يجب أن أبدأ بتوضيح أن حاسة التذوق قد أدت دورا عظيما في تطور الدين على الأرض الأخرى. وقد حظيت الآلهة القبلية بالطبع بسمات المذاق الأكثر تأثيرا في أفراد القبائل. وحين ظهرت عقائد التوحيد بعد ذلك، ارتبطت صفات الإله في القوة والحكمة والعدل والإحسان بوصف مذاقه. وفي الأدبيات الصوفية، غالبا ما كان الإله يشبه بالنبيذ القديم المعتق، وقد اقترحت بعض الروايات عن التجارب الدينية أن تلك النشوة المتعلقة بالتذوق تشبه، من نواحي عديدة، تلك المتعة الموقرة التي يجدها متذوقو النبيذ لدينا في تذوق بعض النبيذ النادر العتيق.
ومن سوء الحظ أنه نظرا إلى تعدد أنواع المذاق البشرية، فلم يكن هناك أي اتفاق واسع النطاق فيما يتعلق بمذاق الإله. شنت الحروب الدينية من أجل تحديد ما إذا كان مذاق الإله في فئة الحلو أم المالح، أو ما إذا كانت نكهته السائدة هي واحدة من العديد من السمات الذوقية التي لا يستطيع نوعي تصورها. أصر بعض المعلمين على أنه لا يمكن تذوقه إلا بالقدمين، بينما أصر آخرون على أنه لا يمكن تذوقه إلا باليدين أو الفم، وأصر غيرهم على أنه لا يمكن تذوقه إلا من خلال تلك التوليفة المعقدة اللطيفة من النكهات الذوقية والتي تعرف باسم الاتحاد العفيف، وهي نشوة حسية، جنسية الطابع في الأساس، يجري تحفيزها من خلال تأمل الاتصال مع الإله.
وأوضح معلمون آخرون أنه بالرغم من أنه يمكن تذوق الإله بالفعل، فإن جوهره لا يتجلى لأي أعضاء جسدية على الإطلاق، بل للروح المجردة فقط. وأوضحوا أيضا أن نكهته أكثر لطفا من نكهة المحبوب وأشهى منها؛ إذ إنها تتضمن أعطر النكهات البشرية وأكثرها روحانية، وما هو أكثر من ذلك دون نهاية.
وقد ذهب البعض إلى أبعد من ذلك كثيرا فصرحوا أنه لا ينبغي تصور الإله على أنه شخص على الإطلاق، بل على أنه بالفعل هذه النكهة. كان بفالتو يقول: «إما أن الإله هو الكون، أو أنه نكهة الإبداع التي تتخلل كل شيء.»
قبل ذلك بعشرة أو خمسة عشر قرنا، حين كان الدين، وفقا لمعلوماتي، يمثل أهمية كبرى، لم يكن هناك كنائس ولا كهنوت، غير أن الأفكار الدينية كانت تسيطر على حياة الناس بدرجة أجد أنها لا تصدق. بعد ذلك ظهرت الكنائس والكهنوت لتؤدي دورا هاما في الحفاظ على ما كان يبدو الآن أنه وعي ديني متضائل. وبعد فترة لاحقة سبقت الثورة الصناعية بقرون قليلة، سيطر الدين المؤسسي على معظم الشعوب المتحضرة، حتى إنها كانت تنفق ثلاثة أرباع الدخل الكلي على صيانة المؤسسات الدينية. وبالطبع كانت الطبقات العاملة، التي استعبدها الملاك في مقابل مبلغ زهيد، تعطي الجزء الأكبر من أجورها الهزيلة لرجال الدين وتعيش في بؤس مهين ما من مبرر له.
