قال بفالتو: إن الحقيقة كانت على العكس من ذلك بالتأكيد. فمثلما قد ارتبت، كان ثمة دليل قاطع على أن معدل الذكاء والنزاهة الأخلاقية قد تراجع على مستوى العالم، وسوف يستمر هذا التراجع على الأرجح. كانت السلالة تعيش على ماضيها بالفعل. فجميع الأفكار البارزة العظيمة في العالم المعاصر قد تولدت قبل قرون. ومنذ ذلك الوقت، خضعت هذه الأفكار لاستخدامات قد غيرت من شكل العالم بالتأكيد، غير أن أيا من هذه الاختراعات المثيرة لم يتأسس على النوع الصارم من التغلغل في مسار الأفكار بأكمله في عصر سابق. أقر بفالتو أنه كان هناك مؤخرا فيض من الاكتشافات والنظريات العلمية الثورية، لكنه قال إن أيا منها لم يكن يتضمن أي مبادئ جديدة في حقيقة الأمر. كانت جميعها توليفات معادة من المبادئ المعروفة. لقد كانت المنهجية العلمية التي اخترعت قبل عدة قرون وسيلة خصبة للغاية حتى إنها قد تستمر في إنتاج ثمار خصبة على مدار قرون في المستقبل حتى وإن كان ذلك على يد أفراد يفتقرون إلى القدرة على أي درجة عالية من الأصالة.
غير أن تدهور المقدرة العقلية لم يكن جليا في مجال العلوم بقدر ما كان جليا في النشاط الأخلاقي والعملي. أنا نفسي قد تعلمت بمساعدة بفالتو أن أتذوق بدرجة ما، أدب تلك الفترة الرائعة التي وقعت قبل عدة قرون، حين بدا أن البلاد جميعها تزدهر بالفن والفلسفة والدين، وحين قام شعب تلو الآخر بتغيير نظامه الاجتماعي والسياسي بأكمله من أجل توفير قدر من الحرية والرخاء يتمتع به جميع أفراده، وحين قامت الدولة تلو الدولة بنزع السلاح بشجاعة مخاطرة بالدمار لكنها قد جنت السلام والرخاء، وحين حلت قوات الشرطة، وتحولت السجون إلى مكتبات أو كليات، وحين أصبحت الأسلحة وحتى الأقفال والمفاتيح محض قطع تعرض في المتاحف، وحين كشفت جماعات الكهنوت الأربع العظيمة والراسخة عن أسرارها للعالم وأعطت ثروتها للفقراء وقادت الحملة المنتصرة للمجتمع أو تبنت الزراعة أو الحرف اليدوية أو التدريس، حسبما لاءم المؤيدين المتواضعين لدين المجتمع العالمي الجديد الذي لم يعرف رجال دين ولا إيمانا ولا إلها، وكذلك عبادته الصامتة. وبعد ما يقرب من خمسمائة عام، بدأت الأقفال والمفاتيح والأسلحة والمذاهب في العودة. لم يخلف العصر الذهبي سوى تقليد جميل ومذهل، ومجموعة من المبادئ التي بالرغم من إساءة فهمها الآن مع الأسف، ظلت هي أفضل القوى المؤثرة في عالم مضطرب.
