قال الرجل الآخر بنبرة مرتعبة وما زال صوته مألوفا: ياسين عمران؟
أجاب بسرعة: نعم أنا ياسين عمران بالفعل. لكن من أين تعرفني حضرتك؟ هل يمكنك أن تذكرني باسمك؟
ساد السكون لثوان قليلة مرت عليه كدهر كامل قبل أن ينطق الرجل الآخر دون أن يقل ما في نبرة صوته من رعب: أنا ياسين عمران.
صحراء
حرارة الصحراء قاتلة، وهدوءها قاتل كذلك، كثبان رمالها ساخنة وغزيرة كمحيط لا نهائي، صامتة وغامضة، لا تبوح بأسرارها ولا تكشف دخائلها، تبدو لمن لا يخبرها بحق ميتة منذ دهور، رغم أنها في الحقيقة تموج بالحياة وتتصارع بداخلها كائنات لا يدرك حصرها إلا خالقها. الصحراء كالمحيط، كلاهما ليس كما يبدو على الإطلاق، كلاهما عالم قائم بذاته، كلاهما صامت وغامض، وكلاهما قاتل.
في منتصف اللامكان وقفت منتصبة شامخة رغم ما يظهر عليها من إرهاق يفضحه ذلك الشحوب الواضح، في موضع لا يمكن وصفه إلا بأنه مكان ما وسط الصحراء، لا تميزه علامة، ولا شيء فيه مختلف عن بقية المواضع؛ في الصحراء كل المواقع متشابهة، وكل الرمال متطابقة، لا تتميز حبة رمل عن مثيلاتها، ولا تختلف شجرة بعينها عن بقية الشجر. كانت مستقرة في موضعها المبهم ذاك منذ سنوات طويلة، تمر عليها فصول ومواسم، تلفحها شمس قاسية لشهور طويلة، وتعصف بها ريح باردة في بعض ليالي موسم الشتاء القصير، يصيبها نزر يسير من ماء السماء المبارك مرة كل شتاءين أو ثلاثة. تتبدل عليها أقمار كثيرة، ليال مضيئة حميمة وأخرى مقفرة حالكة الظلام، تتبدل الأحوال حولها وهي كما هي، لا يتبدل فيها إلا مولد القليل من الأوراق الجديدة على أغصانها بعدما ترتوي ببعض قطرات المطر الشحيح، وتساقط أوراق أخرى عندما لا تحتمل قسوة الجفاف، تظل باسقة في ثبات بجذعها الباهت المتشقق وأغصانها المتعبة وأوراقها الشحيحة، لا يؤنس وحشتها في تلك الأرض المقفرة إلا جاراتها من الأشجار المتناثرة بغير ترتيب كيفما توافقت الظروف. وكائنات الصحراء البائسة من زواحف وقوارض وحشرات حكم عليها - ربما بجريرة خطيئة ما ارتكبها أسلافها القدماء - بالحياة حيث يصبح إيجاد قوت اليوم حلما بعيد المنال، ثم تلك الطيور الهزيلة شاحبة اللون التي تتقافز بين الأغصان لاهثة. كان ذلك الطائر الصغير ذو الريش كاحل السواد، والمنقار الأصفر المنفرج دائما في شهور الصيف ربما من شدة العطش هو أزهى ما في المشهد كله، كان ينشر البهجة في ذلك المشهد المقفر بقفزاته بين الشجيرات وبتغريداته التي تتصاعد عندما تلتقي جماعات منه على أغصان الشجر في نهاية النهار بعد يوم حار، كان هو الكائن الوحيد ذا اللون الواضح بين عناصر كلها صفراء أو مائلة للصفرة أو بلا لون محدد.
الفصل الثاني
يوليو 2018م
لم يدرك أي من الرجلين كم مر عليهما من الوقت ساكنين، متواجهين، محدقين كل منهما في وجه الآخر. كانا خارج المكان والزمان معا، يجاهد كل منهما لكي يستوعب حقيقة الأمر. كان كل منهما يقف أمام نفسه، كان كلاهما ياسين عمران ذاته، كان كل منهما ينظر إلى نفسه في هيئة رجل آخر. يمكن لكل شخص بالقطع أن يتعرف على صورته عندما يراها في مرآة، لا يمكن لأحد أن يخطئ نفسه؛ لذلك كان كل منهما على يقين كامل بأنه ينظر إلى نفسه، لا إلى شبيه له أو توأم أو مستنسخ، بل إلى نفسه بذاتها. وكان ذلك ما تركهما ذاهلين كأنما كان كل منهما يحدق في وجه ملك الموت.
لم يكونا متطابقين في الهيئة رغم ذلك لمن ينظر إليهما للوهلة الأولى، كانا في أواخر الأربعينيات من العمر، في نفس الطول وبنفس ملامح الوجه بالضبط، نفس العينين والأنف والشفتين، وكانت علامات الكهولة قد بدأت تظهر على كليهما بدرجات متفاوتة قليلا؛ كان جسد الأول أسمن بعض الشيء وأكثر ترهلا، بينما كان للثاني جسد يبدو عليه أثر الاعتناء والمواظبة على الرياضة، وإن ظل مع ذلك جسد كهل لا جسد شاب. كان للأول كرش واضح وإن لم يكن كبيرا، بينما كان بطن الثاني مشدودا بشكل مقبول بالنسبة لمن هم في مثل عمره. كان الشيب متناثرا في رأس الأول، لكن اللون الأسود ظل هو المسيطر، بينما غزا الشيب رأس الثاني بالكامل تقريبا فلم يتبق من السواد الكثير. كان الأول حليق اللحية والشارب بعناية، قصير الشعر في قصة رسمية وقورة، يضع على عينيه اللتين أحاطت بهما تجاعيد دقيقة وهالات داكنة نظارة طبية أنيقة ذات عدسات رقيقة بلا إطار، بينما كانت للثاني لحية قصيرة غير مهذبة بعناية، وقد بدت أقرب للمسة أناقة منها لرمز تدين، وشارب قصير وشعر لامع متوسط الطول ملتوي الأطراف ومصفف للخلف، وكان جلد وجهه أكثر صفاء ونضارة من الآخر. كان الأول في بدلة عمل رسمية رمادية وقميص سماوي تعلوه ربطة عنق يغلب عليها لون الدم القاني، وحذاء جلدي أسود ملمع بعناية، وفي معصمه ساعة ثمينة كلاسيكية الطراز من المعدن الفضي، بينما كان الثاني يرتدي فانلة قطنية بيضاء غير مكوية جيدا، وعليها شعار كبير لفريق كرة سلة أمريكي شهير، وبنطلونا قطنيا واسعا كثير الجيوب من النوع الذي يرتديه السياح والمغامرون، وحذاء رياضيا خفيفا، وكانت في معصمه ساعة إلكترونية ضخمة تزدحم بالكثير من المؤشرات كما لو كانت تستخدم للتحكم في طائرة. بشكل عام كانت الفروق بينهما شكلية؛ فقد كان الأول مسافرا في مهمة عمل، بينما كان الثاني على ما يبدو في عطلة، كما كان واضحا أن الثاني أكثر اهتماما بصحته ورشاقته، وربما كان يمارس الرياضة ويلتزم بنظام طعام صحي، أما فيما عدا ذلك فقد كان من السهل ملاحظة الشبه الكبير بينهما.
Página desconocida