ولكن هنا لا البطل يتحرك للوداع ... ولا البطلة تتأهب لتشيعه باللعنة نحو الباب، إن ما يحدث في قصتنا هذه كذلك الذي يحدث في السينما حين تتوقف آلة العرض فجأة فتسكن حركة الكائنات على الشاشة، وكأنها صعقت ... صعقت قبل الختام مباشرة، واتخذ كل منها وضعا ثابتا لا معنى فيه ولا روح ... أجل لقد توقفت آلة العرض فجأة قبل ختام القصة ... توقفت خمس سنوات كاملة، وفي خمس سنوات كان يستعيد بين الحين والحين القصة من فصلها الأول إلى ما قبيل الختام، فإذا ما انتهى إلى المنظر الأخير حار عقله، وحاول أن يرسم في خياله صورة للختام كما يجب أن يكون ...
هل يودع البطل البطلة إلى الأبد؛ لأنها خانت عهد هواه؟ أو تشيع البطلة حبيبها الغادر باللعنة بعد أن نكث العهد؟ لا هذا ولا ذاك، إن القصة لم تصل إلى الختام ...
كان المنظر الأخير كما لا يزال يذكر، في حجرة الطعام ... وكانوا خمسة يتناولون العشاء هو أحدهم، وخرج وخرجوا بعد العشاء على أن تحادثه في الغد بالتليفون، فلم تتحدث في الغد، ولا بعد الغد ... بل لم تكن في القاهرة كلها طوال الشهر ... وحينما عادت لم يعلم بعودتها إلا حين لقيها في الطريق مصادفة، ومع أنها كانت وحيدة، وكان الطريق خاليا فلم تحاول أن تهدئ من سرعة سيارتها، بل أومأت إليه إيماءة خفيفة، وسارت وكأنه مجرد وجه تعرفه، وفي ذلك المساء حدثها بالتليفون، بدأ حديثه بالعتاب ... عتاب الحبيب الذي يكون آخر من يعلم بسفر الحبيبة وعودتها من السفر ... وجرى حديثها سؤالا عن الصحة ووصفا لجمال الإسكندرية في الشتاء، وسردا لمشروعاتها المقبلة، ومشروعاتها المقبلة كانت ترك السفر إلى أوروبا، وإنشاء شركة تجارية، و... و... مشروعات لم يكن فيها له أي دور ... حتى ولا دور المتفرج، كانت مشروعاتها إلى قبيل المنظر الأخير تقوم عليه وحده ... هو مدارها وهو لبها وهو هدفها.
وأغلق التليفون، وعرف أن شيئا قد حدث ...
وظل ينتظر أياما، ينتظر المنظر الأخير حيث يفترق العاشقان إلى غير لقاء ... وطالت الأيام شهورا ... ورآها خلال هذه الشهور أكثر من مرة ... لقيها مرة وجها لوجه، وكانت تسير على قدميها فوقف أمامها، ووقفت ... وقفت وقد أحس أنها كانت سوف تسير في طريقها دون أن تحييه ... وبادلها السلام، وتحامل على كرامته وضغط على يدها بحرارة، وقالت وهي تسحب يدها في ابتسامة لا روح فيها: كيف أحوالك؟ صحتك زي البمب كما أرى.
ونظرت في ساعتها وقالت - وهي تنقلب وكأنها تهرب: أنا مسرورة لرؤيتك.
وابتلع إجابته؛ لأنها كانت قد مضت مسرعة ... لقيها بعد ذلك عشرات المرات ... في المرات الأولى حيته بإيماءة ... وفي المرات التالية اكتفت بأن لمعت في عينيها ابتسامة، وتكاسلت عن الإيماء ... وبعد ذلك عرف كيف يجنب نفسه ويجنبها عناء الابتسام المتكلف ... كان يشيح برأسه كأن لم ير شيئا، وعلى ذلك مرت الأعوام، وألف كلاهما أن يرى صاحبه، وكأنه لا يعرفه ... أما هو فكان يحسها، وكأنها عطر قوي كلما مرت به أو عبر بها ... كان يحسها أحيانا قبل أن يراها ...
دخل مرة إحدى دور السينما ... كان أمامه رهط من الناس قد تجمع عند سلم السينما يوشك أن يصعد، وفي وسط هذا الجمع أحسها تسير ... لم ير وجهها ، ولا حتى خصلات شعرها ... ومع ذلك فقد أحس وهو يخترق الجمع أنها فيه ... وكانت فعلا توشك أن تصعد درج السلم، وكانت بينه وبينها مسافة، سرعان ما قصرت حتى وجد نفسه يسير حذاءها جنبا إلى جنب تماما كإحدى الصور التي يذكرها من قصتهما التي لم تتم ... لقد دخل معها ذات يوم إحدى دور السينما في حفلة العرض الأولى ... دخل معها جنبا إلى جنب ... وجلس معها جنبا إلى جنب ... وكانت مغامرة لا يقدم عليها زوج لم يمض على زواجه عامان ... كانت مغامرة بالنسبة لأي رجل يظهر معها في مكان عام ... هي بعينها، وما يعرفه عنها المجتمع ... رآها في تلك الليلة شقيقه الأصغر وشقيقته.
وضحك شقيقه بعد ذلك بيومين حينما احتدت شقيقته في عتابه قائلة: مالك ومال هذه المرأة، أتريد أن تلوث اسمك؟ ما الذي يحدث حينما يراك الناس معها؟
ضحك شقيقه، وقال ساخرا: وما أمر سخريته - أما أنك مسرفة في التشاؤم فذلك حق ... لقد دعاها للسينما، وقضى سهرة حمراء ... ثم انتهى كل شيء ... هل تظنينه سيصاحبها إلى الأبد؟ أي إنسان يطيق «...» أكثر من ليلة؟ هوني عليك يا أخت، فالزوج ما زال بخير، وإن شطح أحيانا ...
Página desconocida