أكد العلماء الذين عزوا السبب في التدهور العقلي إلى زيادة الأشعة الكونية أنه إذا كانت السلالة قد اكتشفت العلم قبل قرون عدة حين كان لا يزال أمامها فترة الحيوية العظيمة، لأصبح كل شيء على ما يرام. سرعان ما كانت ستتمكن من حل المشكلات الاجتماعية التي تنطوي عليها الحضارة الصناعية. لم تكن ستخلق عالما طوباويا ينتمي إلى «العصور الوسطى» بل يمتاز بالنزعة الآلية المتقدمة. وكانت ستكتشف على الأرجح طريقة للتكيف مع الزيادة في الأشعة الكونية وتحول دون التدهور، لكن العلم قد أتى متأخرا للغاية. أما بفالتو، على الجانب الآخر، فقد كان يخمن أن التدهور يعود إلى عامل في الطبيعة البشرية ذاتها. كان ينزع إلى الاعتقاد بأنه أحد عواقب الحضارة، وأن العلم في تغييره لبيئة النوع البشري بأكملها، إلى الأفضل على ما يبدو، قد جلب عن غير قصد أوضاعا معادية للنشاط الروحاني. لم يبد أنه يعرف ما إذا كان سبب الكارثة هو زيادة الأغذية الصناعية، أم زيادة الضغط العصبي في الأجواء الحديثة، أم التدخل في الانتقاء الطبيعي، أم التربية الأرق التي يتلقاها الأطفال أم سبب آخر. ربما ينبغي ألا نعزوه إلى أي من هذه التأثيرات الحديثة بعض الشيء؛ إذ أشارت الأدلة إلى أن التدهور قد بدأ منذ بداية عصر العلم، إن لم يكن قبل ذلك. ربما يكون ثمة عامل مجهول في أوضاع العصر الذهبي نفسه هو الذي قد بدأ الفساد. وقد اقترح بفالتو أيضا أنه من الممكن أن يكون الاتحاد الأصيل نفسه هو ما أنتج سمه الخاص؛ أن شباب البشر الذين نشئوا في مجتمع مثالي، في إحدى «مدن الإله» على الأرض بحق، لا بد أن يثوروا في نهاية المطاف على الكسل الأخلاقي والفكري، وعلى التفرد الرومانسي والشر المطلق، وأنه فور تجذر هذه النزعة، عزز العلم والحضارة الآلية من التدهور الروحاني.
قبل أن أغادر الأرض الأخرى بفترة قصيرة، اكتشف أحد علماء الجيولوجيا حفرية مخطط لجهاز راديو معقد للغاية. بدا أن المخطط طبع على لوح حجري قد صنع قبل ما يقرب من عشرة ملايين عام. ولم يترك المجتمع المتقدم الذي صنعه أي أثر آخر. كان هذا الاكتشاف صادما للعالم الذكي، غير أن الرأي المطمئن قد انتشر بأن نوعا غير بشري وأقل تحملا قد نال قبل فترة طويلة ومضة من الحضارة. وقد جرى الاتفاق على أن الإنسان لن يسقط أبدا عن هذه القمة من الثقافة فور أن وصل إليها.
أما بفالتو فقد كان يرى أن الإنسان كان يتسلق إلى الارتفاع نفسه تقريبا من وقت إلى آخر، ليسقط عنه مرة أخرى بفعل نتيجة غامضة لإنجازاته.
حين اقترح بفالتو هذه النظرية بين أطلال مدينتنا الأصلية، اقترحت أن الإنسان سيجتاز هذه النقطة الحرجة من مسيرته ذات مرة حتى وإن لم تكن هذه المرة. حينها تحدث بفالتو بشأن أمر آخر بدا أنه يدل على أننا نشهد الفصل الأخير من هذه المسرحية المتكررة الطويلة الأمد . لقد كان العلماء يعرفون أنه بسبب قوة الجاذبية الضعيفة في عالمهم، كان الغلاف الجوي الخفيف بالفعل يتلاشى بصورة مستمرة. وعاجلا أو آجلا، سيكون على البشرية أن تواجه مشكلة إيقاف التسرب المستمر للأكسجين الثمين. لقد تكيفت البشرية حتى الآن بنجاح مع قلة كثافة الغلاف الجوي المستمرة، غير أن البنية البشرية قد بلغت الحد الأقصى من القدرة على التكيف في هذا الصدد. وإذا لم تعوض الخسارة قريبا، فسوف تتداعى السلالة لا محالة. كان الأمل الوحيد أن يتم اكتشاف وسيلة ما للتعامل مع مشكلة الغلاف الجوي قبل بداية العصر التالي من الهمجية. كانت احتمالية تحقيق ذلك ضئيلة للغاية، وقد دمرت الحرب هذا الأمل الضئيل؛ إذ أعادت عقارب ساعة البحث العلمي بمقدار قرن إلى الوراء حين كانت الطبيعة البشرية هي ذاتها تتدهور وقد لا تتمكن أبدا من معالجة مشكلة بهذه الصعوبة.
