أنا أعتقد أن المدخل لفهم هذه السلالة هو ملاحظة طريقتها الغريبة في التكاثر، والتي كانت ذات طبيعة مشتركة في جوهرها. كان كل فرد قادرا على إنتاج فرد جديد لكن في مواسم محددة فقط، وبعد التحفيز بنوع من حبوب اللقاح ينبعث من القبيلة بأكملها وتحمله الرياح. ولم تكن ذرات الغبار الفائقة الصغر التي تتكون منها حبوب اللقاح هذه بالخلايا الجنسية، بل «جينات»، أي، العوامل الأولية للوراثة. كانت حبوب اللقاح تعطر أحياء القبيلة بعطر خفيف على الدوام، بالرغم من ذلك، ففي أوقات العواطف الجماعية العنيفة، كانت حبوب اللقاح تزداد كثافة للغاية حتى إنها تصبح مرئية في واقع الأمر كالضباب الرقيق. وفي تلك المرات النادرة فقط، يصبح الحمل ممكنا. تخرج حبوب اللقاح زفيرا من جميع الأفراد ويتنفسها شهيقا هؤلاء الناضجون للإخصاب، ويشعر بها الجميع عطرا غنيا رقيقا والذي ساهم فيه كل فرد برائحته المميزة. ومن خلال آلية نفسية وفيسيولوجية غريبة، يستثار الفرد الذي ينتابه الشبق إلى اشتهاء التحفيز بكامل عطر القبيلة أو عطر الغالبية العظمى من أفرادها، وإذا لم تكن غيوم حبوب اللقاح على الدرجة الكافية من التعقيد، فلن يحدث الحمل. كان الإخصاب المختلط يحدث في فترات الحروب بين القبائل، وفي الغدو والرواح الذي لا يتوقف بين القبائل في العالم الحديث.
في هذه السلالة إذن، يمكن لأي فرد أن ينجب طفلا. وبالرغم من أن كل طفل له أم واحدة، فالقبيلة كلها آباؤه. كان الآباء الذين ينتظرون إنجاب طفل يحظون بمكانة مقدسة ويشترك الجميع في العناية بهم. حين ينفصل الطفل «الشوكي» أخيرا عن جسد الوالد، يشترك الجميع أيضا في العناية به مع بقية النشء في القبيلة. وفي المجتمعات المتحضرة، كان يعهد بعنايته إلى الممرضين والمعلمين المحترفين.
لن أتوقف كي أروي الآثار النفسية المهمة لمثل هذا النوع من التكاثر. إن مشاعر البهجة والامتعاض التي نشعر بها عند ملامسة أجساد أفراد آخرين من نوعنا لم تكن معروفة لديهم. وعلى الجانب الآخر، كان الأفراد يتأثرون على نحو عميق بالعطر القبلي الذي تتغير رائحته على الدوام. من المحال أن أصف ذلك النوع الغريب من الحب الرومانسي الذي كان يشعر به كل فرد تجاه القبيلة بصفة دورية. كان إحباط هذه العاطفة وقمعها ومنعها هو مصدر أرقى إنجازات هذه السلالة وأحقرها في الوقت ذاته. منحت الأبوة المشتركة للقبيلة وحدة وقوة لا تعرفهما السلالات التي تتسم بقدر أكبر من الفردانية. كانت القبائل البدائية مجموعات من بضع مئات أو آلاف من الأفراد، غير أن أعدادها قد زادت بدرجة كبيرة في العصور الحديثة. بالرغم من ذلك، فقد كان لا بد لشعور الولاء للقبيلة أن يظل مستندا على الدوام على العلاقات الشخصية لأفرادها، إن كان له أن يظل شعورا صحيا. وحتى في القبائل الكبيرة، كان كل فرد على الأقل «صديقا لصديق صديق» لكل فرد آخر من أفراد القبيلة. وقد أتاح الهاتف والإذاعة والتلفزيون للقبائل الكبيرة التي تبلغ حجم مدننا الصغيرة أن تحافظ على درجة كافية من الاتصال الشخصي بين أفرادها.
