رحت أراقب سحبا ضخمة من الغبار لا لشيء إلا لكي أتجنبها، كانت في ضخامة الكوكبات تخفي تيارات النجوم؛ وكذلك رقعا ممتدة من الغاز المتوهج الشاحب التي تضيء في بعض الأحيان بفعل ضوئها وأحيانا بفعل الضوء المنعكس من النجوم. كثيرا ما كانت هذه القارات المتكونة من السحب اللؤلؤية اللون تنتج بداخلها عددا من لآلئ الضوء الباهتة التي هي أجنة النجوم المستقبلية. نظرت دونما اهتمام إلى العديد من مجموعات النجوم التي تشكلت مثنى وثلاث ورباع، والتي كان بها عدد متساو تقريبا من الشركاء الذين يتراقصون في اتحاد وثيق. وذات مرة، مرة واحدة فقط، وجدت واحدا من هذه الثنائيات النادرة التي لم يكن أحد الشريكين فيها بأكبر من الأرض، لكنه كان ضخما كنجم عظيم ولامعا للغاية. كنت أجد في أرجاء هذه المنطقة من المجرة، نجما محتضرا هنا أو هناك يخمد معتما، ورأيت في بعض الأنحاء أيضا النجوم المنطفئة الميتة المغلفة بقشرة. لم أستطع رؤية هذه النجوم إلا بعد أن وصلت إليها، وحتى حينها لم أرها إلا بشكل خافت بفعل الضوء المنعكس للسماء بأكملها. لم أحاول قط الاقتراب منها أكثر؛ إذ إنها لم تكن بذات أهمية لدي في تلهفي المحموم للأرض. ثم إنها كانت تبعث في الرهبة؛ إذ تنذر بموت الكون، لكن ما طمأنني أنني لم أجد منها إلا عددا قليلا للغاية.
لم أعثر على أي كوكب. كنت أعرف جيدا أن ميلاد الكواكب يحدث بفعل الاقتراب الشديد لنجمين أو أكثر وأن مثل تلك الحوادث لا تحدث إلا نادرا. ذكرت نفسي أن وجود نجوم لها كواكب في المجرة هو حتما حدث نادر كوجود الأحجار الكريمة بين حبات الرمال على شاطئ البحر. فماذا كان احتمال أن أعثر على أحدها؟ بدأت عزيمتي تخور. الصحراء المروعة للعتمة والنار العقيمة، والفراغ العظيم الذي لا يخترقه الوميض إلا قليلا، وما في الكون بأكمله من عبث هائل، كل ذلك قد أثقل قلبي بصورة مريعة. والآن قد أضيف إلى ذلك كله مصدر جديد للكدر؛ إذ بدأت قدرتي على التنقل تخور. لم أكن أستطيع القيام بأي حركة على الإطلاق بين النجوم إلا بجهد عظيم وببطء شديد، ثم ازداد هذا البطء بدرجة عظيمة. سرعان ما سأجد نفسي مثبتا في الفضاء كحشرة طائرة في إحدى المجموعات، لكنني سأكون وحيدا تماما وللأبد. أجل، كان ذلك بالتأكيد جحيمي الخاص.
جمعت شتات نفسي. ذكرت نفسي أنه حتى إذا كان هذا سيكون هو قدري، فما هو بأمر خطير. ستظل الأرض على خير حال بدوني، وحتى إذا لم يكن هناك أي عالم آخر آهل بالحياة في أي مكان آخر بالكون، فالأرض نفسها لا تزال عامرة بالحياة، وقد تنبثق منها حياة أوسع وأكثر اكتمالا. وبالرغم من أنني قد فقدت كوكبي الأصلي، فذلك العالم المحبوب لا يزال حقيقيا. ثم إن مغامرتي بأكملها كانت معجزة؛ أوليس من الممكن أن تستمر المعجزة وأتعثر في طريقي بأرض أخرى؟ تذكرت أنني انطلقت في رحلة حج علوية، وأنني مبعوث البشرية إلى النجوم.
ومع استعادتي للشجاعة، عادت إلي قدرتي على التنقل. من الجلي أنها كانت تتوقف على وجود إطار ذهني من النشاط والانفصال عن الذات؛ لذا فقد أخمدها ما انتابني من رثاء للذات والتوق إلى الأرض.
