Años del Agujero Negro

Husayn Mihran d. 1450 AH
40

Años del Agujero Negro

سنوات الثقب الأسود

Géneros

كان الجنون قد عم المدينة منذ أن سقطت في دوامة الصراع بين ميليشيات مجهولة متناحرة خرجت من حيث لا يدري أحد، بعد ثلاث سنوات من الاجتياح الأمريكي للبلاد، خراب ونهب وقتل على الهوية في كل مكان، الجميع يرتدون السواد، الجميع يحاربون من أجل الله، السلاح في يد الجميع، بمنتهى البساطة قد تخترق رصاصة رأس عابر سبيل أعزل لمجرد أن مسلحا ما قرأ في بطاقة هويته اسم «عمر»، أو أن مسلحا في جماعة أخرى أراد أن ينصر الله بقتل زوجها الذي لا يعرفه؛ لأن اسم جده «باقر». ركضت بولدها، ليس فقط هربا من أولئك القتلة، وإنما فرارا من تلك البلاد التي باتت تخيفها، ركضت من ذلك الجنون كله لمدة ولمسافة لا تدركهما، تقاذفتها وصغيرها أيدي المهربين والوسطاء، تنقلا ما بين حافة التجمد داخل صندوق شاحنة مبردة هربتهما عبر الصحاري الشاسعة، إلى حافة الغرق في مياه أنهار موسمية موحلة تجري في أودية حدودية مختبئة بين جبال شاهقة، وحتى حافة الذل بين يدي تجار بشر غليظي القلوب والوجوه، إلى أن انتهى بهما المطاف مستلقيين على سرير حديدي في مأوى للاجئين في جنوب السويد، في انتظار البت في أمر منحهما حق اللجوء إلى بلد ما ستقرره الحصص المتفق عليها بين الدول الكبرى. كانت قد أنفقت كل ما تملك وكل ما استطاعت بيعه على المهربين، الذين عبروا بهما من محطة انتقالية إلى أخرى، ثم أخيرا على رشوة ضابط الجوازات الذي رتب لهما خطة مغادرة مطار إسطنبول متجهين إلى ستوكهولم، دون أن يحمل جواز سفر أي منهما ما يشير إلى كيفية دخولهما إلى البلد الذي يغادرانه.

عندما استقر المقام أخيرا بعابدة في كندا كوطن بديل تقبلها وصبيها الذي كان قد بلغ السابعة، بدأ فصل آخر من معاناتها في عالم جديد لا تعرفه ولا تفهمه، ولا تمتلك ما يعينها على تكلفة الحياة الباهظة فيه غير المعونة الشهرية الزهيدة التي تتكفل بها وكالة إغاثة اللاجئين، والتي لا تغطي حتى إيجار الغرفة الضيقة داخل شقة أسرة من أصول عراقية قرب وسط ضاحية أوشاوا، على بعد دقائق من محطة الباص التي تركب منها إلى محطة قطار الضاحية المتواضعة، حيث تستقل القطار المكتظ بسكان الضواحي كل صباح خمسة أيام في الأسبوع، إلى محطة يونيون في قلب تورونتو، حيث تلك الأبراج الزجاجية الشاهقة التي تظلل الشوارع فيما بينها بظلمة مخيفة؛ فلا يكاد نور الشمس - في تلك الأيام النادرة التي تسطع فيها الشمس على تلك المدينة الباردة - يصل إلى رءوس المارة المهرولين فيها، حاملين حقائبهم الجلدية، ومرتدين جميعهم تقريبا - رجالا ونساء - سترات رسمية داكنة الألوان، وكأن مؤتمرا عالميا يعقد في الجوار. ظلت عابدة تمارس روتينها الأسبوعي لسنوات خمس، تغادر المنزل مع صغيرها في الخامسة وأربعين دقيقة لكي تلحق بالباص الذي يغادر في السادسة إلا أربع دقائق، ليصل إلى محطة القطار في سبع وعشرين دقيقة، فيهرولان إلى المدرسة القريبة من المحطة حيث ينتظر الصبي بداية يومه الدراسي، الذي يعود في نهايته إلى البيت في سيارة مشتركة قديمة الطراز يقودها مهاجر باكستاني سيئ المزاج على الدوام، ثم تستقل عابدة قطار الضواحي لمدة ساعة ربما تزيد أو تقل في حدود الدقائق الخمس، حتى تصل إلى محطة يونيون في حدود الثامنة والنصف، ثم تسير عبر شارع باي حتى تقاطعه مع شارع كوين مسافة تتراوح ما بين العشر دقائق إلى ربع الساعة على حسب إيقاع خطواتها الذي يعتمد على حالتها المزاجية، وعلى درجة لياقتها البدنية، وعلى حالة الطقس، حتى تصل أخيرا إلى ذلك المبنى العتيق من الطراز الأمريكي الكلاسيكي ذي الطوابق الخمسة بواجهته الحجرية البنية المجددة مؤخرا، والزخارف المتقنة الغنية التي تحيط بالأفاريز والنوافذ الكبيرة في الطابقين السفليين منه. أحبت ذلك المبنى وأحبت مبنى مجلس المدينة القديم المواجه له والأقدم منه، بقدر ما نفرت مما يحيط بهما من كتل خرسانية شاهقة الارتفاع فاقدة للروح ومكسوة من كل جوانبها بالزجاج، كان جمال عمارة ذلك المبنى وارتفاع أسقفه الذي يمنح الشعور بالاتساع هما عزاؤها الوحيد عن الوظيفة الشاقة ذات العائد الضئيل التي تقضي فيها يومها داخل المبنى من التاسعة صباحا إلى الخامسة عصرا، تتخللها استراحة الظهيرة التي يخرج فيها غالبية الموظفين لتناول الغداء في المطاعم وأكشاك الطعام المتناثرة في الشوارع المحيطة، بينما تبقى هي في الغرفة شديدة الضيق الملحقة بدورات المياه النسائية المجمعة في نهاية ردهة الطابق الثالث؛ لتستريح من عناء تنظيف حمامات وأرضيات الطابق، ولتتناول وجبة منزلية خفيفة تعدها لنفسها في الصباح الباكر. لا تخرج في استراحة الغداء كالجميع لأسباب ثلاثة؛ أولها هو أنها على العكس منهم جميعا لا تسعى إلى تحريك جسدها بعد طول الجلوس أمام مكتب ما، بل تسعى للاستراحة من الحركة المتواصلة طوال اليوم. وثانيها أنها تنتظر تناول وجبة الغداء مع صغيرها بعد أن تعود إلى المنزل قرب السابعة. وثالثها وهو الأهم أنها لا تملك رفاهية إنفاق المال كل يوم على المطاعم ولا حتى على عربات الطعام الرخيصة.

