهواء الأرضي، لكنها تبلغ حجم الأرض نفسها في بعض الأحيان. تتغذى هذه «السمادل» على الطاقات المتدفقة من النجم مثلما تتغذى عليها أنسجة النجم الأساسية نفسها، أو تتغذى ببساطة على هذه الأنسجة مباشرة. وككل مكان آخر، تنطبق قوانين التطور البيولوجي هنا أيضا، وقد تظهر بمرور الوقت سلالات من الكائنات الذكية الشبيهة باللهب. وحتى مع عدم وصول الحياة السمدلية إلى هذا المستوى، كان من الممكن أن يبدو أثرها على أنسجة النجم على هيئة مرض في البشرة وأعضاء الحس أو حتى في الأنسجة الأعمق خاصتها. يبدأ النجم بعد ذلك في اختبار مشاعر لا تختلف عن المشاعر البشرية من الخزي والذعر، وبقلق وصبغة شديدة الشبه بالطبيعة البشرية، يخفي سره عن المتناول التخاطري لرفاقه.
لم تتمكن السلالات السمدلية على الإطلاق من سيادة عوالمها المتقدة باللهب. إن العديد منها كان يخضع بعد وقت طال أو قصر إما إلى كارثة طبيعية أو إلى صراع داخلي ضروس أو إلى أنشطة التطهير الذاتي التي يقوم بها مضيفها القوي. على الجانب الآخر، كان ينجو البعض منها، لكن يتسبب في حالة أقل خطرا نسبيا؛ فلا يزعج النجوم إلا بتهيج خفيف ومسحة طفيفة من عدم الصدق في جميع تعاملاتها بعضها مع بعض. كانت الثقافة العامة للنجوم تتجاهل الآفة السمدلية تماما. لقد كان كل نجم يعتقد أنه هو وحده من يعاني وأنه الآثم الوحيد في المجرة. وقد كان للآفة تأثير واحد غير مباشر على التفكير النجمي، وهو أنها قدمت له فكرة النقاء؛ فقد صار كل نجم يعلي من قيمة مثالية المجتمع النجمي بدرجة أكبر بسبب شعوره السري بعدم النقاء.
حين بدأت الكواكب العاقلة تتلاعب بالطاقة النجمية وبالمدارات النجمية على نحو خطير، لم تكن النتيجة خزيا خاصا، بل فضيحة علنية. لقد صار من الواضح لدى جميع الملاحظين أن الجاني قد انتهك قوانين الرقص. قوبلت الاضطرابات الأولى بالارتباك والرعب. وانتشر بين جموع النجوم البكر أنه إذا كانت نتيجة الصلات بين النجوم، والتي هي مقدرة بشدة والتي انبثقت منها الكواكب الطبيعية، هي هذا الشذوذ المخزي، فربما كانت التجربة الأصلية نفسها آثمة إذن. اعترضت النجوم المخطئة بأنها ليست آثمة وإنما ضحية لتأثير مجهول من الحبات التي تدور حولها. غير أنها كانت تشك بنفسها سرا. أيمكن أن تكون منذ زمن بعيد، في نشوة اجتياح نجم لنجم آخر، قد انتهكت في نهاية الأمر قانون الرقص؟ وقد اعتقدت أيضا أنها كانت تستطيع أن تفعل شيئا بخصوص هذه الانحرافات التي كانت تخلق الآن هذه الفضيحة العلنية، كانت تستطيع إذا أصرت على رغبتها بالدرجة الكافية، أن تتمالك نفسها وتحافظ على مساراتها الحقيقية بالرغم من المهيجات التي أثرت فيها.
في هذه الأثناء، زادت قوة العوالم العاقلة. وراحت بجرأة توجه الشموس لتناسب أغراضها. وقد بدا للشعب النجمي بالطبع أن هذه النجوم المخطئة مجاذيب خطرين. حلت الأزمة مثلما قلت بالفعل، حين قذفت العوالم بأول رسول لها باتجاه المجرة المجاورة. ارتعب النجم المندفع من سلوكه الجنوني؛ فانتقم بالطريقة الوحيدة التي يعرفها. لقد انفجر إلى حالة «المستعر» ونجح في تدمير كواكبه. من وجهة النظر النجمية التقليدية، كان هذا التصرف إثما عظيما؛ إذ كان تدخلا أثيما في النظام الإلهي المعد لحياة النجوم. بالرغم من ذلك، فقد كان يحقق الغاية المطلوبة، وسرعان ما تبنته النجوم اليائسة الأخرى. أتى من بعد ذلك عصر الهلع الذي قد وصفته من قبل من وجهة نظر اتحاد العوالم. ولم يكن الأمر بأقل بشاعة من وجهة النظر النجمية؛ فسرعان ما صارت حالة المجتمع النجمي ميئوسا منها. لقد ضاع ما كان في الأيام الخوالي من مثالية وسعادة. وتفككت «مدينة الإله» وتحولت إلى مكان للكراهية وتبادل الاتهامات واليأس. وصارت حشود النجوم الحديثة السن أقزاما مبتسرة حانقة، بينما أصيب معظم الكبار بالخرف. تحول نمط الرقص إلى الفوضى. ظل الشغف القديم تجاه قوانين الرقص موجودا، غير أن مفهومها كان ضبابيا. أذعنت لحياة الروحانية إلى الضرورة المتمثلة في الإجراءات العاجلة. ظل الشغف بتكوين رؤى بشأن طبيعة الكون قائما أيضا، غير أن الرؤى نفسها قد صارت ضبابية. علاوة على ذلك، تلاشى الشعور الساذج السابق بالثقة الذي كان يشعر به الصغار والناضجون على حد سواء، ذلك اليقين بأن الكون مثالي وأن القوة التي تكمن خلفه هي قوة فاضلة، وحل محله اليأس. (4) التكافل المجري
