فأكب جوهر على يد بهاء الدين يقبلها ويتظاهر بالندم والإخلاص وقال: «يعلم الله أني كنت مغشوشا، فإن ذلك الرجل خدعني وأوهمني أنه يد الإمام المرحوم ويفعل ما يشاء. ثم علمت أنه يريد به شرا وأنا قد ربيت في خدمة مولاي، فلا يليق بي أن أغدر به. فلما تحققت سوء قصد أبي الحسن تركته لأني أكره الخيانة. ولا سيما لمن أحسن إلي وأنا صنيعته وعبده.» فقال قراقوش وهو يظهر أنه صدقه: «بارك الله فيك ... واعلم أني حسن الظن بك وسأزيد في عطائك ولا أسألك عما مضى. وإنما أطلب إليك أمرا واحدا هو هين عليك وفيه انتقام لك من ذلك الخائن، فهل تطيعني؟» فلم يصدق جوهر أنه نال هذه الرعاية بعد خياناته الماضية فقال: «إني رهين الإشارة يا سيدي.» قال: «أطلب منك أن تخبرني عن المكان الذي يجتمع فيه أبو الحسن وأقرانه، هل تعرف أين هو؟»
قال: «ذلك هين يا سيدي ... نعم أعرفه وأعرف الذين يجتمعون معه - قبحهم الله - كنت عازما أن أطلعكم على ذلك، وإن لم تسألوني عنه فإنه فرض علينا، وكان يمنعني الخجل من خطئي الماضي.»
فربت على ظهره وضحك وقال: «عافاك الله، هل المكان بعيد من هنا؟» قال: «هو في الفسطاط يا سيدي.»
قال: «الآن تحققت صدقك؛ لأني كنت عالما أنه هناك. فأنا واضع ثقتي فيك من هذه الساعة. وأنت تعلم أن ثقتي هي ثقة مولانا السلطان، ولا يخفى عليك ما يستفيده صاحب هذه الثقة. أصلح ما أفسدته يا جوهر، وقد أوصتني مولاتنا سيدة الملك خيرا بك وأخبرتني كم كنت مخلصا في خدمتها قبلا. ولكن ذلك الخائن أغراك بهذه الخيانة. مضى ما مضى تعال معي.» قال ذلك وتحول وتبعه جوهر. وقد بادر إلى العمل قبل أن يحدث ما يغير عزم ذلك الغلام المتقلب. وصمم ألا يفارقه قبل الوصول إلى المطلوب. على أنه تذكر أمرا أحب أن يقوله لسيدة الملك قبل الذهاب، فرجع إليها وقال: «ينبغي لك يا سيدتي أن تتكلي علي في كل ما يخطر لك، ولا بد أنك تذكرين اطلاعي على مجيء عماد الدين إلى قصرك، وأحمد الله على أنه نجا سالما.» فاغتنمت تقربه إليها وتلطفه في طمأنتها وقالت: «أما وأنت معي وقد رأيت السلطان راضيا عني فإني أتقدم إليك أن تزيدني بيانا عن حال عماد الدين.» قال: «لا أعرف عن حاله الآن غير ما في كتابه الذي تلوته عليك الساعة.» قالت: «أعني هل عليه خطر هناك؟ ومتى تظنه يعود؟»
قال: «لا أعلم متى يعود، أما الخطر فلا أخافه عليه لعلمي بشجاعته وتعقله، ولا بد من الاتكال على الله ... كوني مطمئنة في كل حال.» قال ذلك ومشى.
فهرع جوهر في أثره وقد سره ما يؤمله من الفوز بالمكافأة، لا يهمه ما يترتب على عمله من قتل النفوس وخراب البيوت. إن أمثال هذا الخائن ينقصهم الشعور الحي الذي يسمونه الضمير. فهم ينظرون في الأعمال من حيث ما يعود عليهم من النفع ولا يشعرون بغير ذلك. والدنيا عندهم لها وجهان: وجه منفعتهم، وهو ما ينبغي بقاؤه، وأما الوجه الآخر فهو كالعدة في نظرهم، فلا يبالون أن يمحى من الوجود أو يساق أصحابه إلى المجازر. وقد يسرهم ما يرونه في الآخرين من الأذى وإن لم ينالوا هم منه خيرا لأنفسهم. فكيف إذا كان لهم منه نفع. نعوذ بالله من هؤلاء. لكنهم بحمد الله قليلون ولو كانوا كثارا لخربت الدنيا من عهد بعيد. •••
مشى قراقوش وجوهر في خدمته، وكان جوهر مملوكا حبشيا وفيه ذكاء ، لكنه لم يكن له ضمير كما علمت، فالتفت قراقوش إليه في أثناء الطريق وقال: «يا جوهر ما العمل الآن؟» قال: «الأمر لمولاي.» قال: «أنا متكل عليك في الوصول إلى الغرض، أريد أن أطلع على مجتمع القوم وأسمع حديثهم، هل يتيسر ذلك الليلة؟»
قال: «نعم يا سيدي، نذهب بعد الغروب إذا شئت.» قال: «إلى أين؟» قال: «إلى الفسطاط؛ لأن القوم يجتمعون في بيت هناك أعرفه، ولا يمكن أن يهتدي إليه سواي، في دار خربة لا يتوصل إليها إلا من أزقة ضيقة مظلمة، ولا بد من التنكر.»
قال: «وماذا ترى أن نفعل؟» قال: «أرى أن يتنكر مولاي الأستاذ بلباس طبيب نصراني وأنا أكون في خدمته أحمل له جراب العقاقير وأقود بغلته.»
قال: «هذا هين.»
Página desconocida