مقدمة الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
Página desconocida
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
Página desconocida
الفصل العشرون
الفصل الواحد والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
Página desconocida
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الخاتمة
مقدمة الرواية
الفصل الأول
Página desconocida
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
Página desconocida
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الواحد والعشرون
Página desconocida
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
Página desconocida
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الخاتمة
الصديق المجهول
الصديق المجهول
تأليف
نقولا حداد
Página desconocida
مقدمة الرواية
المقاتل الثلاثة
ثلاثة مقاتل أيها أصيب عرض الجسم لخطر الموت:
المقتل الأول:
الرأس مقر المعرفة.
المقتل الثاني:
القلب مصدر الحياة.
والمقتل الثالث:
المجموع العصبي أداة الحركة. «والشرق مصاب في هذه المقاتل بعلل ثلاث: الجهل في رءوسه، والضعف في قلوب شعبه، والتحاسد في أعصاب أعماله.»
في هذه الرواية تشخيص للعلة العصبية.
Página desconocida
فإذا قرأتها وجدت كيف أن الحسود يبذل نفسه وعرضه وماله، لكي يجذب المجتهد المفلح إلى درك الانحطاط.
نقولا حداد
الفصل الأول
- أراك مجافيا لي في هذه الأيام يا عزيزي حسن، وقد شغلت بالي باستمرار رزانتك خلافا لعادتك، فخطر لي أن يكون قد وقع مني ما ساءك. - لماذا تظن هذا يا عزيزي يوسف، أيمكن أن أستاء مهما وقع منك من الأمور؟ - إذن لماذا هذا التقطيب؟ ألححت عليك أمس أن نمضي إلى غابة بولونيا فلم تصحبني، والآن ألح عليك أن نمضي إلى الكوميدي فرانسز، فتأبى، أفلا تلوح لي ظنون مختلفة؟ - لماذا تفترض أن يكون سبب تقطيبي استياء منك ولا تفترض أن يكون سببه أمرا آخر ليس له مساس بك؟ فلو ساءني منك أمر لما صبرت عن معاتبتك؛ لأن العتاب صابون القلوب. - إذن لست مسرورا.
فصرف حسن وجهه عن يوسف متملصا من الجواب، واستأنف هذا كلامه قائلا: أحس يا عزيزي حسن أنك في استياء عميق، ولا يسعني - وأنا صديقك الحميم - أن أسر وأنت منقبض، فأشركني في معرفة سبب استيائك، إن لم يكن سرا ليس في وسعك أن تبوح به لعل لي رأيا صائبا في تلافيه.
فتنهد حسن قائلا: ليس عندي سر أكتمه عنك يا يوسف، ولكني كتمت هذا السر إلى الآن خشية أن تضحك مني متى عرفته؛ لأنه قد يتراءى لك سخافة في أهم أمر من أموري.
وكاد الدمع يطفر من عينيه فقال له يوسف: إنك غلطان في ظنك هذا؛ لأن الأمر الذي يهمك إلى هذا الحد - مهما كان سخيفا - أعده مهما؛ لأنه يهمك فإن لم يكن ما يمنعك عن القول فقل؛ فإن بثك ما في نفسك من الشجون يصرف أساك ويسري عنك. - إذن اجلس إلى جانبي واسمع حديثي عساك أن تفرج كربي.
جرى هذا الحديث بين حسن بهجت ابن سليم صالح، ويوسف بك رأفت ابن عبد العليم باشا صدقي في غرفة في أحد فنادق باريس؛ فالأول كان يدرس المحاماة، والثاني يدرس الطب في تلك العاصمة الزاهرة، وكلاهما مقيم في ذلك النزل، ومتجاوران كصديقين حبيبين، وكان يوسف بك يلاحظ أن صديقه حسن قد تغير خلقه منذ يومين، فكان يئول تغيره تآويل مختلفة، وقد كاشفه أمره - كما تقدم الحديث - وعند ذلك جلس يوسف إلى جنب صديقه حسن واستمرا في حديثهما.