كانت تلك هي حالة الأمور حين حاولت العوالم العاقلة للمرة الأولى أن تقوم باتصال تخاطري مع النجوم العاقلة. ولست في حاجة لأن أروي المراحل التي تطور مجرد الاتصال من خلالها إلى نوع متزعزع وواه من التواصل. لا بد أن النجوم قد بدأت تدرك بمرور الوقت أنها ليست في مواجهة مع قوى فيزيائية فحسب، ولا هي في مواجهة مع شياطين بعد، بل هي في مواجهة مع كائنات، بالرغم مما يكمن في طبيعتها من غرابة شديدة، تتشابه في صميمها مع طبيعتها النجمية. شعر بحثنا التخاطري على نحو غامض بالدهشة التي انتشرت بين الشعب النجمي. وبدا أنه انبثق منها تدريجيا رأيان أو سياستان أو حزبان.
كان أحد هذين الحزبين مقتنعا بأن الكواكب العاقلة مخادعة بالتأكيد، وأن الكائنات التي يتجسد تاريخها في الإثم والصراع والقتل لا بد وأن تكون شيطانية الجوهر، وأن التفاوض معها سيؤدي إلى كارثة. وقد حث هذا الحزب والذي كان يمثل الأغلبية في البداية، على مواصلة الحرب إلى أن يتم تدمير كل الكواكب.
أما الحزب الذي كان يمثل الأقلية فقد كان يطالب بالسلام. وأكد أن الكواكب كانت تسعى بطريقتها الخاصة إلى الهدف نفسه الذي تسعى إليه النجوم. لقد اقترح أيضا أن هذه الكائنات الدقيقة بخبرتها الأكثر تنوعا وطول عهدها في التعامل مع الشر، يمكن أن تتمتع ببعض الرؤى التي تفتقر إليها النجوم، تلك الملائكة الساقطة. ألا يمكن أن يخلق هذان النوعان من الكائنات معا مجتمعا تكافليا مجيدا، ويحققا معا تلك الغاية الأعز لديهما، وهي اليقظة الكاملة للروح؟ مر وقت طويل إلى أن استمعت الأغلبية إلى هذا الرأي. استمر الدمار وأهدرت الطاقات الثمينة الموجودة في المجرة. ودمرت أنظمة العوالم الواحد تلو الآخر. سقط النجم تلو الآخر في هوة الفناء والسبات. في هذه الأثناء، تبنى اتحاد العوالم موقفا سلميا؛ فما عاد يستغل الطاقة النجمية أو يغير المدارات النجمية أو يفجر النجوم على نحو اصطناعي.
بدأ الرأي النجمي في التغير. هدأت حملة الإبادة وتم التخلي عنها. تلا ذلك فترة من «الانعزالية» تركت فيها النجوم، التي قد عزمت على جمع شتات مجتمعها المبعثر، أعداءها السابقين بمفردهم. وتدريجيا، بدأت محاولة تدريجية للمؤاخاة بين الكواكب وشموسها. وبالرغم من أن كلا النوعين من الكائنات كان كل منهما مختلفا للغاية عن الآخر، حتى إنهما لم يتمكنا من فهم السمات المميزة لكل منهما على الإطلاق؛ فقد كانا يتمتعان بدرجة عالية من صفاء الوعي تقيهما من الانخراط في العواطف القبلية المحضة. لقد قررا التغلب على جميع المعوقات وأن يدخلا إلى نوع جديد من الاتحاد. وسرعان ما أصبحت رغبة كل نجم هي أن يطوق بالكواكب الاصطناعية وأن يدخل في نوع من شراكة «الاتحاد النفسي» مع رفاقه الذين يطوقونه؛ إذ كان قد اتضح الآن للنجوم أن «الآفات» كان لديها الكثير الذي يمكن أن تعطيه إياها. كانت خبرة كل من نوعي الكائنات مكملة لخبرة الآخر من نواح عديدة. كانت النجوم ما تزال تحتفظ بفحوى الحكمة الملائكية التي بلغتها في عصرها الذهبي. في حين برعت الكواكب في الجانب التحليلي والمجهري وفي الإحسان الذي اكتسبته من معرفتها بأسلافها الضعاف الذين اختبروا المعاناة. علاوة على ذلك، كانت النجوم في أشد حالات الحيرة من قدرة رفاقها الضئيلة على أن يتقبلوا كونا من الواضح أنه ممتلئ بالشر، ليس باستسلام فحسب، بل ببهجة أيضا.
Página desconocida