مع تقدم الصناعة، وزيادة الحاجة إلى إمدادات كبيرة من العمالة الرخيصة، وانتشار الأفكار العلمية وضعف الدين، جاء الاكتشاف الصادم بأن أطفال الميسرة من الطائفتين إذا تلقوا التنشئة على أنهم من العمال، فلن يكون بينهم أي اختلاف من الناحيتين الجسدية والذهنية عن العمال. ومع حاجة أقطاب الصناعة إلى عدد كبير من العمالة الرخيصة، فقد أبدوا الآن سخطهم الأخلاقي بشأن طقس التضحية بالأطفال، محرضين على تربية الفائض من أطفال الميسرة ليصبحوا من العمال رحمة بهم. وبعد فترة قصيرة، زعم عدد من العلماء المضللين بأنهم قد توصلوا إلى الاكتشاف الأكثر تدميرا والقائل بأنه عند تنشئة أطفال الميمنة على أنهم من الأسياد، فإنهم يطورون الهيئة الرشيقة والأشرعة الكبيرة والتكوين الدقيق الحساس، والعقلية الأرستقراطية التي تتمتع بها طائفة الأسياد. حاول الأسياد منع هذه الأنباء من الانتشار إلى العمال، غير أن عددا من أفراد طائفتهم الشاعريين قد أفشوها إلى الخارج، وبشروا بنظام مستحدث ومحرض من المساواة الاجتماعية.
خلال زيارتنا، كان العالم في حالة مريعة من الارتباك. في المحيطات المتأخرة، ظل النظام القديم مسلما به، أما المناطق المتقدمة من الكوكب، فقد نشب فيها كلها نضال مستميت. في أحد الأرخبيلات الكبيرة، منحت إحدى الثورات الاجتماعية السلطة إلى العمال، وقام منها نظام ديكتاتوري متفان بالرغم من قسوته، يحاول تخطيط حياة المجتمع بحيث يصبح الجيل التالي متجانسا من نوع جديد يجمع بين الصفات المرغوبة في العمال والأسياد. وفي مكان آخر، تمكن الأسياد من إقناع العمال بأن الأفكار الجديدة خاطئة ووضيعة وسوف تؤدي حتما إلى الفقر والشقاء في العالم. وقد نجحوا بمهارة في استمالة الشك المبهم لكن المتزايد بأن «العلم المادي» مضلل وسطحي ، وأن الحضارة الآلية تسحق السمات الروحانية للسلالة. ونشرت الدعاية البارعة تصورا لدولة مشتركة تتكون من «جانبي الميمنة والميسرة» ويربط بينهما ديكتاتور شعبوي، والذي قيل إنه سينال السلطة «بالحق الإلهي وبإرادة الشعب».
لا ينبغي بي أن أتوقف كي أحكي عن الصراع المستميت الذي اندلع بين هذين النوعين من التنظيم الاجتماعي. وفي تلك الحملات العالمية، تدفقت العديد من الموانئ وتيارات المحيطات حمراء من أثر المذابح. وتحت وطأة حرب تؤدي إلى الموت، تحطم كل ما كان فاضلا، وتحطمت كل مظاهر الإنسانية والرقة لدى الجانبين بفعل الضرورة العسكرية. من جانب، انتصرت على الرغبة المتقدمة لبناء عالم موحد يعيش كل امرئ فيه حياة حرة ومكتملة في خدمة المجتمع العالمي؛ الرغبة المتقدة لعقاب الجواسيس والخونة والمهرطقين. وعلى الجانب الآخر، تمكن القادة الرجعيون من تحويل التطلع الغامض والمضلل مع الأسف، إلى حياة أرقى وأقل في السمت المادي إلى الانتقام من الثوريين.
وبسرعة كبيرة، انهار النسيج المادي للحضارة. ولم تتمكن روح هؤلاء «البشر السفن» من الانطلاق مجددا في مغامرة الروح العظيمة إلا بعد أن انحدرت السلالة إلى الهمجية دون البشرية، ثم تطهرت من التقاليد المخبولة للحضارة المريضة، مع حضور الثقافة الحقيقية. وبعد العديد من آلاف السنوات، تسامت إلى ذلك المستوى الأرقى من الوجود والذي سأصفه فيما بعد بأفضل ما يمكنني.
الفصل السادس
إشارات صانع النجوم
لا ينبغي بنا أن نفترض أن المصير المعتاد للسلالات الذكية في المجرة هو الانتصار. لقد تحدثت حتى الآن بصفة أساسية عن المصائر الموفقة لعوالم الشوكيات والنوتيات والتي عبرت بنجاح إلى الحالة الأكثر يقظة، حتى إنني لم أذكر المئات بل الآلاف من العوالم التي أصابتها الكارثة، إلا في أندر المواضع. ولم يكن هناك من بد من هذا الاختيار إذ إن المجال المتاح لي محدود للغاية، ولأن هذين الصنفين من العوالم مع العوالم الأغرب التي سأذكرها في الفصل التالي كانت ستؤثر في مصير المجرة بأكملها تأثيرا عظيما. بالرغم من ذلك، فقد كانت هناك العديد من العوالم الأخرى ذات المرتبة «البشرية» تتمتع بتاريخ غني كتلك العوالم التي ذكرتها. لم تكن حياة الأفراد فيها أقل اختلافا عما هي عليه في الأماكن الأخرى، ولم تكن أيضا أقل ازدحاما بالمتاعب والمسرات. بعضها قد انتصر، وبعضها قد عانى من السقوط في مرحلته الأخيرة بسرعة أو ببطء، مما منحها رونق المأساة، لكن لأن هذه العوالم لا تؤدي دورا مميزا في صلب قصة مجرتنا، فينبغي أن نتغاضى عن ذكرها، وكذلك العدد الأكبر من العوالم التي لم ترق حتى إلى المرتبة «البشرية». ولو هممت بذكر مصائرها، لوقعت في الخطأ نفسه الذي يقع فيه أي مؤرخ يحاول وصف كل حياة خاصة ويغفل النمط العام للمجتمع بأكمله.
