في وقت زيارتنا، كان الصراع العالمي ينشب بالفعل بين الحزبين في كل منطقة من مناطق الكوكب. كان دعاة الفردانية أقوى في أحد نصفي الكوكب، ويذبحون جميع المؤيدين لمبدأ العقل العالمي، ويحشدون قواهم للهجوم على النصف الآخر. في النصف الآخر، كان يسود حزب العقل العالمي لا بالأسلحة، بل بقصف لأمواج الراديو، إن صح التعبير. لقد كان نمط التموجات الأثيرية الصادرة من الحزب يفرض نفسه بالقوة المحضة على جميع المتمردين؛ فكان جميع الثوار يتعرضون إلى التلف الذهني من خلال القصف بأمواج الراديو أو يمتصهم كما هم نظام الراديو المشترك. كانت الحرب التي تلت ذلك مدهشة للغاية بالنسبة إلينا؛ فقد استخدم دعاة الفردانية المدفعية والغاز السام، بينما كان حزب العقل العالمي يستخدم هذه الأسلحة بوتيرة أقل كثيرا من استخدامه للراديو، والذي كان هو دونا عن عدوه، يستطيع تشغيله لإحراز نتائج لا يمكن مقاومتها. لقد كان نظام الراديو يتمتع بدرجة كبيرة من التعزيز والتكيف على الاستجابة الفيسيولوجية للوحدات الطائرة؛ فقبل أن يتمكن دعاة الفردانية من إحداث أي ضرر فادح، كانوا يجدون أنفسهم قد انجرفوا، إن جاز التعبير، إلى فيض غامر من أمواج الراديو المحفزة، وتتلاشى فردانيتهم. أما الوحدات الطائرة التي تؤلف أجسادهم المركبة، فقد كانت تدمر، إذا كانت متخصصة في الحرب، أو يعاد تنظيمها إلى غيوم جديدة تنتمي بولائها إلى العقل العالمي.
وبعد هزيمة دعاة الفردانية بفترة قصيرة، فقدنا التواصل مع هذه السلالة، ولم نتمكن على الإطلاق من استيعاب خبرات مجتمع العقل العالمي الناشئ ولا مشكلاته الاجتماعية، ولم نستعد التواصل معها ثانية إلا في مرحلة متأخرة للغاية من مغامرتنا.
بعض العوالم الأخرى التي كانت تسكنها سلالات من غيوم الطيور كانت أقل حظا؛ فقد انتهى معظمها لسبب أو لآخر. لقد جلبت الضغوطات المتعلقة بالحياة الصناعية أو القلاقل الاجتماعية في العديد منها وباء من الجنون، وكانت تؤدي أحيانا إلى تفكك الفرد إلى مجموعة من الطيور ذات الاستجابات اللاإرادية فحسب. وهذه الكائنات الصغيرة البائسة التي لم تكن تمتلك القدرة على التصرف على نحو مستقل ذكي، كانت تقتل جماعات بفعل القوى الطبيعية والمفترسات. وبعد فترة قصيرة، أصبح المجال خاليا أمام نوع من الديدان أو الأميبا كي تدشن من جديد تلك المغامرة الكبرى للتطور البيولوجي تجاه المستوى البشري.
في مسار استكشافنا، أتينا أيضا على بعض الأنواع الأخرى من الأفراد المركبة. لقد وجدنا على سبيل المثال أن الكواكب الضخمة الجافة للغاية كانت تسكنها في بعض الأحيان شعوب من كائنات شبيهة بالحشرات كان كل لفيف من أعشاشها يمثل جسدا متعددا لعقل واحد. كانت هذه الكواكب ضخمة للغاية حتى إنه لم يكن من الممكن لأي كائن متنقل أن يزيد حجمه عن الخنفساء، ولم يكن لأي طائر أن يزيد حجمه عن النملة. في هذه الحشود الذكية التي كانت تفي بدور البشر في هذه العوالم، كانت الأدمغة المجهرية التي تتمتع بها الوحدات الشبيهة بالحشرات مختصة بالوظائف المجهرية داخل المجموعة، مثلما يتخصص الأفراد في أعشاش النمل في العمل أو القتال أو التكاثر وغير ذلك. كانت الوحدات جميعها متحركة، غير أن كل طائفة منها كانت تؤدي وظائف «عصبية» محددة في حياة المجموع. لقد كانت في واقع الأمر أشبه بأنواع مميزة من الخلايا في جهاز عصبي.