قال حسن: إن سري لعميق جدا يا عزيزي يوسف لم أبح به لسواك، ولا ريب عندي أنك تكتمه بل أؤمل أنك تعضدني في الحصول على أمنية عظمى قد وقفت كل قواي لها. - قل يا حسن فلا داعي لهذه المقدمة، إني لك في كل أمر وأنت تعلم. - إن غمي شديد يا يوسف وألم قلبي أشد فبربك سكن آلامي، ألا تذكر كلمة قالها خليل بك مجدي أمس إذ كنا في الحانة؟ - كلا، لم ألاحظ شيئا. - بالطبع لم تلاحظ؛ إذ لا ناقة لك في موضوع حديثه ولا جمل. - ماذا قال، فهل أساءك؟ - ألا تذكر أن الحديث جرنا إلى الزواج؟ - نعم أذكر ذلك جيدا. - ألا تذكر أنه سمى فتاة عروسا له؟
فافتكر يوسف بك هنيهة ثم قال: نعم أذكر أنه قال: إن نعيمة ابنة حسين باشا عدلي ستكون زوجة له متى انتهى من دراسة الحقوق، فأي أمر في قوله هذا يسوءك؟
Página desconocida
لم يسؤني قوله إساءة فقط بل طعن قلبي طعنة نجلاء لا أعلم إن كنت أبرأ منها أو تقضي علي؟
فحملق يوسف بك فيه حملقة المستهجن، وقال: هل لك من مطمع بالفتاة؟ - ليس لي بسواها مطمع. - ماذا تقول يا حسن؟ - أقول: إن نعيمة كل آمالي، فإذا لم أنل يدها كان وجودي في هذا العالم عبثا وحياتي لغوا؛ فلأجلها أحيا وأدرس وأسعى إلى العلى. - ولكن ألا تعلم نسبة نعيمة إليك؟ - أعلم أنها كنسبة الثريا إلى الثرى، ولكنني سأجتهد أن أرقى في سلم العلى حتى ارتفع من الثرى إلى الثريا. - لا تؤاخذني يا عزيزي حسن إذا خامرني الظن بغرورك، لا أشك أنك قد تصير كفئا لمثل نعيمة، ولو كنت أباها لما ترددت في أن أهبك يدها - إذا هي رضيت - ولكن أنت تعلم أن أباها يعتد جدا بكرم محتده ورفعة أصله ومقامه الاجتماعي؛ فما هو ممن يجود بيد ابنته لمن هو دونه أصلا ومقاما، وإن كان فوقه علما وهمة؛ لأنه من أهل الزمان الغابر الذين يحافظون أشد المحافظة على الأصل، وهو لا ينسى أنك ابن رجل كان من بعض حاشيته، لا تؤاخذني على هذا الإفصاح؛ لأننا نتكلم الآن بحرية ضمير. - أعلم ذلك جيدا يا عزيزي يوسف، وما أنا مغرور، ولكنني أتذرع إلى استرضائه بأمرين؛ الأول: أني أجتهد أن أصير في المستقبل القريب ذا شأن في الهيئة الاجتماعية يرضيه؛ إذ أسعى إلى جمع ثروة وإلى مقام سام. والثاني: أن تفصح نعيمة بأنها لا تقبل سواي بعلا، وحينئذ لا أظن أن حسن باشا يكون مستبدا إلى حد أن يزوج ابنته بالرغم منها بزوج لا تريده ويحرمها زوجا صالحا لها، هي تبتغيه. - كلا الأمرين ممكن، ولكنهما صعبان. - لا أنكر أنهما صعبان؛ أما الثاني فهو في حكم المقرر إذا حصلت على الأول، ولذلك سأبذل - إن شاء الله - الهمة القعساء في سبيل الصعود إلى مراتب العلى، ومتى حان الوقت لهذا الصعود أخبرك بما أفعله لأجله، فإن في رأسي أفكارا عديدة بمشروعات مهمة متى أخبرتك عنها عضدتني فيها، فلندع الحديث عنها الآن إلى حينه. - إذن بينك وبين نعيمة علاقة حب الآن. - نعم، ولكن ليس أحد سواك يعرف ذلك.