بالرغم من ذلك، فدائما ما كانت هناك مرحلة تصبح زيادة نمو القبيلة بعدها أمرا كريها؛ فحتى في أصغر القبائل وأكثرها ذكاء، كان ثمة توتر دائم بين عاطفة المرء الفطرية تجاه القبيلة، واحترامه للطبيعة الفردية فيه وفي رفاقه. وبينما كانت القبائل الصغيرة والقبائل الكبيرة التي تتسم بأجواء صحية تحافظ على جمال الروح القبلية وعقلانيتها من خلال الاحترام المتبادل والذاتي للأفراد، ففي القبائل الكبيرة والتي لا تتسم أجواؤها بالعقلانية، كان التأثير الشديد للقبيلة يؤدي على الأرجح إلى طمس الطابع الشخصي. وقد يفقد الأفراد أحيانا كل وعي بذواتهم وبذوات رفاقهم بوصفهم أفرادا، ويصبحون محض أعضاء مغيبين للقبيلة؛ ومن ثم يتفكك المجتمع إلى قطيع من الحيوانات تسيره غرائزه.
على مدار التاريخ، أدركت أفضل العقول في السلالة أن الإغراء الأكبر هو إذعان الفردانية للقبيلة؛ فراح الأنبياء يحثون البشر مرارا وتكرارا على أن يكونوا صادقين مع أنفسهم، غير أن وعظهم قد ضاع هباء في الغالبية العظمى من الأحيان. لم تكن أعظم الأديان في هذا العالم الغريب أديانا للحب بل للذات. وبينما يتوق البشر في عالمنا إلى مدينة طوباوية يحب البشر فيها بعضهم، فقد كان البشر «الشوكيون» ينزعون إلى تمجيد الشغف الديني لاكتساب القوة لأن «يتصرف المرء وفقا لطبيعته» دون الاستسلام لإرادة القبيلة. وتماما مثلما نستعيض عن أنانيتنا المتأصلة بالتبجيل الديني للمجتمع، كانت هذه السلالة تستعيض عن «جماعيتها» المتأصلة بالتبجيل الديني للذات.
لا شك بأن دين الذات في أنقى صوره وأكثرها تطورا لا يختلف عن دين الحب في أفضل صوره. فالحب ينطوي على الرغبة في توفير الإشباع الذاتي للمحبوب، وأن يجد المرء في فعل الحب نفسه زيادة عرضية لذاته تبعث فيها الحيوية. وعلى الجانب الآخر، فإن صدق المرء مع ذاته وتحقيق إمكاناتها كلها ينطوي على فعل الحب؛ فهو يستلزم ضبط الذات الخاصة لخدمة ذات أكبر تحتضن الاتحاد في روح السلالة وتحقيق الإشباع لها.
غير أن دين الذات لم يكن ذا فعالية مع البشر «الشوكيين» بأكثر مما كان دين الحب ذا فعالية لدينا. إن مبدأ «أحب جارك مثلما تحب نفسك» غالبا ما يولد فينا النزعة لأن يرى المرء جاره بوصفه محض محاكاة رديئة لذاته، مما يؤدي إلى كراهيته إذ ثبت منه ما هو خلاف ذلك. وفي حالتهم، كان مبدأ «كن مخلصا لذاتك» كان يولد النزعة لأن يخلص المرء لعقلية القبيلة فحسب. وقد تسببت الحضارة الصناعية الحديثة في تضخم العديد من القبائل بأكثر من الحد المحمود، وقد قدمت أيضا «القبائل الصناعية الفائقة» أو «قبائل القبائل»، والتي تناظر لدينا الأمم والطبقات الاجتماعية. ونظرا لأن الوحدة الاقتصادية كانت تتمثل في القبيلة ذات الطابع الشيوعي لا الفرد، فقد كانت الطبقة المسئولة عن التوظيف هي مجموعة صغيرة من القبائل الصغيرة التي تنعم بالرخاء، وكانت الطبقة العاملة مجموعة كبيرة من القبائل الكبيرة الفقيرة. وقد كان لأيديولوجيات القبائل الفائقة سلطة مطلقة على جميع عقول الأفراد الذين يخضعون لسيطرتها.