بعد أن أتمت في هذا العمل خمس سنوات وشهرين بالضبط انتقلت عابدة من الغرفة شديدة الضيق الملحقة بدورات المياه النسائية المجمعة في نهاية ردهة الطابق الثالث، إلى طاولة متوسطة الحجم داخل صالة واسعة ذات نوافذ كبيرة مطلة على الشارع في قسم التمويل الواقع في الطابق الأول، حيث يمكنها وهي جالسة متابعة المارة المهرولين في شارع كوين، والمتسكعين أمام عربات الوجبات الخفيفة التي أصبحت منذ ذلك اليوم من زبائنها الدائمين في استراحة الغداء. حصلت عابدة على إحدى الوظائف الثلاث التي أعلنت عنها الشركة مؤخرا، مستفيدة من أفضلية أنها بالفعل موظفة في ذات المؤسسة، ومستندة على الشهادة المعتمدة التي حصلت عليها قبل شهرين من حكومة مقاطعة أونتاريو، بعد أن اجتازت اختبار اعتماد المحاسبين العموميين بنجاح، سعت إليه لعامين متواصلين درست فيهما أثناء استراحة الغداء وخلال رحلتي القطار اليوميتين ذهابا وعودة؛ حتى تعادل شهادة الليسانس في المحاسبة التي كانت قد حصلت عليها قبل سبعة أعوام من جامعة كربلاء، وحتى تستطيع الحصول على ترخيص بالعمل كمحاسبة في هذه البلاد الجديدة التي لا تعترف بغير معايير أمريكا الشمالية. انتقلت عابدة بعد ستة أشهر في تلك الوظيفة إلى استوديو صغير لكنه يخصها هي وصغيرها فقط، كما أنه مجاور للمحطة التي تستقل منها القطار إلى عملها، وقريب من مدرسة ولدها الذي أصبح يمشي دقائق قليلة إلى المدرسة على رصيف آمن تظلله أشجار ضخمة، بصحبة رفاقه الجدد من صبية وبنات المنطقة الذين تأقلم معهم وصار عضوا أساسيا في فريقهم الصغير لكرة السلة. كان ياسين قد سبقها في الالتحاق بنفس الصالة الكبيرة قبل شهر واحد، وكانا يستعينان ببعضهما البعض للتأقلم مع ذلك العالم الجديد على كليهما؛ حيث كانا الوحيدين في الطابق كله اللذين يتحدثان العربية، وينتميان إلى تلك البقعة البعيدة من العالم التي لا يعرف أي من زملائهما الباقين عنها أكثر من أن اسمها «الشرق الأوسط»، وأنها تموج بحروب طاحنة لا نهائية تمر سريعا على آذانهم في عناوين الأخبار ولا يفهمون لها سببا. •••

