فقالت: «وبماذا أجبته؟» قال: «هممت أن أجيبه بأنك مخطوبة إلى أبي الحسن لعلمي أن هذه الحجة تكفي للنجاة من هذه الورطة، لكني استمهلته في الجواب إلى الغد لأسألك، وقد اخترت هذا المكان للمقابلة حتى لا يكون معنا ثالث. ها إني قد أطلعتك على جلية الأمر فما رأيك؟ ألا ترين أن قبول ابن عمنا أولى؟»
ولم يكن العاضد ينتظر منها غير القبول فلما أبطأت في الجواب وهي مطرقة كرر السؤال، أما هي فكانت تفكر في طريقة للنجاة من هذه الورطة؛ لأنها كانت لا تريد صلاح الدين ولا أبا الحسن. لكنها تفضل عماد الدين على كليهما. وحدثتها نفسها أن تصرح له بما يكنه ضميرها فخافت العاقبة. فلما كرر أخوها السؤال قالت: «صدقت، إن الاحتجاج بكوني مخطوبة قد يرجع صلاح الدين عن عزمه. قل له إني مخطوبة إذا شئت ولا تذكر لمن.»
قال: «لكنه لا يصدق إلا إذا ذكرنا الخطيب لئلا يحسبنا نكذب لنتخلص منه. سأقول له إنك مخطوبة لأبي الحسن.»
فابتدرته قائلة: «كلا. لا تقل هذا ؛ لأن ذلك لا يكون أبدا.» ولم تتمالك عن هذا التصريح وقد ارتفع صوتها رغم إرادتها.
فبان الغضب في وجهه وقال: «كنت أجاملك وألاطفك قبل هذا المشكل. أما الآن فلا أرى لرفضك معنى بعد أن بينت لك السبب. ليست هذه شعائر الأخت المحبة لأخيها. وأنت تعلمين ما وعدنا أبو الحسن به. ولا شك أنه بعد أن يعلم أن صلاح الدين مناظره فيك سيزداد اهتماما في تنفيذ غرضه. قولي إنك قبلته وإلا ضعف اعتقادي في تعقلك وصدق محبتك. واعلمي مع ذلك أن أمير المؤمنين يخاطبك ويطلب ذلك منك وهو ولي أمرك.» قال ذلك بشيء من السلطة.
فعظم ذلك التهديد عليها وهبت الحمية في صدرها ورجعت إليها عزة نفسها، فنظرت إلى أخيها نظر العاتب وقالت: «تهددني بما لك من السلطة علي، وبأنك ولي أمري؟ إن هذا لا يغير شيئا من عزمي. وإذا شئت أن تنفذ هذه السلطة من نفسك فافعل. وأما أنا فيستحيل علي قبول ذلك المنافق المرائي، وربما فضلت صلاح الدين عليه عند الضرورة. ولكنني لا أريد هذا ولا ذاك.»
فدهش العاضد لهذا التصريح وقال: «هل إلى هذا الحد تبلغ جسارتك وتخاطبينني بهذه القحة؟ أظنني أخطأت لأني شاورتك في الأمر. وكان لي ألا أستشيرك لأني ولي أمرك من جملة وجوه. وأنا فاعل ما أراه خيرا لك. إذ يظهر لي أنك مستمسكة بالخطأ لغير سبب أعلمه. لم يبق إلا أن تخرجي للسوق وتختاري لك زوجا من المارة وأبناء السبيل! ليس ذلك من شأن بنات الخلفاء. إن العناية جعلتك من طبقة الملوك وميزتك بالنسب الشريف فلا يجوز لك الاقتران بغير الأكفاء. وهذا أبو الحسن ابن عمنا وهو أكفأ إنسان لك.» قال ذلك وتحفز للمسير كأنه قال ما لا يقبل نقضا ولا إبراما.
أما هي فظلت واقفة وأوشكت أن تسقط على الأرض من التأثر؛ لأنها لا تقدر أن تبوح بما في خاطرها بعد أن رأت أخاها يكبر تفضيلها صلاح الدين، فكيف لو علم أنها تحب خادمه. فرأت السكوت في تلك الحال أولى وصممت أن تفعل ما يحلو لها ولو خالفت الشرع والعرف. فلما رأته يتحرك للمسير مشت بهدوء وسكينة ولم تفه بكلمة فظنها شعرت بسلطته عليها فقبلت. فكتم فرحه وظل على إظهار الغضب والعتب.
وحالما خرجت من الباب رأت حاضنتها تنتظرها في الممر فرافقتها إلى غرفتها وقد لحظت الحاضنة تغيرا بينا في وجهها فأصبح همها استطلاع الخبر.
أما سيدة الملك فإنها صممت على عمل لا يخطر لحاضنتها ولا غيرها، وفضلت البقاء على كتمانه لئلا تحول ياقوتة دون إنفاذه. خطر لها أن تستقدم عماد الدين وتفر معه من قصر أخيها وتنجو من ذلك الأسر. ولكنها لا تستغني عن ياقوتة في البحث عنه واستقدامه فعزمت على كتمان ذلك عنها.
Página desconocida