Años del Agujero Negro

Husayn Mihran d. 1450 AH
29

Años del Agujero Negro

سنوات الثقب الأسود

Géneros

كانت فريدة تجتهد في رفع صوتها ليصل إليه، لكن الضجيج كان أعلى من أن تهزمه طبقة صوتها الضعيفة، تداخل الراقصون والسابحون بينهما وقد أصبحا في الماء حتى ما دون الركبة بقليل، انتهت الأغنية الأولى وتصاعد الصياح والصفير والتصفيق من حولهما مرة أخرى، وعندما هدأ الضجيج قليلا في انتظار إعلان النجم عن الأغنية التالية، قالت رافعة صوتها أكثر وهي تقاوم الانجراف وسط الحشد المتحرك الراقص: لن أترك مصر يا ياسين، لقد عرضت علي الدكتورة نجوى أستاذتي في الكلية أن أعمل في مكتبها، سأبدأ العمل من بداية الأسبوع القادم، لم نتحدث بعد عن الراتب ولكنني أعرف متوسط ما تدفعه للخريجين الجدد، وهذه فرصة جيدة لي.

أجابها بصوت مرتفع وقد فرق بينهما الزحام قليلا: سأذهب أنا يا فريدة، لن أطلب منك التضحية بمستقبلك. سأذهب وحدي ثم أعود إليك لنتزوج، فقط أربعة أعوام كما وعدتك، وسأعود في إجازة كل عام بالطبع.

ازداد الضجيج مرة أخرى عندما أعلن النجم أنه سيغني أغنية جديدة للمرة الأولى، حبس الجميع أنفاسهم انتظارا للمفاجأة، ازداد ابتعادهما مع تحرك الجموع خارجة من الماء في اتجاه المنصة، صار هو في الماء إلى ما فوق ركبتيه، بينما جرفتها الجموع في اتجاه الرمال قليلا . قالت بينما كانت الجموع في نشوة الترقب: لن تعود بعد أربع سنوات يا ياسين، أربع ستجر أربعا ثم أربعا، ستضيع أعمارنا في الانتظار.

انطلق النجم يشدو بأغنية جديدة ستصدر في الألبوم الجديد:

ملهاش حل تاني، ملهاش حل تاني

يا نعيش الحياة أنا وانت، يا وقفت ف مكاني.

يزداد ابتعادهما حتى لا يكاد بمقدوره رؤيتها بوضوح من بين الوجوه والصيحات والأيدي المرفوعة بالتصفيق، يصيح محاولا إيصال كلماته إليها عبر الضجيج الهادر المحيط بكل الأشياء من حولهما: سأعود يا فريدة، سأعود.

لم يعد بإمكانه رؤيتها أو سماع صوتها، ازدادت الأعداد على الرمال وفي الماء إلى أضعاف ما كانت عليه، لم يعد يمكنه تمييزها من بين الجموع الصاخبة، بحث عنها، صاح باسمها، اخترق الحشود طلبا لما يوصله إليها، خرج إلى البوابات ثم عاد إلى الشاطئ، ابتعد عن الحشود الراقصة ثم عاد وألقى بنفسه داخلها، توالت الأغنيات وازداد الصخب حتى أصبح فوق قدرته على الاحتمال. الكل يرقص ويصيح ويرفع ذراعيه عاليا بالتصفيق، كان العالم كله من حوله يسبح في الضجيج، لكن فريدة لم تكن في أي مكان. •••

