Saladino Ayyubi
صلاح الدين الأيوبي وعصره
Géneros
كل ذلك يظهر لنا أن الذين كانوا زعماء الحرب الصليبية الثالثة لم يهبوا هبة مضطربة صاخبة مثل هبة الحرب الأولى، بل ساروا لغرض مدبر وقصد معين، كل يرمي من ناحيته إلى هدف يبغي أن يصيبه.
على أننا لا نقدر أن نقول: إن الحماسة كانت غير متأججة في نفوس المحاربين؛ فإن الحماسة بين عامة الجند كانت عظيمة ثائرة للجرح الجديد وهو الاستيلاء على بيت المقدس وسواه من البلاد التي كانت للمسيحيين مدة قرن ثم استولى المسلمون عليها، لكن تلك الحماسة لم تكن بها شدة الحماسة الأولى ولا مرارتها.
ولا يسعنا إذا رأينا ما تخلل تلك الحرب الثالثة من المداعبات بين المسلمين والمسيحيين ومن المزاح أحيانا، وما كان بين ملوك هؤلاء وأولئك من التقدير والتفاهم أحيانا والإجلال المتبادل؛ نقول لا يسعنا إذا رأينا ذلك إلا أن نعد تلك الحرب ميدانا للمسابقة بين الشرق والغرب، كل يريد أن يظهر صلاحه وقوته، فلم تكن كلمة اليوم بها مثل كلمة اليوم في الحرب الأولى:
ليس بيني وبين قيس عتاب
غير طعن الكلى وضرب الرقاب (22) أمام عكا
اجتمع من اجتمع من الفرنج في صور، وأوقف صلاح الدين تجاههم جماعة من رجاله يراقبونهم، وكان يعرف أنه قد ارتكب شرا بسماحه للفرنج أن يذهبوا إلى صور من كل جانب.
ولكنه في الوقت ذاته كان مضطرا إلى ذلك بحكم السياسة، فكان ذلك في نظره أهون الشرين، وما كان مخيرا إلا بين هذا وبين أن يستبسل له كل حصن ويضيع عليه الوقت في حصارات لا عد لها. وعلى أي حال لقد أصبحت صور مجتمع بقية فرسان الصليبيين، وزادهم قوة من انضم إليهم من وراء البحر، ولما شعروا بقوة عددهم وأن صلاح الدين لا يستطيع حصار مدينتهم جعلوا يخرجون بين حين وحين إلى ما جاورهم من البلاد، وكان صلاح الدين يدبر لهم الكمائن والبعوث تمنعهم من أن يفسدوا شيئا من بلاده، وأخيرا استقر رأيهم على أن يذهبوا إلى عكا لاسترجاعها فيكون بذلك لهم مدينتان عظيمتان على الساحل الأوسط.
كان صلاح الدين عند حصن الشقيف في الجبل ينتظر أن يأخذه، فبلغه خبر سير الفرنج من صور نحو عكا، فظن ذلك خديعة منهم يريدون صرفه عن الحصن الذي هو دونه، فتريث حتى عرف أنهم جادون في السير نحو عكا، فأسرع بمكاتبة الأمراء ليأتوا إليه، فاجتمع إليه جيش عظيم، وجمع مجلسا حربيا ليختار طريق السير، أيساير الفرنج على الساحل ويقاتلهم قبل بلوغ عكا؟ أم يلقاهم هناك على المدينة بعد أن يسلك طريقا في الداخل مارا بطبرية؟ فاختار أمراؤه الخطة الأخيرة فهي أهون، وكان هو غير راض عنها؛ لأن الفرنج متى تركوا آمنين حتى يصلوا إلى عكا أمكنهم اختيار المكان اللائق والتحصن حولها، فيصعب بعد ذلك حربهم، ولكنه على كل حال اتبع ما أقره المجلس على حسب عادته فقد كان رأي أمرائه أكبر من أن يهمله، وكانت نتيجة إرغامهم على سلوك خطة معينة أخطر من أن يجربها ذلك السلطان العاقل؛ فالحق أن سلطته كانت قائمة على قوة شخصه ونفوذه في أمرائه أكثر مما كانت قائمة على سلطان دولة مركزية قوية.
وكان أول هم صلاح الدين عند بلوغه عكا أن يرسل إليها الأمداد بعثا وراء بعث قبل أن يستفحل أمر حصار الفرنج لها.
وأصبحت المدينة - بعد زمن قصير - محصورة بالفرنج تحت ملكهم «كي» والأمير الكبير المركيش «كنراد»، ونزل حول الفرنج من الخارج جيش صلاح الدين، وكان البحر مفتوحا يمد الفرنج من جهة بما يأتي مع أساطيلهم، ويمد المدينة خفية؛ لأن أسطول الفرنج في البحر كان عند ذلك أقوى من أسطول المسلمين.
Página desconocida