في هذه العوالم، مثلما كانت الحال في عوالم غيوم الطيور، كان علينا أن نهيئ أنفسنا على الوعي الموحد لحشد ضخم من الوحدات. وبعدد لا يحصى من الأقدام المسرعة، زحفنا على الممرات الخرسانية المتناهية الصغر، وبعدد لا يحصى من قرون الاستشعار المخصصة للتناول، شاركنا في العمليات الصناعية أو الزراعية الدقيقة، وفي إبحار السفن الصغيرة التي لا يزيد حجمها عن حجم الدمى في القنوات والبحيرات الموجودة في هذه العوالم المسطحة. ومن خلال عدد لا يحصى من العيون المركبة، شاهدنا سهول النباتات الشبيهة بالطحالب، أو درسنا النجوم بالتلسكوبات الدقيقة أو التلسكوبات الطيفية.
لقد كانت حياة الحشد العاقل منظمة على نحو مثالي حتى إن جميع الأنشطة الاعتيادية في الصناعة والزراعة قد أصبحت تؤدى على مستوى اللاوعي بالنسبة إلى العقل، كعملية الهضم مثلا بالنسبة إلى الإنسان. لقد كانت الوحدات الحشرية الصغيرة نفسها تؤدي هذه الأنشطة على نحو واع وإن لم تكن تفهم دلالتها، أما عقل الحشد فلم يعد يتمتع بالقدرة على الاعتناء بها. لقد كان اهتمامه ينصب على نحو شبه كامل على الأنشطة المتعلقة بالتحكم الواعي الموحد، وكان معنيا في واقع الأمر بالابتكار العملي والنظري من جميع الأنواع وبالاستكشاف المادي والذهني أيضا.
في وقت زيارتنا لأبرز هذه العوالم الحشرية كانت الجماعة السكانية تتألف من أمم عديدة عظيمة من الحشود. وكان لكل حشد فردي منها عشه الخاص، ومدينته المتناهية الصغر وهي منطقة تبلغ مساحتها قرابة الفدان أرضيتها منخربة بالغرف والممرات على عمق قدمين. وكانت المنطقة المحيطة بها تخصص لزراعة الغذاء النباتي الشبيه بالطحالب. ومع زيادة حجم الحشد، كان يمكن في بعض الأحيان تأسيس مستعمرات خارج نطاق نظام الراديو الفيسيولوجي للحشد الأصلي؛ ومن ثم تظهر مجموعات فردية جديدة. بالرغم من ذلك، فلم نجد في هذه السلالة ولا في سلالة غيوم الطيور، أي شيء مماثل للأجيال المتتابعة من العقول الفردية التي نجدها في عوالمنا. فداخل المجموعة العاقلة، كانت الوحدات الحشرية تموت باستمرار، وتحل محلها مجموعات جديدة، غير أن عقل المجموعة كان خالدا على الأرجح. كانت الوحدات يخلف بعضها بعضا، أما ذات المجموعة فكانت تبقى، وتصل ذاكرتها بعيدا في الماضي إلى أجيال لا تحصى من الوحدات، وتخبو وهي تعود إلى الوراء إلى أن تضيع في ذلك الزمن السحيق حين كان «النوع البشري» ينبثق من «النوع دون البشري»؛ ومن ثم فلم تحتفظ الحشود المتحضرة من جميع الفترات التاريخية السابقة إلا بذكريات مبهمة ومتجزئة.
حولت الحضارة الجحور القديمة الفوضوية إلى مدن تحت أرضية مخططة بعناية، وحولت قنوات الري القديمة إلى شبكة واسعة من الطرق المائية لنقل البضائع من منطقة إلى أخرى، وقدمت القوة الميكانيكية من خلال احتراق الخضراوات والمواد، وصهرت المعادن من النتوءات الصخرية والرواسب الطميية، وقدمت أيضا ذلك النسيج الاستثنائي من الآلات الدقيقة التي تكاد تكون مجهرية الحجم، والتي حسنت كثيرا من مستويات الراحة والصحة في المناطق الأكثر تقدما، وقدمت أيضا أشكالا متنوعة من المركبات الشبيهة بجراراتنا وقطاراتنا وسفننا، كما أنها قد خلقت أيضا ذلك الفارق الطبقي بين المجموعات التي ظلت تعتمد على الزراعة بصفة أساسية وبين المجموعات التي كانت تعتمد على الصناعة بصفة أساسية، وتلك المجموعات التي تخصصت في التنظيم الذكي لأنشطة البلد. وهذه الفئة الأخيرة هي التي أصبحت بمرور الوقت الفئة البيروقراطية الاستبدادية في البلد. ونظرا لضخامة حجم الكوكب، والصعوبة الشديدة للسفر على مسافات طويلة بالنسبة إلى كائنات في مثل هذا الحجم الصغير الذي كانت عليه الوحدات الحشرية؛ فقد تطورت الحضارات بصورة مستقلة في عدد من المناطق