أحدث العلم والصناعة إحدى تلك الثورات الفكرية المفاجئة والمتطرفة والتي كانت من السمات المميزة للبشر الآخرين. حطمت الكنائس جميعها تقريبا أو حولت إلى مصانع مؤقتة أو متاحف صناعية. الإلحاد، الذي كان سببا للاضطهاد قبل وقت قريب، قد أصبح أمرا شائعا، وتحولت أفضل العقول إلى اللاأدرية. بالرغم من ذلك، فبعد فترة بدأت معظم الشعوب الصناعية تعود مرة أخرى إلى الدين، وقد كان ذلك على ما يبدو لمواجهة رعب الثقافة المادية والتي كانت أكثر سوادوية وتماديا مما كانت عليه لدينا بدرجة كبيرة. وتأسست العلوم الطبيعية على أساس روحاني. وأصبحت الكنائس القديمة مقدسة مرة أخرى، وتأسست العديد من الأنظمة الدينية الجديدة حتى إنها سرعان ما أصبحت في عدد دور السينما على كوكبنا. وقد استوعبت الكنائس الجديدة فن السينما بالطبع، وقدمت أفلاما متواصلة قد مزجت ببراعة بين الانغماس في الملذات الحسية والدعاية الكنسية.
في وقت زيارتي كانت الكنائس قد استعادت سلطتها الضائعة بأكملها. كانت الإذاعة تنافسها في وقت ما بالفعل، لكن الكنائس قد نجحت في استيعابها. كانت ما تزال على موقفها من رفض بث تجربة الاتحاد العفيف التي كانت قد اكتسبت حظوة جديدة بسبب الاعتقاد الشائع بأنها روحانية للغاية بما لا يتيح نقلها عبر الأثير. غير أن رجال الدين الأكثر تقدما قد اتفقوا على أنه إذا تأسس نظام «نعيم الإذاعة» العالمي ذات يوم، فقد يمكن التغلب على هذه الصعوبة. وفي هذه الأثناء، ظلت الشيوعية على عرفها اللاديني. بالرغم من ذلك، ففي البلدين الشيوعيين العظيمين، كانت «اللادينية» التي تنظم بصورة رسمية، تصير دينا في كل شيء خلا الاسم؛ فقد صارت لها مؤسساتها وكهنوتها وطقوسها ومبادئها الأخلاقية ونظام الغفران الخاص بها ومعتقداتها الميتافيزيقية والتي لم تكن أقل في الطابع الخرافي بالرغم من طبيعتها المادية الخالصة. أما نكهة الإله فقد استبدل بها نكهة الطبقة العاملة.
لقد كان الدين إذن قوة حقيقية للغاية في حياة هذه الشعوب جميعها. بالرغم من ذلك، فقد كان ثمة شيء محير في ورعهم. لقد كان صادقا من جانب ما، بل نافعا أيضا؛ ففي الإغراءات الشخصية القليلة والاختيارات الأخلاقية النمطية والواضحة للغاية، كان البشر الآخرون يلتزمون بما يمليه الضمير عليهم أكثر مما يلتزم به نوعي بدرجة كبيرة. غير أنني قد اكتشفت أن الإنسان الآخر النموذجي المعاصر لا يلتزم بما يمليه عليه ضميره إلا في المواقف التقليدية، أما في المواقف التي تعكس الحس الأخلاقي الأصيل؛ فقد كان يفتقر إلى الضمير على نحو غريب؛ ولهذا فبالرغم من أن السخاء العملي والرفقة السطحية كانا أكثر من المعتاد لدينا، فإن أكثر أشكال الاضطهاد العقلي شيطانية كانت تقترف دون أي تأنيب للضمير. كان على الأفراد الأكثر حساسية أن يأخذوا حذرهم على الدوام، وكانت الأنواع الأعمق من الحميمية والاعتماد المشترك غير مستقرة ونادرة. في هذا العالم الشغوف بالاجتماعية، كانت الوحدة تلاحق الروح. لقد كان البشر «يجتمعون معا» باستمرار، لكنهم لم يجتمعوا حقا قط. كان الجميع مرتعبين من الاختلاء بأنفسهم، ومع ذلك، فبالرغم من الاعتقاد العالمي بأهمية الرفقة، ظلت هذه الكائنات الغريبة بعيدة بعضها عن بعض، كالنجوم، حتى عندما يكونون معا؛ فكل منهم كان يبحث في عيني جاره عن صورة نفسه، ولم ير أي شيء غيرها قط، وإن رأى غيرها، ارتعب وغضب غضبا شديدا.
