وماذا عن امتناع الوالي معاوية عن مبايعة الخليفة الرابع علي بن أبي طالب؟ وما هي الإجراءات الدستورية التي كان يلزم اتباعها وإجراؤها في ذلك الوقت لضمان عدم امتناع معاوية؟ وهل كان للبيعة مؤسسات تضمن تنفيذها؟ وهل تمكن الخليفة الشرعي علي بن أبي طالب الذي حكم بالبيعة، من فرض سلطانه على الشام وعزل المتمرد معاوية؟ إن البيعة لم تحافظ على نظام حكمها الشرعي مع علي، وأخذ غير الشرعي (معاوية) منصبه بل واجتاز الخلافة كلها دفعة واحدة ، ثم أخذ البيعة له ولابنه يزيد تحت تهديد الصحابة بالقتل، ما قيمة البيعة هنا؟ وهل أفادت البيعة عثمان بما أضفته من شرعية على نظام حكمه، وهل ساعدته على إخضاع المتمردين من عرب مصر والصحابة وصانت حياته؟ وماذا وضع نظام البيعة من إجراءات لمثل هؤلاء؟ وكيف كان يمكن التصدي لهم شرعيا، وما هي الترتيبات والتنظيمات والإجراءات والمؤسسات التي يقترحها د. زيدان لمواجهة مثل تلك المشاكل مستقبلا؟ وما هو حكمه على تلك الأحداث من منطق فكره السياسي الإسلامي المعاصر؟ أم إن الشخصيات التي عاصرت الفتنة الكبرى مقدسة ولا يجوز توجيه النقد إليها بما يفيدنا في تطوير نظم الحكم والمراقبة الشرعية وفق نظام البيعة؟
اللطيف في شأن سادتنا المفكرين الإسلاميين أنهم لا يلحظون ما هو شديد الوضوح، وهو أن البيعة لم تكن يوما سببا لشرعية أحد، وقد عبر الخليفة عثمان عن ذلك بوضوح عندما طالبه الثوار بالاعتزال، فهو لم يعتد ببيعتهم، ولا بسحبهم هذه البيعة؛ لأنها لم تكن لا في العير ولا في النفير؛ فقد كان رده التاريخي: «والله لا أخلع قميصا سربلنيه الله.» كانت هي إذن إرادة الله وليست إرادة الناس وبيعتهم، كان عثمان يعتقد أن تلك بيعة من الله وليست بيعة من الناس، وماذا تكون بيعة الناس بجوار بيعة الله؟
ويبقى النظام الإسلامي غير قابل للتطوير والتحديث بسبب هذه القدسية التي لحقت زمن الصحابة وبيعاتهم. على زيدان أن يختار - وهو لا يستطيع حتى أن يختار - ثم يقدم لنا درسا في العقد الاجتماعي الإسلامي، بنظام البيعة الذي لم يتمكن من حماية نفسه يوما.
البيعة تسبق الدولة
الحديث مع الدكتور زيدان لا يمل، فلنأخذ الواحدة الثانية من حديثه إذ يقول: «بل وتسبق (أي البيعة) الدولة في الخبرة الإسلامية في عهد الرسول
صلى الله عليه وسلم .» ويستشهد على ذلك بقوله: «فالعقد الذي حدث مرتين عند العقبة، كان عقدا حقيقيا تاريخيا» (يقصد عقدا اجتماعيا كما قال). إذن البيعة قد تمت مرتين في العقبة الأولى والثانية من الأنصار للنبي، وبذلك «تسبق إنشاء الدولة في الخبرة الإسلامية في عهد الرسول». ولا تفهم الغرض من وضع قاعدة لا تعمل منذ أن وضعت؛ فالخلافة على مدار التاريخ الإسلامي كله كانت تقوم على الوراثة، إلا في عصر الخلفاء الراشدين وحدهم، حيث تولى كل خليفة بأسلوب وطريقة فريدتين لم تتكرر مع سواه، فلم يخضع تولية منصب الخلافة في زمن الراشدين لأي آلية أو لقاعدة منتظمة، وهو ما يعكس ارتباك تلك الفترة وعدم وضوح شكل الدولة أو نظام تداول السلطة فيها أمام أصحابها، ولا تجد هنا أية فائدة لكون البيعة «تسبق إنشاء الدولة في الخبرة الإسلامية»؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لظهر معها قواعد لتداول السلطة ولنظام الدولة وشكلها، وهو ما لم يحدث مما أدى للارتباك في تداول السلطة، وإلى قيام نزاع مسلح بدأ في الفتنة الكبرى ثم الجمل ونزاع علي ومعاوية في حرب أهلية، ونعرفها بالفتنة الكبرى تمييزا لها عن فتن أخرى تملأ صفحات تاريخنا الإسلامي السياسي.