في المناطق المتحضرة، أوجدت القبائل الصناعية الفائقة والقبائل الطبيعية المفرطة النمو استبدادا ذهنيا صاعقا. عندما يتعلق الأمر بالقبيلة الطبيعية، على الأقل إذا كانت صغيرة ومتحضرة بحق، يمكن للمرء أن يتصرف بناء على ذكائه ومخيلته. ومع أقربائه الفعليين في القبيلة، قد يدعم درجة من الاتحاد الحقيقي لا نعرفها على كوكب الأرض. ويمكنه في حقيقة الأمر أن يكون ناقدا يحترم ذاته وذوات الآخرين. أما في جميع الأمور التي تتعلق بالقبائل الفائقة سواء أكانت أمورا وطنية أم اقتصادية، فكان يتصرف على نحو مختلف تماما. فجميع الأفكار التي تأتي إليه بموافقة الوطن أو الطبقة يقبلها هو وجميع رفاقه بحماسة ودون نقد. وفور أن يصادف أحد رموز القبيلة الفائقة التي ينتمي إليها أو شعاراتها، كان يتوقف عن كونه شخصية بشرية، ويصبح أشبه بحيوان لا يفكر ولا يقدر إلا على إصدار ردود فعل نمطية. في الحالات المتطرفة، كان عقله يغلق تماما إزاء التأثيرات المعارضة لاقتراح القبيلة الفائقة؛ فيواجه النقد بالغضب الأعمى أو لا يسمعه على الإطلاق. إن الأشخاص الذين يكونون قادرين في المجتمع الحميمي لقبيلتهم الأصلية الصغيرة على التعاطف وتبادل رؤى مشتركة رائعة؛ قد يتحولون فجأة، استجابة للرموز القبيلة، إلى أدوات للتعصب والكراهية الجامحين الموجهين ضد أعداء الوطن أو الطبقة. وفي هذه الحالة، قد يضحون بذواتهم في سبيل المجد المزعوم للقبيلة الفائقة. كما أنهم يبدون قدرا كبيرا من البراعة في تدبير طرق لإشباع شهوتهم في الانتقام من الأعداء الذين قد يكونون في الظروف المواتية مثلهم على القدر نفسه من العطف والذكاء.
في وقت زيارتنا لهذا العالم، بدا أن عواطف العامة ستدمر الحضارة تماما ودون رجعة. لقد كانت شئون هذا العالم تدار على نحو متزايد تحت سيطرة الهوس المنتشر للقبلية الفائقة، ولم تكن تدار بذكاء في حقيقة الأمر، بل وفقا للإلزام العاطفي النسبي لشعارات لا معنى لها. لا ينبغي لي أن أتوقف لأصف كيف أنه بعد فترة من الفوضى، بدأ نمط جديد من الحياة ينتشر أخيرا في هذا العالم المضطرب. ولم يكن ذلك ليحدث إلا بعد أن تفككت القبائل الفائقة بفعل القوى الاقتصادية المتعلقة بالصناعة الآلية، وبسبب الصراع المحموم فيما بينها. والآن قد تغير أفق السلالة بأكمله.
كان هذا العالم هو أول عالم قد اختبرنا فيه ما عذبنا من فقدان التواصل مع السكان الأصليين؛ حين اكتنفتهم، حالما توصلوا إلى إقامة ما يشبه العالم الطوباوي من الناحية الاجتماعية، أول تحركات مؤلمة للروح قبل أن يتقدموا إلى مستوى ذهني يتعذر علينا الوصول إليه، أو كان يتعذر على استيعابنا في ذلك الوقت على الأقل.
Página desconocida