الحب عذب لا يذقه مقيد
بحدود شهوته ولا معلول
شعر ابن الخياط (1058-1123م)
صحراء
بدأت الكائنات الضخمة ذات الألوان الفاقعة المزعجة للعين وسط ألوان الصحراء الباهتة المتناغمة أول ما بدأت بالتهام الشجر وتسوية الرمال، في أيام معدودة اختفت كل الأشجار المجاورة لها، لم تفلت من تلك المجزرة إلا أشجار بعيدة متناثرة؛ في أول صباح اختفت الشجرة الأقرب إليها، تلك التي كانت في مثل عمرها والتي كبرت معها، والتي واجهت بجوارها العاصفة العاتية التي هبت قبل ربيعين حاملة معها رمالا غريبة من أرض ليست كأرضها، لم تزل بقايا تلك الرمال عالقة على بعض أغصان كلتيهما، تكادان تشمان فيها رائحة الأرض البعيدة التي جاءت منها، ثم اختفت الشجيرات الثلاث الوليدات إلى الغرب منها، كانت قد شهدت مولدهن في شتاء قريب بعد أن ابتلت الرمال بمطر كثير تهاوى على الصحراء غزيرا مفاجئا، حتى إن الرمال لم تستطع ابتلاعه؛ فبقي لأيام كبحيرات صغيرة جعلت من تلك البقعة واحة مؤقتة جذبت إليها الدواب والحشرات وملأتها حياة وبهجة، ثم نبت محلها بعدما جفت تلك الشجيرات الوليدة.
اختفت كل الأشجار القريبة، راحت كل رفيقات أمسياتها وصباحاتها، ولم يتبق لها بعدهن أنيس. كانت الأشجار المتبقية بعيدة وغريبة، صارت تتشبث بالأرض أكثر وأكثر كلما اقتلعت إحدى صديقاتها من الشجر، صارت تمد جذورها في عمق الأرض أبعد وأبعد لعلها تحتمي بها. ولم تكن تلك الكائنات تهدأ أو ترتاح، لم تكن تتوقف عن اقتلاع الأشجار من الجذور وإلقائها في كومة بعيدة ظلت تكبر وتكبر كمقبرة مكشوفة. تقتلع كل شجرة في لحظات، يرتفع في الهواء جذعها وأغصانها وشبكة جذورها التي كانت ضاربة في عمق الأرض، تصبح في غمضة عين مجرد قطعة بالية من الخشب المشقق لا أصل لها ولا وطن، لا جذور لها في الأرض. تتطاير ذرات الرمال العالقة بجذورها المقتلعة في الهواء وهي في قبضة تلك الوحوش الغاشمة، يتساقط منها الوطن وهي عاجزة عن لملمة هويتها وتاريخ أسلافها.
الفصل الخامس
فبراير 1992م
أمام باب شقة فريدة كان ياسين واقفا حسب الموعد المتفق عليه في ذلك المساء الشتوي، وفي يده علبة كرتونية مغلفة بورق تغليف ذلك المحل الشهير للشوكولاتة، الواقع على ناصية شارع النبي دانيال عند نهايته متعامدا على شارع سعد زغلول، والذي يقدر جودة منتجاته كل السكندريون. فتحت له فريدة الباب فدخل مرتديا معطفا صوفيا بنيا، كان لوالده منذ زمن، لكن موضته عادت إلى الواجهة، فوق بلوفر أبيض رقيق من الطراز ذي الرقبة العالية الذي انتشر في تلك السنوات، وبنطالا صوفيا أسود وحذاء جلديا أنيقا اشتراه خصيصا لهذه المقابلة. ستتذكر فريدة كل تلك التفاصيل لسنوات طويلة قادمة، بينما لن يتذكر هو شيئا من ذلك بالطبع باستثناء الحذاء الذي اشتراه بمبلغ كبير بالنسبة له؛ لأنه لم يكن يملك حذاء رسميا يليق بمقابلة بهذه الأهمية، فاضطر إلى اقتراض جزء من ثمنه من والدته. كان قد اتفق مع فريدة على أن يذهب هو أولا لمقابلة والدتها التي طلبت التعرف عليه بشكل غير رسمي قبل أن يقابل الوالد فور تخرجه، لم يكن هو كذلك يرغب في مقابلة والدها وهو لم يزل طالبا؛ فلم تكن كرامته لتتحمل أن يرفضه الرجل لهذا السبب. دخلت الأم في ثوب طويل فضفاض ووشاح خفيف على شعرها، وصافحته في ود ثم قدمت له الشاي وبعض الفاكهة، وبادلته بعض عبارات الترحيب والمجاملات الروتينية التي كان يضجر منها ولا يعرف كيفية الرد النموذجي على أغلبها، ثم فاجأته بسؤال مباشر طرحته عليه بنبرة هادئة وعلى وجهها ابتسامة ودودة تحمل بعض التواطئ كما لو كانت تريد أن تقول له إنها تعرف كل شيء: حسنا. لماذا تريد الزواج من ابنتي يا أستاذ ياسين؟
أربكه السؤال بشدة فبدأ يتململ في جلسته ويتعرق رغم الجو البارد، ارتشف بعضا من الشاي ليمنح نفسه القليل من الثواني للتفكير في ذلك السؤال غير المتوقع ثم قال في ارتباك: إن ... إن ابنتك فريدة ... أخلاقها وأدبها ... و...
Página desconocida