ألقت بي فكرة الكارثة التي كانت تقبع على نحو شبه مؤكد في انتظار البشر الآخرين في رعب من الشك بشأن الكون الذي يمكن أن يحدث فيه شيء كهذا. إن دمار عالم بأكمله من الكائنات الذكية لم يكن بالفكرة الغريبة بالنسبة إلي، غير أن ثمة فارقا كبيرا بين احتمالية مجردة وخطر ملموس لا مهرب منه. كنت إذا شعرت بالفزع من المعاناة وتفاهة الأفراد على كوكبي الأصلي، تعزيت بفكرة أن التأثير الجماعي لمساعينا العمياء كلها على الأقل لا بد أن يكون هو الصحوة البطيئة للروح البشرية لكنها ستكون صحوة مجيدة. هذا الأمل، هذا اليقين، كان هو التعزية الوحيدة الأكيدة. أما الآن، فقد رأيت أنه ما من ضمان على أي انتصار كهذا. لقد بدا من المؤكد أن الكون، أو صانع الكون، لا يبالي بمصير العوالم. إن وجود النضال والمعاناة والضياع على نحو لا نهائي، هو أمر يقبل بكل تأكيد وسرور؛ فتلك هي التربة التي تنمو فيها الروح. أما أن يكون كل هذا النضال في نهاية الأمر محض عبث، أن يهوي عالم بأكمله من الأرواح الحساسة ويموت، فذلك شر مطلق. وأنا في حالة الهلع هذه، بدا لي أن «الكراهية» هي بلا شك «صانع النجوم».
غير أن بفالتو لم يكن يرى الأمر كذلك. لقد قال: «حتى إذا دمرتنا القوى، فمن نحن حتى ندينها؟ إذن يكون للكلمة العابرة أن تحكم على المتحدث الذي يصيغها. ربما تستخدمنا القوى لغاياتها العليا، ربما تستخدم قوتنا وضعفنا وفرحنا وألمنا لهدف لا يمكننا أن نتصوره لكنه ممتاز.» غير أنني اعترضت على ذلك قائلا: «أي هدف قد يبرر مثل هذا الخراب والعبث؟ وكيف يسعنا ألا نصدر الأحكام؟ وكيف نصدر الأحكام إن لم نصدرها بناء على قلوبنا والتي نحكم بها على أنفسنا؟ سيكون من الوضاعة أن نثني على صانع النجوم بعد معرفتنا بأنه كان عديم الإحساس حتى إنه لم يهتم بشأن مصير عوالمه.» صمت بفالتو في عقله للحظة، ثم نظر إلى الأعلى وأخذ يبحث بين غيوم الدخان عن نجمة نهارية. بعد ذلك حدثني في عقله قائلا: «إذا كان قد أنقذ العوالم كلها وعذب إنسانا واحدا، فهل كنت لتسامحه؟ أو إذا كان قاسيا بعض الشيء فقط على طفل واحد غبي؟ ما علاقة ألمنا أو فشلنا به؟ صانع النجوم! إنه اسم جيد بالرغم من أننا لا يمكننا أن نفهم معناه. يا صانع النجوم حتى إن دمرتني، فلا بد لي أن أمجدك، وحتى إذا عذبت أغلى أحبائي. وحتى إذا عذبت عوالمك الجميلة بأكملها ودمرتها، تلك اللمحات الصغيرة التي من نسج خيالك، فلا بد لي أن أمجدك؛ إذ إن جاء هذا منك، فلا بد أن يكون صوابا. أما إن جاء مني فسيكون خطأ، لكنه منك سيكون صوابا.»
نظر مرة أخرى إلى الأسفل حيث المدينة المدمرة ثم تابع: «حتى إذا لم يكن هناك صانع نجوم بالرغم من كل شيء، وإذا كانت تلك المجموعة الهائلة من المجرات قد انبثقت إلى الوجود من تلقاء نفسها، وحتى إذا كان هذا العالم الضئيل البغيض الذي نسكنه هو الموطن الوحيد للروح فيما بين النجوم وكان محكوما بالخراب، في تلك الحالات وغيرها، فلا بد لي أن أمجد، لكن إذا لم يكن هناك من صانع نجوم، فماذا أمجد ؟ لا أدري. سأصفه فقط بأنه نكهة ومذاق الوجود البارز، غير أن وصفه بذلك هو وصف موجز للغاية.»
الفصل الرابع
Página desconocida