جاء الخريف
عبث بربيع حياته حتى إذا جاء الخريف وجد نفسه وحيدا ... كالورقة الذابلة ... ***
في سن الثامنة عشرة تتجرد الفتاة من الجمال، ولكنها مع ذلك ككل فتاة، تحتفظ بشيء نادر يضفي على الدمامة نفسها أحيانا شيئا من السحر، ولقد كانت إقبال من هذا النوع مع تعديل بسيط هو أنها ليست دميمة ... كانت تتمتع بالشباب وبعدم الدمامة معا، وكان فيها هذا السحر اللازم لغير الموهوبات من شابات الطبقة المتوسطة ... مجرد فتاة وعاطفة تسند الغرائز، وتقف إلى جانبها إذا ما صرخت ...
وقامت إقبال بمهمتها في الحياة خير قيام، وكانت المدرسة تتحدث عن إقبال ومغامرتها كما تتحدث عن أعلام السياسة ونجوم السينما، مخلوق غريب ليس من طينة الطالبات، وإنما هي عجينة أخرى ... عجينة مرنة كالمطاط تسمح بتسلق الأسوار والقفز من النافذة والخروج من عنبر النوم في أعماق الليل زحفا على أطرافها، كما تزحف الأفاعي حينما يدفأ جو الغرفة بأنفاس الطالبات الغارقات في الرقاد.
وفي يوم من أيام الشتاء الباردة، زحفت إقبال من عنبر النوم، وخرجت إلى الحديقة، وتسلقت السور، وهبطت عند الشجرة الملاصقة للحوش الخلفي للمدرسة، وقابل آدم حواء، وخرجا لا من الجنة ... وإنما من القاهرة وضواحيها في مغامرة كانت آخر مغامرات إقبال المدرسية، مغامرة عادت منها إلى بيت آدم ذليلة كسيرة؛ لتلقى مصير كل امرأة تسلم نفسها إلى رجل قبل عقد الزواج ... وقال آدم، واسمه الحقيقي حسين، لحواء المخدوعة ذات يوم: رفضت أمي أن تزورني لقضاء بضعة أيام عندي وسكت ... وفهمت إقبال، لأنها لم تكن غبية، ما يعني وقالت: سأذهب عند سميرة بضعة أيام ...
وعلقت في انكسار وأسى، وقد غاص صوتها في أعماق نفسها الجريح: إن أمك على حق، كيف تأتي وسيدة البيت امرأة غير مشروعة.
ومن الإنصاف لحسين أن نقول إنه تأثر لتعليقها ورثى لحالها دون أن يربط في هذا الرثاء بين حياته وبينها ... حتى لقد فزع من مجرد تخيلها سيدة مشروعة لبيته هو ... إنه تخيل ذلك لكن كما يتخيل الإنسان حلما مفزعا سوف يمر به خلال الليل ... حلما لا يراه، ويتمنى ألا يراه، ومع هذا فقد تحقق الحلم المفزع بعد هذا الحديث بأيام على ثلاث خطوات ... كانت الخطوة الأولى يوم قالت له أمه حين ودعته في طريقها إلى القرية: لكم أتمنى لو تستقر حياتك يا ولدي ... إن رائحة بيتك تنقصها أنفاس امرأة ...
وأوشك أن يقول لها إنه كره رائحة هذا البيت لكثرة ما تردد فيه نفس إقبال، ولكنه ابتسم وسكت وكان هذا جوابه منذ سنوات كلما حدثته عن المرأة التي يجب أن تملأ فراغ البيت، وتغمره بأنفاسها الزكية ...
ولكن حينما احتواه البيت وحده أخذ يتأمل موقفه من إقبال، وقد أحس فعلا خلال اليومين اللذين قضاهما وحيدا بعد سفر أمه، وقبل أن تعود إقبال، أحس أن إقبال كائن في حياته، إنها تغنيه عن خادمة طوال أيام الأسبوع، وتغنيه عن الغسالة يوم الثلاثاء ... وتغنيه عن خائط الثياب، أجل إنه الآن فعلا يرتدي جلبابا من صنع يديها، وجواربه لا يحس يوما أنها تمزقت ...
ما أعظم فوائد إقبال! وكانت هذه الجملة التي دارت في رأسه دون أن تخرج على لسانه أول خطوة في تحقق الحلم المفزع ...
Página desconocida