فسكت يوسف بك هنيهة سكتة المبهوت ثم قال: عجبا! كيف اتصلت إلى نعيمة وهي أعز من جبهة الأسد، وأمنع من بيض الأنوق، أولا؛ لأن أباها مبالغ في حجبها، وثانيا لأنها تمتاز جدا على أترابها بآدابها وحشمتها وبمبالغتها في الاحتجاب، فإنها ما بلغت سن الثامنة حتى تنقبت وتحجبت، فإن كانت في المدرسة فهي كالسجينة، أو في البيت فتلازم خدرها، أو في المنتزه البعيد عن الناس فهيهات أن يراها أحد. - أما رأيتها قط. - رأيتها مرة في العام الغابر، وأنا داخل إلى دار أبيها لزيارة، وكانت بلا نقاب فدهشت لجمالها الفاتن وملامحها الجذابة، ولكنها هرعت في الحال مختبئة مني، وقد تيقنت حينئذ أنها أسمى جمالا وكمالا مما يصفونها به فأتعجب كيف اتصلت إليها وصارت بينكما هذه العلاقة الحبية.
فابتسم حسن وقال: إن لمعرفتي بها قصصا تكاد تكون غريبة لا أكتمك إياها، ولكني أتوسل إليك أن تكتمها. - سبحان الله يا حسن، أما عرفتني حق المعرفة، فما بالك تحذرني؟ أي سر من أسرارك أفشيته؟ - لا شك عندي أنك كتوم؛ ولذلك أقص عليك ما جرى بيننا؛ لأنه قصة تفكهك وتلذ لي على حد قول الشاعر:
حديثه أو حديث عنه يطربني
هذا إذا غاب أو ذاك إذا حضرا
الفصل الثاني
عند ذلك استوى حسن في مكانه، وجعل يروي حكايته، قال: لا يخفى عليك أن المرحوم أبي - على ما كان عليه من السذاجة والوضاعة - كان محبوبا كثيرا لدى حسين باشا عدلي أبي نعيمة؛ لأن أبي كان غيورا جدا على مصالح الباشا، وكان يقضي له أحيانا بعض المهام الخطيرة، وكان عدلي باشا يثق بأمانته كل الوثوق، ويعتقد بحسن تربيته وآدابه، وهو الآن يعتقد بي أني ابن أبي في هذه الخصال.
وكانت أمي تتردد كثيرا إلى دار عدلي باشا، وكانت لها دالة كبرى على زوجته، فمنذ حداثتي كنت أدخل معها أحيانا إلى دار الحريم وأرى نعيمة، وبقيت أراها وأجتمع بها أحيانا حتى في أثناء عودتها إلى البيت في الفرصة المدرسية حين كان عمرها يناهز الثانية عشرة، وأنا أكبرها بنحو السنتين، وكانت نار الغرام قد جعلت تلعب بقلبي حتى إني لم أعد أطيق البعد عن نعيمة، وكانت أمها - إلى ذلك العهد - لا تحظر اجتماعنا؛ لظنها أننا في سن لم يقدح فيها شرر الحب بعد، كأنها نسيت عهد صباها وما كان يتحرك في قلبها من كوامن الهوى.
وما هي وحدها بغافلة عن هذه المظنة بل إن جميع الوالدين يظنون أن أحداثهم قبل الرابعة عشرة لا يحسون بنبض أفئدتهم في الحب فيدعونهم يختلطون بناتا بصبيان. نعم إن الحب في عهد الصبوة أقل خطرا، ولا سيما إذا كان الصبي والبنت قد ربيا على التقى والفضيلة؛ لأنه يكون روحيا أكثر منه حيوانيا حينئذ، ولكنه لا يقل في حدته عن الحب بعد سن البلوغ، فمنذ سن العاشرة. كنت أحس بولوعي بنعيمة وألاحظ أنها تحس بشيء مما أحس به.
Página desconocida
ولما كادت تتجاوز الثانية عشرة وكنت أبلغ الخامسة عشرة صارت تتحجب عني، وبالطبع كان ذلك بإيعاز أمها؛ لأنها لم تعد تستصوب اجتماعنا. لم أدرك ذلك حينئذ، وأما الآن فصرت أفهمه ، لم أعد أرى نعيمة إلا أحيانا نادرة، وكان اجتماعي بها هنيهات، ولا يخفى عليك أن هذا التحجب زادني ولوعا بها حتى إني لم أكن أستطيع أن أحول فكري عنها متى لم أكن لاهيا بكتابي أو بدراستي؛ ذلك لأني صرت أفهم معنى الحب وأدرك سر هذا الوداد، وكنت أسائل نفسي هل تفتكر بي نعيمة كما أفتكر بها أم أنها سلتني؛ لأن ودها السابق لي كان ساذجا صبويا، وصرت أفكر بالطرق الممكنة للاطلاع على ضميرها وقراءة صفحة قلبها وجعلت أحاول التحرش بها بأي الطرق المستطاعة.