عازما على استكشاف منطقة أخرى من المجرة حيث قد يوجد عدد أكبر من النجوم الأقدم؛ ومن ثم أمل أعظم في وجود كواكب، انطلقت في اتجاه عنقود بعيد ومليء بالنجوم. ونظرا لشحوب أفراد هذه الكرة المرقطة من الضوء وغير واضحة المعالم، فقد خمنت أنها تقع حتما على مسافة بعيدة للغاية. سافرت أكثر فأكثر في الظلام. وبالرغم من أنني لم أنحرف قط عن طريقي للبحث، فلم يأخذني مساري عبر محيط الفضاء بالقرب من أي نجم بالدرجة التي تكفي لأن أراه قرصا. كانت أضواء السماء تتدفق بعيدا عني كأنها أضواء سفن بعيدة. وبعد رحلة فقدت خلالها كل حساب للزمن، وجدت نفسي في صحراء شاسعة خالية من النجوم، كانت فجوة بين تيارين من النجوم، وصدعا في المجرة. كان درب التبانة يحيط بي، وفي كل اتجاه ينتشر غبار النجوم البعيدة المعتاد، غير أنه لم يكن هناك من أضواء واضحة سوى زغب الضوء الصادر من العنقود البعيد الذي كان هدفي.
أزعجتني تلك السماء غير المألوفة بما ولدته من شعور بازدياد انفصالي عن موطني. لقد كان مما يبعث على الطمأنينة بعض الشيء أن أرى، فيما وراء أبعد نجوم مجرتنا، تلك البقع المتناهية الصغر والتي هي مجرات غريبة أبعد كثيرا من أبعد الخبايا المنعزلة في درب التبانة، وأن أتذكر أنه بالرغم من سفري السريع والإعجازي، ما أزال داخل حدود مجرتي الأم، داخل تلك الخلية الصغيرة من الكون نفسها التي لا تزال تعيش فيها رفيقة حياتي. بالمناسبة، كنت مندهشا من أن العديد من المجرات الغريبة كانت تبدو للعين المجردة، ومن أن أكبرها كان علامة ضبابية شاحبة أكبر من القمر في السماء الأرضية.
على النقيض من المجرات البعيدة والتي لم تؤثر كل تلك المسافة التي قطعتها في مظهرها، كان عنقود النجوم أمامي يتمدد الآن في مجال البصر. وبعد أن عبرت الفراغ الشاسع بين تياري النجوم، سرعان ما واجهني العنقود كغيمة ضخمة من حبات الماس. الآن كنت أمر بمنطقة أكثر ازدحاما، ثم انفرج العنقود نفسه أمامي مغطيا السماء الأمامية بأكملها بأضوائه الغفيرة. ومثلما تقابل سفينة تقترب من الميناء غيرها من السفن والقوارب، اقتربت ومررت بنجم تلو النجم. حين تخللت إلى قلب العنقود، أصبحت في منطقة أكثر ازدحاما من أي منطقة قد استكشفتها. كانت السماء تتوهج من كل جانب بالشموس التي بدا العديد منها ألمع من كوكب الزهرة في سماء الأرض. شعرت بابتهاج مسافر يدخل ميناء ليلا بعد أن عبر المحيط، ليجد نفسه محاطا بأضواء مدينة كبيرة. في تلك المنطقة المكتظة، أخبرت نفسي بأنه لا بد أن العديد من حوادث الاقتراب الشديد قد وقعت بين النجوم، وتشكلت العديد من الأنظمة الكوكبية. ومرة أخرى رحت أبحث عن نجوم متوسطة العمر من نوع الشمس الخاصة بالأرض. كل ما مررت به حتى الآن كانت نجوما عملاقة صغيرة السن، ضخمة في حجم النظام الشمسي بأكمله. وبعد المزيد من البحث، عثرت على بضعة نجوم من المحتمل أن تطابق ما أبحث عنه، لكن أيا منها لم يضم أي كوكب. وعثرت أيضا على العديد من النجوم المزدوجة والثلاثية، التي تدور في مداراتها التي لا تحصى، والقارات العظيمة من