انتبه ياسين فجأة عندما توجه ببصره إلى خارج النافذة إلى أن محطته كانت قد مرت منذ زمن، استغرقته التأملات كثيرا حتى أظلمت السماء بالخارج فزادت منظر الثلوج كآبة، ولم يعد في القطار إلا القليلون ممن لم تأت محطاتهم بعد، التفت إلى رجل مسن يجلس في المقعد المجاور له وقد تدثر بمعطف صوفي ثقيل، ولف حول رقبته كوفية وغطى رأسه بقبعة قديمة الطراز. سأله ياسين بنبرة مهذبة: أين نحن الآن يا سيدي؟ أي محطة هي التالية؟

التفت إليه الرجل ببطء وتطلع بعينيه الزرقاوين اللتين تحيط بهما التجاعيد إلى وجه ياسين، وقال في بطء: لقد تجاوزنا هاملتون منذ دقيقة يا بني، يبدو أننا تخطينا محطتك، لقد كنت تحدق في شاشة جهازك هذا لوقت طويل كما يفعل الجميع في هذه الأيام على ما يبدو. إلى أين تريد أن تذهب على أي حال؟

ابتسم ياسين وأجاب في نبرة ودية: كنت سأنزل في محطة أوك فيل أيها السيد، لكن يبدو أنها فاتتني وأنه علي الآن أن أنزل في المحطة التالية. لا أعرف كم من المحطات علي أن أقطع في الاتجاه المعاكس، هذا مؤسف للغاية، لكن أشكرك.

طأطأ الرجل المسن رأسه وأجاب في بطء وبنبرة شعر ياسين بأنها تحمل من المعاني أكثر مما تبدو: لا بأس يا بني، ربما ليس هذا سيئا كما تظن، ربما عليك أن تفوت محطتك من حين لآخر، لا بأس بتجربة محطات أخرى، ربما يمكنك أن تجد ما يثير الاهتمام في الاتجاه المعاكس، بصرف النظر عما سيكون عليك قطعه من محطات.

صحراء

كانت الشجرة تتألم من أعماقها وهي تحاول جاهدة سحب جذورها الضاربة في عمق الأرض، كانت تحاول الانكماش قدر المستطاع، لم يعد يشغلها الوصول إلى الطبقات الرطبة المخفية تحت الرمال بحثا عن بقايا الماء؛ فقد كان الماء يأتيها الآن سهلا؛ يأتي أحد هؤلاء البشر الذين بات يعج بهم المكان ويلقي عليها ببعض الماء كل بضعة أيام، لم تكن تحتاج كل ذلك الماء، ولم تكن تحبه فقد؛ سبب تعفن بعض جذورها، وكاد يزيل كل الغبار العالق على أوراقها وأغصانها، والذي كان كل ما بقي لها من ذكريات الزمن القديم، كانت رائحة الأرض البعيدة التي حملته منها الريح لم تزل عالقة به تذكرها برفيقاتها من الأشجار والكائنات التي كانت ترتع هنا يوما ما في ألفة وحرية، لم يعد لها هنا من شيء. تقلصت رمال الصحراء حتى انحصرت في بقعة صغيرة بقيت هي وحدها فيها كأنما نسيها الزمن هنا، كأنما غفلت عنها تلك الوحوش الكبيرة وهؤلاء البشر الكثيرون، لم تعرف قط لماذا لم يقتلعوها مع رفيقاتها ولماذا لم يلقوا بها معهن، لماذا هي بالذات؟

لم تكن الآن تتشبث بالأرض، توقفت عن مد جذورها إلى الأعماق، بل صارت تمقت الأرض والرمال والمشهد كله، كانت تريد المغادرة، فقط لو استطاعت التحرك كالثعابين والقنافذ لهربت من هنا باحثة عن صحرائها المفقودة، بعيدا عن هذا المكان القبيح المقبض الذي تحجب فيه تلك الهياكل العالية الضوء والهواء، تلك الأشياء الضخمة الملساء بأعينها الزجاجية الكبيرة والكثيرة تظل رابضة بلا حراك ، فاتحة فمها للبشر يدخلون ويخرجون وكأن ما بداخلها محض خواء، لا تبتلعهم ولا تتقيأهم، ولا هم يكفون عن الدخول والخروج منها كل صباح ومساء، قادمين في جوف وحوش صغيرة ذات ألوان زاعقة وأصوات مزعجة، يتركون وحوشهم الصغيرة تلك في الخارج كأنها ميتة، تنتظرهم في سكون تام حتى يعودوا فتصحو وتنطلق بهم هاربة إلى الأفق البعيد، وتختفي حتى تعود في الصباح التالي لتلفظهم خارج جوفها مرة أخرى.

Página desconocida