كانت - لذلك العهد - تدرس في إحدى المدارس الأجنبية الداخلية، فلا تأتي إلى البيت إلا في الفرص المدرسية، وكنت أدرس في بعض تلك المدارس أيضا، وقد برعت خصوصا باللغة الإفرنسية دون سائر رفاقي على ما هي عليه المدرسة من حطة الدرجة؛ لأني كنت مولعا جدا بقراءة الروايات، ولا ريب أنها كانت تحسن فهم الإفرنسية؛ لأن مدرستها تتقن تعليم هذه اللغة، وكانت تفهم العربية بقدر ما يسمح به سنها؛ لأن أباها أقام لها شيخا أزهريا مسنا يدرسها القرآن الشريف وقواعد اللغة ونحو ذلك من علوم العربية، ففي الفرصة المدرسية بعد تحجب نعيمة عني كنت أتردد كعادتي إلى دار حسين باشا وأحاول أن أراها، لكي أكلمها ولو كلمة، فكان يعز علي ذلك؛ لأني لم أعد أقبل في دار الحريم، ولكن كان يحدث أحيانا أن أراها وأمها خارجتين إلى النزهة فأحييهما وأكلمهما كلمات قليلة، ولكني لا أجسر أن أرمي بكلامي إلى غرض لئلا أنبه ظنها إلى ما ينطوي عليه ضميري.
واتفق مرة أن لقيتهما واقفتين في باب القصر الكبير لدى العربة وأمها تتفطن لشيء فقدته ثم رجعت إلى القصر تبحث عنه، وأظن أن المفقود كان حلية؛ بدليل اهتمامها، فبقيت واقفا لدى نعيمة، فقالت لي: أراك كأنك حزين يا حسن أفندي، ولم أكن بالحقيقة حزينا، وإنما كنت كالوجل لوقوفي معها وحدنا، وكان الحوذي في مقدم المركبة ينتظر، فألهمت إلى جواب سريع كان فاتحة اختباري فؤادها فقلت: كنت أقرأ رواية رافائيل فتأثرت منها جدا، ولم تزل آثار هذا التأثير بادية على وجهي. - إذن هذه الرواية مؤثرة جدا، فلا بد أن تكون بديعة. - نعم وهي أبلغ ما كتبه لامرتين. - أود أن أقرأها إذا لم تكن لغتها عويصة؛ لأني لست ضليعة بالإفرنسية كالواجب. - بل هي سهلة جدا على ما هي فيه من البلاغة وسمو التصورات. - هل تتكرم بإعارتها لي؟ - تتشرف بين يديك يا سيدتي. - أشكرك. - كيف أرسلها إليك؟
ففكرت هنيهة ثم قالت: مع أمك - إذا شئت. - أليس من محظور؟
فنظرت في نظرة المستغرب وقالت: أي محظور تعني؟ - ألا ينكر عليك سعادة الباشا مطالعة الروايات؟ - كلا، وهل في الروايات ما تنكر مطالعته؟
فسكت عن هذا السؤال، وقلت لها: إذن تصلك غدا.
وعند ذلك حييت وانصرفت؛ خيفة أن تأتي أمها وتوجس مني، وكنت أسمع ضربات قلبي وأنا واقف لدى نعيمة أكلمها، وأشعر باضطراب أعضائي كلها إذ أرفع نظري إلى عينيها النجلاوين، وأرى ما ظهر من خديها الأسيلين فوق نقابها التركي، وأتوسم منها السماحة والرقة على ما هي فيه من الرزانة والحشمة، ولم أقدر أن أستطلع سرا من أسرار ضميرها ولكني كنت أحس أن كل تلك الدالة التي مارسناها لعهد صبانا قد انقلبت إلى كلفة واحتشام ومحاذرة، وصار يخيل لي أن كل حركة من حركاتي وكل حالة من حالاتي؛ تفضح لواعج قلبي وربما تسوء نعيمة، ولهذا كنت أبالغ في التحذر والاحتياط.
