فأطرقت وهي لا تدري ما تقول، فخاف أن يجر الحديث إلى ما لا يقوى على دفعه، وقد أحس أن الحب كاد يستولي على إرادته وهو حريص على القيام بوعده ولا سيما بعد أن أقسم وصمم فقال: «اسمحي لي يا سيدتي بالانصراف. واعلمي أني رهين أمرك، ولولا ما سبق من تعهدي بأمر السفر لما خالفتك في شيء. ولكنني سأعود سالما إن شاء الله، وعند ذلك لا ترين مني إلا ما يرضيك. أستودعك الله الآن.» •••
قال ذلك ومد يده لمصافحتها فلم تمد له يدها رغبة في استبقائه لتتم حديثها أو لعلها تثنيه عن السفر. وإذا هي تسمع وقع أقدام مسرعة خارج باب الغرفة فنظرت إلى ياقوتة فرأتها قد امتقع لونها وتحفزت للنهوض. ولم تكد تقف حتى رأت غلامها الذي جاء بعماد الدين داخلا والبغتة على وجهه من الخوف فصاحت فيه: «ما وراءك؟» فقال وصوته يرتجف: «إن الأستاذ بهاء الدين قراقوش يطلب أن يراك.» فأجفلت عند ذكر اسمه وقالت: «ولماذا؟ ما له ولنا؟»
قال: «كنت ساهرا لمراقبة كل حركة كما أمرتني الخالة أطل على القصر من شرفة الإيوان فرأيت شبحا قادما من الخارج نحو باب هذا القصر لم أعرفه؛ لأنه ملتف بعباءة كبيرة كأنه جاء متنكرا، فجعلت أراقبه حتى وصل إلى باب القصر وطلب مقابلة الأستاذ بهاء الدين. فجاء لمقابلته ودار بينهما حديث لم أفهمه، ولكنني لحظت أن القادم ألح عليه أن يفتش داخل القصر وتأكد لي ذلك لما رأيت الأستاذ بهاء الدين دخل القصر بسرعة ورجع ذلك الرجل كما جاء. وسمعت بهاء الدين يأمر أحد الخصيان بالذهاب إلى سيدتي فأسرعت لأخبرك بذلك.»
فاستولت الدهشة على الجميع وظلوا سكوتا إلا سيدة الملك فقالت: «تبا لذلك الخائن. لا أعلم كيف اطلع على مجيء عماد الدين إلى هنا حتى وشى بنا إلى الأستاذ.»
فقالت ياقوتة: «أتظنين مجيء بهاء الدين يتعلق بعماد الدين؟»
قالت: «لا بد من ذلك، ولكنه سيعود خائبا.»
فقال عماد الدين: «لا تخافي يا سيدتي إن روحي فداك ماذا جرى؟»
قالت: «لم يجر شيء، ولكنني سآذن في ذهابك برغم إرادتي. وهذا يسرك ولكنه يسوءني.» والتفتت إلى الغلام وقالت: «يا غلام، عد بعماد الدين من هذا السرداب كما جئت به منه.» والتفتت إلى عماد الدين وقالت: «أرجو أن تبقى على وعدك وأن تذكرني في أثناء سفرك. واعلم أن صاحبكم بهاء الدين هذا قد قطع كلامي وحال دون إتمامه وأنا ما زلت في أوله، لكنني أترك فهم الباقي إلى فطنتك وما يدلك عليه قلبك. وأحسبني عبرت عن مرادي بملامحي أكثر من نطقي! كنت قبل استقدامك في يأس شديد، وكنت أرجو أن يزول كل يأس بحضورك. فإذا أنت على سفر، ثم جاء هذا الأستاذ فلم أتمكن من إتمام شكواي، فأقول لك بالاختصار إني أفكر فيك دائما وأنا سجينة في هذا القصر. ويا حبذا لو أني أخرج منه معك الساعة.» قالت ذلك وشرقت بدموعها.
فكان لذلك وقع شديد على قلب عماد الدين وهو شاب في مقتبل العمر وبين يديه أشرف نساء مصر وأجملهن تشكو له حبها وتدعوه إلى قربها، فهاجت عواطفه وكاد يغلب على أمره وينسى مهمته، وإنما عصمه أدب نفسه وعلو همته واحترامه لمولاه فتجلد وسكت، لكنه أشار برأسه وعينيه أنه رهين أمرها بعد عودته، وأرادت أن تستزيده إيضاحا فتصدت الحاضنة بلهفة قائلة: «يكفي يا سيدتي. يكفي. إن بهاء الدين يطلب مقابلتك بإلحاح ولا أستطيع استمهاله.» وتقدمت إلى عماد الدين فأمسكت بيده وجرته حتى خرج من تلك الغرفة إلى باب السرداب. وكان الغلام في انتظاره هناك وقد فتح الباب، فالتف كل منهما بردائه وذهبا، وأغلق الباب وعاد كل شيء إلى أصله. وتمشت سيدة الملك إلى غرفة الاستقبال فرأت قراقوش في انتظارها هناك. فأظهرت الاستغراب من طلبه مقابلتها في تلك الساعة.
فقال: «بلغني أن رجلا غريبا دخل هذا القصر الليلة أين هو؟»
Página desconocida