في صباح اليوم التالي اندفع ياسين داخلا محطة القطار في سرعة يداري بها عصبية وتوترا بالغين؛ كان قد قضى الليلة السابقة منذ عاد من العجمي بدون فريدة بلا دقيقة نوم واحدة، كانت رأسه تغلي بالأفكار وعقله يعالج كل التباديل والتوافيق لكل الاحتمالات الممكنة لأي من القرارين، لكنه فشل تماما في اتخاذ قرار محدد؛ أيبقى من أجلها أم يسافر من أجل مستقبله ومن أجلها أيضا؟ لم يكن يعرف إلى أين هو ذاهب، لكنه توجه مباشرة إلى شباك حجز التذاكر ذي الواجهة الزجاجية على الجانب الأيمن من صالة المدخل الفسيحة لمحطة قطار سيدي جابر، التي يحتل جانبها الآخر بائع الصحف والمجلات والكتب الذي يثبت معروضاته على هيكل معدني كبير بمشابك غسيل خشبية. انتظر طويلا بنفاد صبر في الطابور أمام شباك التذاكر حتى حان دوره، فطلب حجز تذكرة من الدرجة الثانية في أول قطار مغادر إلى القاهرة، أخبرته الموظفة البدينة ذات النظارات السميكة بلا مبالاة بأن القطار الإسباني موجود بالفعل على رصيف المحطة وأنه سيغادر حالا إن كان يستطيع الركض للحاق به. ناولها بلا تردد من خلال الفتحة الدائرية الصغيرة في الزجاج الفاصل بينهما ورقة من فئة العشرين جنيها، وطلب منها أن تطبع التذكرة بسرعة، ثم خطف التذكرة من يدها بمجرد أن تناولتها من الماكينة وركض دون أن يلتفت لندائها غير الملح ولا لنداءات الواقفين في الطابور له ليستعيد باقي نقوده. اصطدم في ركضه عبر النفق الذي يمر أسفل أرصفة وقضبان المحطة بكتف رجل أشيب يهبط الدرج على مهل، اعتذر له بكلمات مبهمة وهو يواصل الركض، ولم يسمع شيئا من السباب الذي انهال به الأخير عليه وعلى الأجيال التي لم تجد من يربيها، وصل أخيرا للرصيف الذي يقف به القطار فألقى بنفسه داخل أول باب قابله دون أن يعرف أي عربة كانت تلك وأي عربة يقع بها المقعد الذي حجزه، ولولا أنه يعرف المحطة ويعرف جيدا شكل القطار الإسباني والرصيف الذي يقف عنده؛ لكان ربما ألقى بنفسه داخل قطار آخر. التقط أنفاسه داخل العربة وأخذ يبحث عن رقمها وينظر في تذكرته، في حين كان القطار قد بدأ بالفعل في التحرك، أدرك أنه في العربة التاسعة وأنه كان عليه أن يقطع ست عربات حتى يصل إلى حيث مقعده في العربة الثالثة. بدأ في التحرك إلى وجهته مضطرا إلى الانتظار كل بضع خطوات حتى تنتهي فتاة شابة من تعديل وضع حقيبتها التي تعيق الحركة، أو حتى يجلس رجل ضخم بعد أن يصف صناديق كرتونية كثيرة فوق الرف العلوي، أو حتى يفصل مفتش التذاكر ذو الزي الكحلي الباهت والشرائط الذهبية على الأكمام بين ركاب يتنازعون على مقعد. ظل يسير متأرجحا عبر الممر الضيق الطويل بين صفوف المقاعد في كل عربة، ثم يفتح الباب ليخرج إلى تلك المنطقة الصغيرة بين العربات، والتي يفترشها من ركبوا دون أن يحجزوا تذاكر، أو من يريدون التدخين، ثم يعود ليفتح باب عربة جديدة ويسير من جديد عابرا ممرا ضيقا طويلا آخر بين صفوف مقاعد أخرى ثم يفتح الباب إلى منطقة فاصلة جديدة. وهكذا يتناوب على رئتيه هواء العربات المكيف وهواء المنطقة الفاصلة المعبق بخليط أدخنة التبغ، يتنقل ما بين الهدوء النسبي داخل العربات وبين صخب العجلات الحديدية وضجيج المدخنين في المناطق الفاصلة بينها؛ كان ذلك يضغظ على أعصابه المتوترة سلفا حتى توقف لالتقاط أنفاسه في إحدى المناطق الفاصلة قبل عربتين من موقع مقعده.

سعل مرتين من تأثير الانتقال من هواء العربة المكيف إلى هذه المساحة سيئة التهوية، التي تكدس فيها دخان أنواع مختلفة من التبغ حتى لم تعد الرؤية فيها يسيرة إلا بعد أن تتعود العين على تلك الغلالة الضبابية وتبدأ في تمييز الملامح، حتى الأصوات لم يكن من السهل تبينها وسط الضجيج الهادر للعجلات الثقيلة على القضبان الحديدية. كان الجميع هنا مثله، صامتين كأنما هم كذلك هاربون من ضجيج البشر في الداخل إلى ضجيج الآلات الحديدية هنا؛ لعلهم يفضلون إزعاج الجماد عن إزعاج البشر، أو لعلهم يختطفون فقط تلك الدقائق القليلة للحصول على جرعة من التبغ لعلها تعينهم على مقاومة كل ذلك الصخب.

Página desconocida