وفي اليوم التالي زودت أمي بالرواية، وقلت لها أن تدفعها للسيدة نعيمة محاذرا أن تطلع على شيء من أسرار قلبي، وصرت بعد ذلك أتوقع أن ترد نعيمة الرواية وتطلب مني سواها؛ ولهذا جعلت أبحث عن الروايات الجميلة المشهورة وأقتنيها وكانت نفسي المغرورة تحدثني أحيانا بأن نعيمة قد تكتب على بعض حواشي الكتاب كلمات توري بها معاني أفهمها.
صبرت بضعة أيام ونعيمة لم ترد الرواية، فحرت في ذلك، ولم أعد أجسر أن أحاول رؤيتها لئلا تحس بقصدي فتنفر مني، فانظر يا عزيزي يوسف ما كان أسخف عقلي حينئذ ولكن لا، لم يكن ذلك سخافة مني؛ فإن نوع التربية التي اختارها لي أبي والتي تربت بها نعيمة أيضا عودتني الجبن في مثل هذه الحال.
حاولت أن أستفهم بواسطة أمي عما إذا كانت نعيمة قد قرأت الرواية فلم أهتد إلى أسلوب لذلك آمن فيه تفطن أمي إلى ما أنا عليه من الشغف، ومع ذلك لم أر بدا من أن أقول لها: سلي الست نعيمة هل أعجبتها الرواية؟ ولما عادت أمي سألتها، فقالت: إنها نسيت أن تسألها فقلت لها: «سليها حتى إذا كانت قد انتهت من قراءتها تردها فأرسل لها غيرها إذا شاءت، ولكن لا تطلبيها منها طلبا بل اكتفي أن تسأليها عما إذا كانت قد أعجبتها، فإذا ردتها لك سليها كما قلت لك.»
Página desconocida
وفي اليوم التالي عادت أمي من دار الباشا، ودفعت لي الرواية قائلة إنها منذ يومين انتهت من قراءتها ونسيت أن تردها، وسألتها عما إذا كانت تريد سواها فأجابت أنها تنتظر غيرها منك - بالشكر.
وفي الحال تناولت الرواية، وجعلت أتصفحها؛ لأرى فيها كلمة من خط نعيمة فلم أجد، فخاب فألي واقتنعت بسخافة عقلي وغروري، ولكن الحب يرى الغرور ثقة والخيبة أملا واليأس رجاء، فتناولت رواية صغيرة وجعلت أتصفحها وأرسم تحت بعض العبارات خطوطا؛ إشارة لإعجابي بها - كما يفعل بعض القراء المتبحرين - وكتبت بإزاء بعض الجمل عبارات صغيرة تدل على شدة تأثري أو عظيم استحساني. وأكثر تلك الجمل التي استوجهت النظر إليها غزلية ووصفية ونحو ذلك. فعلت كذلك على أمل أن نعيمة تنتبه إلى أني أعني بالإشارة إلى تلك الجمل: حبي لها وانشغالي بها؛ فلعلها ترد لي صدى معناي بمثل هذه الطريقة.
ولما عاد الكتاب من عندها تصفحته، فلم أجد فيه قطرة من قلمها، فقلت في نفسي: إنها لم تدرك قصدي. ففكرت مليا بطريقة أوضح - ولكنها خفية أيضا - حتى إذا كانت نعيمة ذات شغل بي انتبهت وأدركت قصدي؛ فربما تجاوبني، فأخذت رواية أخرى صغيرة وجعلت أرسم خطوطا تحت بعض الكلمات المتفرقة في الصفحة الأولى منها فقط، بحيث إنها لو قرأت تلك الكلمات وحدها كانت جملة قائمة بذاتها معناها: «لقد أصبحت موضوع افتكاري وملتقى آمالي ومصدر سروري.» ولما عاد الكتاب إلي تصفحته فلم أجد فيه دليلا على أنها فهمت سر رسالتي لها، فقلت في نفسي: لا بد أن تكون قد فهمت، ولكن ما معنى سكوتها عن الإجابة بهذه اللغة السرية، فتناولت رواية أخرى ورسمت تحت بضع كلمات متفرقة في صفحتين كان مجموعها معا على التوالي ما معناه بالعربية: «إني مشغوف بك وقلق لسكوتك، فأخبريني عما في ضميرك بالإشارة.» ولما ردت الرواية إلي تصفحتها جيدا فعثرت في وسطها على كلمتين في صفحتين متظاهرتين تحت كل منهما خط، ومعناهما: «إني كذلك.» فتأملتهما جيدا خافق الفؤاد، وكنت تارة أتأكد أنهما الجواب لما عنيت وتارة أغالط نفسي؛ لأن الخطوط كثيفة ولكن النفس الطموع أقنعتني بصدق ظني، فكنت أمشي مرحا في ذلك النهار.