من الحقائق المحيرة أيضا بشأن الحياة الدينية لدى البشر الآخرين في وقت زيارتي، هي أنه بالرغم من أن الجميع كانوا مؤمنين وكان الكفر يلقى بالرعب، فقد كان التوجه العام نحو الإله تجاريا يوحي بالازدراء. لقد افترض البشر أنهم يستطيعون شراء نكهة الإله إلى الأبد بالمال أو بالطقوس. وعلاوة على ذلك، فالإله الذي كانوا يعبدونه باللغة الرائعة المتأملة التي تنتمي إلى عصر سابق، أصبح يصور الآن على أنه صاحب عمل عادل لكنه غيور أو والد متساهل أو حتى كمحض طاقة مادية. أما الوقاحة الأكبر فقد تمثلت في الاعتقاد بأن الدين لم يكن على هذه الدرجة من الانتشار والاستنارة في أي عصر سابق. لقد ساد اعتقاد حظي باتفاق العالم بأكمله تقريبا بأن فهم التعاليم العميقة التي تعود إلى عصر النبوة بمعانيها الأصلية التي قصدها الأنبياء أنفسهم، لم يبدأ سوى الآن. فقد زعم الكتاب والمذيعون المعاصرون بأنهم يعيدون تأويل النصوص الدينية لتناسب الاحتياجات الدينية المستنيرة في عصر كان يسمي نفسه ب «عصر الدين العلمي.» والآن بعد الاستسلام الذي كان يميز حضارة البشر الآخرين قبل اندلاع الحرب، كنت أشعر عادة بوجود تململ وقلق غامضين فيما بينهم. لا شك أن الناس في معظم الأحوال راحوا يباشرون أمورهم بالاهتمام المستغرق القانع ذاته مثلما هي الحال على كوكبي. لقد كانوا منشغلين للغاية بكسب الرزق والزواج وإقامة الأسرة ومحاولة استغلال كل منهم للآخر، بما لا يترك وقتا للتشكك الواعي بشأن الهدف من الحياة. بالرغم من ذلك، فكثيرا ما كانت تبدو عليهم تصرفات من نسي شيئا مهما للغاية وهو يحاول تذكره ببالغ الجهد، أو من كان واعظا مسنا يستخدم العبارات المؤثرة القديمة دون إدراك واضح لدلالتها. صرت أشك على نحو متزايد بأن هذه السلالة، بالرغم من انتصاراتها، كانت تعيش الآن على أفكار ماضيها العظيمة، وتتفوه بأفكار لم تعد تتمتع بالإحساس اللازم لفهمها، وتشيد بلسانها بمثل لم يعد من الممكن أن ترغب فيها بإخلاص، وتتصرف في إطار نظام من المؤسسات التي لم تكن لينجح معظمها إلا بواسطة عقول لها طابع أرقى بعض الشيء. وقد كنت أشتبه في أن هذه المؤسسات قد تأسست على يد سلالة لا تتمتع بقدر أكبر من الذكاء فحسب، بل بقدرة أقوى وأكثر شمولا على التعاون مما كان ممكنا في ذلك الوقت على الأرض الأخرى. لقد بدا أنها كانت تتأسس على افتراض أن البشر عطوفون في المجمل ومنطقيون ويتمتعون بالقدرة على ضبط النفس.
كثيرا ما سألت بفالتو عن هذا الموضوع، لكنه كان يتجنب سؤالي على الدوام. ويجب أن أذكر أنه بالرغم من قدرتي على الوصول إلى جميع أفكاره ما دام لم يرغب قطعا في حجبها، فقد كان يستطيع دوما أن يفكر على انفراد إذا بذل مجهودا خاصا. طالما شككت بأنه يخفي شيئا عني إلى أن أخبرني أخيرا بالحقائق الغريبة والمأساوية.
Página desconocida