ولم تستقر الأوضاع إلا بعد قيام الدولة الأموية على فكرة الملكية وتداول السلطة بالوراثة أو بالغلبة والقهر، وكانت البيعة مجرد إجراء شكلي يعبر عن خضوع الرعية؛ لأن البيعة ليست آلية انتخابية كما يحاول زيدان أن يلقي في روع المسلمين المسالمين الطيبين، البيعة لم تكن وسيلة اختيار الحاكم؛ لأن الحاكم يكون معروفا قبل البيعة، فالبيعة لا تكون إلا لخليفة، فتولي الخلافة أسبق من البيعة في إجراءات تولي الحكم، ويريد زيدان هنا أن يفهمنا أن اللاحق هو الذي أنتج السابق، رغم أن البيعة تكون للحاكم بعد تعريفه وإعلانه وتوليه الكرسي فعلا. وحتى بعد استقرار الدولة في المملكة الأموية والعباسية لم ينجح الفقه في الاستقرار على طريقة تداول السلطة ونظامه، ولم ينجح في تحديد شكل هذه الدولة، وجعل كل شيء جائزا لغياب فلسفة السياسة التي تحدد أهداف الدولة والعلاقة مع المحكومين، لغياب دستور ونظام موحد للحكم، رغم نجاح شعوب قديمة قبل الإسلام بقرون طويلة، ولم يستفد المسلمون منها، وكان أقربها إليها النظام الروماني الدستوري. كل ما يقوله الفقه لنا جاء في «روضة الطالبين» نفس الباب السابق: «وتنعقد البيعة بثلاثة طرق: أحدها البيعة كما بايعت الصحابة أبا بكر الصديق (رضي الله عنه)، والطريق الثاني استخلاف الإمام من قبل الإمام القائم وعهده إليه كما عهد أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) إلى عمر (رضي الله عنه)، وانعقد الإجماع على جوازه. والاستخلاف أن يعقد له في حياته الخلافة بعده، فإن أوصى له بالإمامة فوجهان حكاهما البغوي: ولو جعل الأمر شورى بين اثنين فصاعدا بعده كان كالاستخلاف، إلا أن المستخلف غير متعين، فيتشاورون ويتفقون على أحدهم، كما فعل عمر فجعل الأمر شورى بين ستة اتفقوا على عثمان (رضي الله عنه). وذكر الماوردي أنه يجوز العهد إلى الوالد والولد، وفيه مذهبان، وأنه لو عهد إلى جماعة مرتبين فقال الخليفة بعد موتي فلان، وبعد موته فلان، وبعد موته فلان جاز، وانتقلت الخلافة إليهم على ترتيب ما رتب، كما رتب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أمراء جيش مؤتة. وأما الطريق الثالث فهو القهر والاستيلاء (سبق سرده في بيعة المتغلب).»
وفي حال بيعة المتغلب لا معنى للبيعة؛ فسواء بايعته أو لم تبايعه فقد جلس هو واستراح على الكرسي، هو لا ينتظر التمثيلية الإسلامية الهزلية إلا لإثبات السيادة والسيطرة، وخضوع شعبه وإقراره بذله، هي تهنئة وتباريك وإعلان إذعان وطاعة.
Página desconocida