وكنت في خلال هذه المراسلة الرمزية أتجنب أن أرى نعيمة؛ لئلا أقابلها وقد اكتشفت سر بغيتي فتغضب مني إن لم يكن عندها من الوجد ما عندي. فقضيت عدة أيام قلق القلب والجسم، سوداوي المزاج لا أعرف أن أبش لأحد من أهلي، وهم لا يعلمون سر ما بي سوى انشغالي بالمطالعة.
ولكني لما علمت أن نعيمة فهمت رسائلي الرمزية لها، وأقرت بأنها مثلي في الهوى صرت أشوق أن أراها وانفرد بها هنيهة لكي أبث لها ما في قلبي من الحب العظيم وآخذ منها ميثاقا على حبنا المتبادل.
حاولت أن أجد طريقة للاجتماع بها - ولو بضع دقائق - فلم أفز، فخطر لي أن أكتب إليها رسالة أرسلها في رواية أبعث بها إليها، فخفت أن تقع الرواية بين يدي أمها قبل أن تصل إليها فتعثر على الرسالة؛ ذلك لأن أمها اعتادت أن تقف على كل أمر يخصها. فلجأت إلى طريقة المراسلة الرمزية التي أستنبطها، فأخذت رواية انتقيت من بعض صفحاتها الأولى بعض كلمات متفرقة، ورسمت تحتها خطوطا وكان معناها: «أود أن أراك لحظة على حدة، فكيف السبيل؟» فردت لي الرواية وقد أشارت في بعض صفحاتها الأخيرة إلى كلمات مفادها هكذا: «غدا مساء عند باب الحديقة الخلفي .»
الفصل الثالث
ولا أقدر أن أعبر لك عن مقدار سروري حينئذ، فإني لم أنم في ذلك الليل؛ إذ كنت أتخيل رفيقة صباي واقفة إلى جنبي ويدها بيدي نستعيد خلاصة ودادنا أيام كنا كالملاكين نتماشى ونتلاعب في الدار، وكروحين تتجاولان في فضاء ضيق.
فكرت كثيرا في ذلك اليوم، استعددت لكلام كثير، وهيأت أساليب متنوعة؛ لبث غرامي، ولإثارة أشجانها، وتحريك كوامن فؤادها، وإضرام نيران الحب فيه.
ولا يخفى عليك أن الحديقة المكتنفة قصر حسين باشا عدلي معظمها إلى جهتي الجنوب والغرب من القصر، وفي سورها الجنوبي باب صغير ويخرج منه إلى خرائب قديمة، ومنه يدخل البستاني بلوازم الحديقة من سماد وغيره.
Página desconocida
فما قارب المساء حتى كنت قد طفت تلك الخرائب عشرين مرة، وقصدت إلى باب الحديقة مثلها، ولم يشرف على تلك الخرائب من القصر سوى بعض نوافذ المطبخ ونحوه، حيث يوجد الخدم ولا أدري إن كان أحدهم قد رآني أطوف هناك، وكان كتابي معي ليدفع المظنة عني.