لقد ذكرت بالفعل أنه مع ازدياد ما تعرضنا له من خبرات خاصة بدمار العوالم، زاد شعورنا بالإحباط على إثر ما يبدو لنا في الكون من عبث وعشوائية. إن العديد من العوالم تكون قد اقتربت للغاية من تحقيق السلام الاجتماعي والرخاء، بعد معاناة طويلة مع المتاعب، ثم ينتزع الكأس منها إلى الأبد. وكثيرا ما كانت تحل الكوارث بسبب عيب تافه في المزاج أو الطبيعة البيولوجية. إن بعض السلالات كان يفتقر إلى الذكاء، وبعضها كان يفتقر إلى الإرادة الاجتماعية؛ فلم يتمكن من التأقلم مع المشكلات التي يطرحها المجتمع العالمي الموحد. وبعضها تحطم بفعل نوع حديث الظهور من البكتيريا قبل أن تصل علومه الطبية إلى مرحلة النضج. بعضها قد فني إثر التغير المناخي، وفني العديد منها بسبب تلاشي الغلاف الجوي. وفي بعض الأحيان كانت النهاية تأتي بفعل تصادم مع سحب كثيفة من الغبار أو الغاز أو مع أسراب من الشهب الضخمة. وتحطم عدد غير قليل من العوالم إثر سقوط أحد الأقمار. إن الجسم الأصغر، الذي يشق طريقه دهرا بعد دهر عبر غيمة متخلخلة ومنتشرة من الذرات الحرة في جميع أرجاء الفضاء النجمي، يفقد قوته الدافعة. ويتقلص مداره ببطء في البداية، ثم يتقلص بسرعة؛ فيتسبب في حدوث حركات مد هائلة في محيطات الجسم الأكبر ويغرق القدر الأكبر من حضارته. بعد ذلك، بسبب الضغط المتزايد لقوة جذب الكوكب، يبدأ القمر العظيم في التفكك . في البداية، يلقي بمحيطه طوفانا على رءوس البشر، ثم يلقي بجباله ثم يلقي بشظايا لبه الضخمة المتأججة. وإن لم تأت نهاية العالم بأي من هذه الطرق، فإنها تأتي بطريقة أخرى لا محالة، غير أن ذلك لم يكن يحدث على الأرجح حتى آخر أيام المجرة. وإذ ينكمش مدار الكوكب على نحو مهلك، تصبح العوالم جميعها في النهاية على درجة قريبة للغاية من الشمس فلا تعود ظروفها صالحة للحياة، وعصرا بعد عصر تجف الكائنات الحياة جميعها حتى الموت وتشويها الشمس.
كثيرا ما تملكت منا مشاعر الفزع والهلع والرعب بينما كنا نشهد هذه الكوارث العظيمة. وقد كان التياع الشفقة الذي كنا نشعر به إزاء آخر الناجين في هذه العوالم جزءا من المشاعر التي صادفناها.
كانت العوالم الأكثر تطورا في هذه العوالم المنحورة في غير حاجة إلى شفقتنا؛ إذ إن سكانها قد بدوا قادرين على ملاقاة نهاية كل ما كانوا يعتزون به بسلام، بل حتى بسرور راسخ غريب لم نستطع استيعابه بأي نحو في تلك المرحلة المبكرة من مغامرتنا. غير أن قلة قليلة جدا فقط هي التي تمكنت من بلوغ هذه الحالة، وقلة قليلة فقط من بين العدد العظيم من العوالم استطاع أن يبلغ السلام الاجتماعي والاكتمال الذي كان الجميع يتلمسونه. علاوة على ذلك، ففي العوالم الأقل تطورا كان عدد قليل للغاية من الأفراد هم الذين جنوا أي شعور بالرضا من الحياة حتى في الحدود الضيقة لطبيعتهم غير الكاملة. ولا شك بأن واحدا أو اثنين هنا وهناك في العوالم جميعها، لم يجد السعادة فقط، بل ذلك السرور الذي يتجاوز كل قدرة على الفهم. أما بالنسبة إلينا نحن الذين قد سحقت نفوسنا الآن من أثر ما شهدناه في آلاف السلالات من المعاناة والعبث، فقد بدا لنا أن هذا السرور نفسه، ذلك الانتشاء الذي كان يشعر به عدد متفرق من الأفراد أو عوالم بأكملها، هو شعور مزيف بالرغم من كل شيء، وأن هؤلاء الذين شعروا به قد كانوا مخدرين لا بد بفعل سلامهم الروحي الخاص وغير المعتاد؛ فمن المؤكد أنه قد عطل حساسيتهم تجاه كل هذه الأهوال من حولهم.
Página desconocida