الغاز حيث تتكثف النجوم الجديدة. وفي النهاية، عثرت أخيرا على أحد الأنظمة الكوكبية. وبقدر لا يحتمل من الأمل، درت فيما بين هذه العوالم، لكن جميعها كان أكبر من المشتري، وكانت جميعها منصهرة. ومن جديد، رحت أسرع من نجم إلى آخر. لا بد أنني قد زرت الآلاف، لكن ذلك كله كان دون جدوى. مغتما ووحيدا، هربت خارجا من العنقود، والذي تضاءل خلفي إلى كرة من الزغب الأبيض الذي تتلألأ بقطرات الندى. من أمامي، حجبت بقعة عظيمة من الظلام جزءا من درب التبانة والمناطق المجاورة الآهلة بالنجوم، خلا القليل من الأضواء القريبة التي كانت تقع بيني وبين الظلمة المعتمة. لاحت الحواف المتلاطمة لتلك الغيمة الضخمة من الغاز أو الغبار بفعل الأشعة الساقطة من النجوم الساطعة خلفها. أثار ذلك المشهد في مشاعر الرثاء للذات على العديد من الليالي التي قضيتها في البيت ورأيت فيها حواف الغيوم المعتمة وقد أضفى عليها ضوء القمر لونا فضيا مثل تلك الغيوم. غير أن الغيوم التي كانت تقع قبالتي الآن لم تكن لتبتلع عوالم بأكملها أو عددا لا يحصى من الأنظمة الكوكبية فحسب، بل مجموعات نجمية بأكملها.
خذلتني شجاعتي مرة أخرى. ومبتئسا حاولت أن أتجاهل تلك الأبعاد الهائلة بإغلاق عيني، غير أنه لم تكن لي عينان ولا جفنان. كنت قد خرجت من جسدي، ولست سوى وعي متجول. حاولت أن أستحضر في ذهني الجزء الداخلي من منزلي الصغير حيث الستائر منسدلة والنيران تتراقص. حاولت أن أقنع نفسي بأن كل هذا الرعب والظلام والمسافة والوهج العقيم كان حلما، وأنني كنت أغفو بجوار النار وقد أستيقظ في أي لحظة، وأنها سوف تطل علي في أثناء حياكتها وتلمسني وتبتسم، لكنني كنت ما أزال سجين النجوم.
بالرغم من قواي الخائرة، شرعت في بحثي مرة أخرى. وبعد أن كنت قد تجولت من نجم إلى نجم لفترة قد تكون أياما أو سنوات أو دهور، وجهني الحظ أو ربما روح حارسة إلى نجم معين شبيه بالشمس، وحين نظرت إلى الخارج من هذا المركز، رأيت نقطة صغيرة من الضوء تتحرك مع حركتي على السماء المرسومة. وحين وثبت باتجاهها، رأيت غيرها وغيرها. كان هذا بالفعل نظاما كوكبيا يشبه كثيرا ذلك الذي أنتمي إليه. كم كنت مهووسا بالمعايير البشرية حتى إنني اتجهت على الفور إلى الأشبه من هذه العوالم بالأرض! ومن المثير للدهشة أنه قد بدا شبيها بالأرض فعلا إذ راح قرصه يتضخم من أمامي أو من تحتي. كان غلافه الجوي أقل كثافة من غلافنا الجوي بالتأكيد؛ إذ كانت أشكال القارات والمحيطات غير المألوفة ظاهرة بوضوح.
مثلما يحدث على الأرض، انعكست صورة الشمس ساطعة على البحر المظلم. وامتدت رقع من الغيوم هنا وهناك فوق البحار واليابسة، والتي كانت مرقطة باللونين الأخضر والبني مثلما هي الحال على كوكبي. بالرغم من ذلك، فحتى من على هذا الارتفاع، رأيت أن المناطق الخضراء أكثر زهوا وزرقة من نظيرتها الأرضية. لاحظت أيضا أن مساحة المحيطات على هذا الكوكب أقل من مساحة اليابسة، وأن مراكز القارات العظيمة تتشكل بصورة أساسية من الصحاري اللامعة ذات اللون الأبيض القشدي.
Página desconocida