فرأى الهكاري كلام أبي الحسن معقولا. فأدرك أن عمله هذا خيانة لأهل الخليفة، لكنه نظر فيه من حيث مصلحة السلطان؛ لأنهم إذا أعانوا هذا الخائن على تولي الخلافة كان عونا لهم فيما يريدون ويهون عليهم أن يخلعوه فيما بعد إذا شاءوا، فضلا عن أنه يسهل على صلاح الدين التزوج بسيدة الملك على يده فيتم تدبيره. فنظر إلى أبي الحسن نظر متفرس وقال: «أنت مقدم على عمل عظيم فيه نفع كبير لك.» قال: «لا أنكر ذلك ولكنني أخدم مصلحة السلطان صلاح الدين أيضا من كل وجه، وإذا لم تصغ لرأيي تعبتم جميعا؛ لأن المصريين قلوبهم مع خلفائهم كما لا يخفى عليك. أرني مهارتك في إتمام هذا الأمر، واعلم أنك ستكون أقرب المقربين.» قال: «لك علي ذلك. سأبذل ما في وسعي في هذا السبيل ونرى ما يكون.» فتحفز أبو الحسن للنهوض وهو يقول: «أنا ذاهب وسنلتقي غدا ولا حاجة بي إلى تنبيهك لأن يبقى ما قلناه مكتوما عن كل إنسان.»
قال: «لا حاجة إلى التوصية.»
ونهض أبو الحسن وركب بغلته وعاد. وظل الهكاري واقفا برهة يعيد في ذهنه ما سمعه فرأى فيه خيرا كثيرا. فبادر إلى تنفيذه وسار إلى صلاح الدين، فرآه مع أبيه في شرفة تطل على الخليج وقد جلسا هناك للاستراحة فاستأذن عليهما، ولما دخل أمره نجم الدين بالجلوس فجلس وتكاد عيناه تنطقان بما في خاطره، فقال له صلاح الدين: «ما وراءك يا ضياء الدين؟» قال: «جئت مولاي بأمر مهم.» قال: «كل ما تأتي مهم به نافع. إني لا أنسى بلاءك في مصلحتنا. قل.»
فأخذ يقص عليه ما دار بينه وبين أبي الحسن من أوله إلى آخره والاهتمام ظاهر في عينيه، فلما فرغ من كلامه أبرقت عينا صلاح الدين ونظر إلى أبيه كأنه يستشيره في الأمر. وكان نجم الدين يسمع كلام الهكاري ويمحصه ويزنه ويتدبره. فلما رأى صلاح الدين ينظر إليه قال: «إنه رأي جميل لكنه ما زال فطيرا ولا سيما أن العاضد ما زال حيا، فإذا مات نظرنا في الأمر. بارك الله في همتك يا أبا محمد.» وسكت. فعلم الهكاري أنه ينبغي له أن ينصرف ليخلو الأميران ويتباحثا فاستأذن وخرج.
فلما خلا نجم الدين بابنه جعل يتفرس في عينيه كأنه يطلب إليه أن يقول ما في خاطره فقال صلاح الدين: «ما رأي والدي فيما سمعه؟» قال: «إنما أسألك عن رأيك.» قال: «إني أرى فرصة لا ينبغي ضياعها. لا أنكر أنها خيانة من أبي الحسن هذا لكنها تفيدنا. وإذا وليناه الخلافة بأمرنا زاد نفوذنا وكان آلة في يدنا.» فابتسم نجم الدين ابتسامة استخفاف وقال: «إنك يا يوسف رجل حرب ورأي. ولكنك ما زلت في حاجة إلى الدربة والحيلة ... استفدنا من وشاية هذا الرجل أن القوم إذا مات خليفتهم تضعضعوا واختلفوا فيما بينهم، وهي فرصة لقطع تلك الخلافة من جذورها. ولا نبايع هذا ولا غيره، وإنما نقبض على القصور ونحبس أهلها الذكور أصحاب الحق في الخلافة حتى يبيدوا. وقد خطبنا للخليفة العباسي منذ مدة ولا بد من الشدة والحزم فينتهي الأمر. أليس ذلك خيرا من أن نبايع خليفة آخر ونعود إلى التعب من أوله؟» فأعجب صلاح الدين برأي أبيه ورأى الصواب فيه، وخجل لما فاته إدراكه من الأمر، ولم يسعه إلا الإصغاء والإذعان وقال: «بورك فيك يا أبتاه من حكيم حازم.»
فقال: «ولا يكفي ذلك، وإنما يجب أن نتأهب من الآن ونجعل الجند على استعداد للهجوم على القصور حالما يلفظ الخليفة السيئ الحظ نفسه الأخير. وأتقدم إليك أن تكتم ما أقوله لك الآن عن كل واحد حتى يأتي وقته فننفذه. واحذر أن تفعل ما فعلت أمس فتكشف سرك في جلسة علنية. فقد قيل «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان».»
فحنى صلاح الدين رأسه إعجابا وطاعة وهم بتقبيل والده اعترافا باقتداره. فاجتذب نجم الدين وقال: «أرجو أن تستفيد من قولي يا بني. إنك ستكون سلطانا عظيما، فاعمد إلى التؤدة والحزم واذكر وصية أبيك.»
أما أبو الحسن فخرج من عند الهكاري وقد امتلأ صدره أملا وتحقق لديه الفوز بالمكيدة وسار توا إلى دار الخليفة وهو يتنسم خبر العاضد في أثناء الطريق. فعلم أنه في أشد حالات المرض فأيقن أنه مائت في ذلك الليل، فأعمل فكرته في الوصول إلى غرضه. وقد توهم فوزه بالخلافة، وبقي القبض على سيدة الملك، فأظهر اهتمامه بمرض الخليفة وسأل عن الجليس الشريف فقيل له إنه في غرفة الخليفة لا يأذن بخروجه والأطباء وقوف بين يديه يبدلون الدواء بالدواء بلا فائدة. فاحتال أبو الحسن في الوصول إلى الشيخ السديد طبيب الخليفة فاستفهمه عن حقيقة حال العاضد فأجابه: «إنه يكاد يكون في حالة الاحتضار.» فبكى وبالغ في البكاء حتى أشفق الطبيب عليه وأخذ يخفف عنه. فخرج توا إلى قصر النساء وقد مالت الشمس إلى الأصيل وطلب أن يرى بهاء الدين قراقوش. فقيل له إنه خرج لمقابلة السلطان صلاح الدين، فجلس أبو الحسن في غرفة الاستقبال بباب القصر ينتظر رجوعه.
وبعد قليل عاد قراقوش وعلى وجهه علامات الاهتمام. وكان أبو الحسن يتوقع أن يسمع منه ترحابا بعد رجوعه من عند صلاح الدين لاعتقاده بأن السلطان لا بد من أن يكون قد خاطبه في أمره بعد ما كان من تدبيره مع الهكاري. فلما رأى بهاء الدين مقبلا على فرسه تصدى له بالباب وهو يبتسم فلم يكترث له قراقوش وأظهر أنه لم يره، فخاطبه أبو الحسن قائلا: «مرحبا بالأستاذ، كيف فارقت السلطان؟»
فالتفت إليه بهاء الدين كأنه رآه لأول مرة وقال: «أنت هنا يا أبا الحسن؟»
Página desconocida