المنعزلة، وحين تمكنت أخيرا من التواصل معا، كان العديد من هذه الحضارات قد بلغ مرحلة متقدمة للغاية في التصنيع بالفعل ويمتلك «أحدث» الأسلحة. ويمكن للقارئ أن يتخيل بسهولة ما حدث حين تكون هناك سلالات ذات أصل بيولوجي مختلف في معظم الأحوال، ويختلف بعضها عن بعض كل الاختلاف في العادات والأفكار والمبادئ، ثم تجد نفسها فجأة على تواصل ونزاع. سيكون من المضجر للغاية أن أصف جنون الحرب التي تلت. بالرغم من ذلك، من المهم أن أذكر أننا، نحن الزائرين التخاطريين الذين أتينا من مناطق بعيدة للغاية في الزمان والمكان، كنا نستطيع التواصل مع هؤلاء المضيفين المتحاربين بسهولة تفوق سهولة التواصل بين مضيف وآخر. ومن خلال هذه القدرة، تمكنا بالفعل من القيام بدور مهم في تاريخ هذا العالم. قد يكون من المحتمل فعلا أن وساطتنا هي التي أنقذت هذه السلالات من التدمير المتبادل. فبعد أن أخذنا مواضعنا في العقول «الرئيسية» في طرفي الصراع، عملنا بصبر على تحفيز بعض الرؤى المتعلقة بعقلية العدو في عقول مضيفينا. ونظرا لأن هذه السلالات قد تجاوزت بالفعل مستوى الاجتماعية التي نعرفها على الأرض؛ وكان عقل الحشد قادرا على الاتحاد الحقيقي حينما يتعلق الأمر بحياة سلالته، كان إدراكه لحقيقة أن العدو ليس همجيا بل إنسانا في جوهره كافيا للقضاء على الرغبة في القتال.
راحت العقول «الرئيسية » التي أنارتها «الرسل الإلهية» تعظ بالسلام على نحو بطولي. وبالرغم من أن العديد منها قد استشهد بسرعة، فقد انتصرت قضيتها. توصلت السلالات إلى صلح فيما بينها خلا شعبين ضخمين ومتأخرين ثقافيا بعض الشيء. لم نستطع أن نقنع هاتين السلالتين، ولأنهما كانتا قد أصبحتا بحلول ذلك الوقت متخصصتين بشدة في الحرب، فقد كانتا تشكلان تهديدا خطيرا للغاية. كانتا تنظران إلى روح السلام الجديدة على أنها نقطة ضعف فحسب من جانب العدو، وعزمتا على استغلالها وغزو بقية ذلك العالم. غير أننا قد شهدنا في ذلك الوقت من الإثارة ما يصعب على الإنسان الأرضي تصديقه بكل تأكيد، والتي كانت ممكنة في هذا العالم فحسب بسبب تلك الدرجة العالية من الصفاء الذهني، والتي كانت موجودة بالفعل لدى كل سلالة من هذه السلالات. تحلت السلالات المسالمة بالشجاعة لنزع السلاح؛ فدمرت ما لديها من أسلحة ومصانع ذخيرة بأكثر الطرق روعة ووضوحا. وقد حرصت أيضا على أن تشهد حشود العدو التي أسرت لديها هذه الأحداث. وبعد ذلك، حررت هؤلاء الأسرى، وطلبت منهم سرد تجاربهم معها للعدو. وقد جاء رد العدو على ذلك متمثلا في غزو أقرب البلاد المنزوعة السلاح، وشرع في فرض الثقافة العسكرية عليها بعنف من خلال الدعاية والاضطهاد. بالرغم من ذلك، فمع حالات الإعدام والتعذيب الجماعية، لم تحصل هاتان السلالتان على النتيجة المتوقعة؛ فبالرغم من أن السلالتين المستبدتين لم تكونا أكثر تطورا من الإنسان الأرضي في النزعة الاجتماعية على نحو ملحوظ، كانت الضحايا أكثر تفوقا بكثير. لم يؤد القمع إلى شيء سوى أن عزز من إرادة المقاومة السلبية. وشيئا فشيئا، بدأ الاستبداد يضعف، ثم انهار فجأة. انسحب الغزاة آخذين معهم عدوى السلمية. وفي غضون وقت قصير للغاية، أصبح ذلك العالم اتحادا فيدراليا واحدا ينتمي أعضاؤه إلى أنواع مختلفة.
وبحزن أدركت أنه بالرغم من أن جميع الكائنات المتحضرة على الأرض تنتمي إلى النوع البيولوجي نفسه، فحدوث تلك النتيجة السعيدة للصراع أمر مستحيل؛ وذلك ببساطة لأن القدرة على تشكل الاتحاد في عقل الفرد ما تزال ضعيفة للغاية . وتساءلت أيضا ما إذا كانت السلالات الحشرية الطاغية كانت ستحظى بنجاح أكبر في فرض ثقافتها على البلاد التي غزتها إن كان هناك جيل مميز من الحشود الناشئة الطيعة التي يمكن أن تسيطر عليه.
Página desconocida