ولما قاربت الشمس المغيب كنت على الباب أرسل نظراتي من خصاصه، فلا أرى إلا أغصانا غضة، ولا أسمع إلا حفيف أوراقها اللطيف فكدت أنفجر مللا وسآمة، وما غربت الشمس حتى ظهرت شمس حياتي بين تلك الأغصان، ودنت إلى الباب - بكل خفة وتحذر - وفتحته، فكنت حينئذ أحس أنها تفتح باب قلبي، وشعرت أن فؤادي ينتفض جزعا، فتحت المصراع ربع فتح، فلما رأتني رجعت إلى الوراء مبغوتة جازعة كأنها لا تنتظر أن تراني، وابتسمت لي ابتسامة مقرونة بالوجل فتقدمت بغية أن أدخل فرفعت يدها قائلة: بربك. مكانك. - لماذا؟ - أخاف أن يباغتنا أحد. فابق خارج الباب وأنا من داخله؛ حتى إذا شعرت بقادم رددت الباب بسرعة واختفيت أنت في هذه الخرائب. - ليكن ما تشائين.
وحينئذ وقفت خارجا مسندا الجدار بكتفي، وهي قابضة على حاشية الباب. بقينا نحو نصف دقيقة صامتين لا نتكلم، وكل ما جال في خاطري من الكلام والآيات الغرامية في ذلك النهار غاب عن ذهني حينئذ، وشعرت أن العرق يتصبب عن جبهتي. عجيب يا عزيزي يوسف ، كيف أن دالة سني الحداثة العشر زالت في احتجاب سنة، ولم تعد لي جسارة على مفاتحة نعيمة بخطاب، وأظن أنه لو لم أكن شغوفا بها حينئذ لأمكنني أن أجتمع بها في الدار وأمام أمها بلا حرج، ولكن الحب قضى علينا بكتمه، فصرنا نتباعد دفعا للمظان.
ولما رأت نعيمة أني لم أنطق بكلمة همت أن ترد الباب قائلة ليلة سعيدة. فرجف قلبي في داخلي وقلت: بربك يا نعيمة. ما معنى هذا؟
قالت: بحياتك. دعني؛ أخاف أن يفاجئنا رقيب.
قلت: إذن لماذا أتيت ولم نتكلم كلمة قط؟ - ماذا تريد؟ قل.
فالتفت إلى ما حولي كأني ألتمس من يلقنني وازدردت ريقي فلم أعلم ماذا أقول؟ ولكن لم أعدم موضوعا تافها للحديث فقلت لها - وهي وجلة مثلي: هل تريدين رواية؟ - أرسل إن كان عندك. - أية رواية تريدين؟ - لا أدري. أرسل ما تشاء. - سأبحث لك عن الروايات البديعة. - أشكر لطفك.
والحق أقول لك يا عزيزي يوسف إننا كلينا تبادلنا هذه المخاطبة القصيرة التي لا فائدة منها ونحن لا نكاد نفهم ما نقول، ولما سكت قالت نعيمة: «بنسوار» وردت الباب فكدت أنشق من الغيظ، فناديتها بصوت خافت، فردت من وراء الباب قائلة: ماذا؟ - افتحي. - رحماك دعني؛ لئلا يرانا أحد. - لم نتكلم شيئا. - ماذا تريد أن تقول؟ - هل أراك غدا مثل هذه الساعة في هذا المكان؟ - ربما.
ورأيتها حينئذ قد ولت ظهرها ومشت متلفتة متغلغلة بين الأشجار والأنجم، فعدت ألعن نفسي وأعض أصابعي لما تولاني من الجبن حين مقابلتها. والحق أني رأيت في وجهها حينئذ من مهابة الحشمة وورع الأدب ما يعقد لسان بسمرك. عدت حزينا وأنا أعلل النفس بلقاء الغد.
وقد قضيت الليل والنهار التاليين كسابقيهما، قلق البال مقلقل الفؤاد، واستجمعت في ذاكرتي عددا عديدا من الجمل التي أبث فيها شعور قلبي وضميري وكل عواطفي لنعيمة. ولما كان المساء التالي كنت لدى باب الحديقة المعهود أنظر من خصاصه إلى داخلها. بقيت أسترق النظرات تارة وأتلفت حولي تارة أخرى، برهة طويلة لا أقدر أن أعلم مدتها ومن شدة التحديق تعب نظري وجفت مقلتاي تحت مرور النسيم.
Página desconocida
ولما أوشك نور النهار أن يبهت على إثر غياب الشمس؛ رأيت نعيمة لدى الباب تفتحه، وما انفتح قليلا حتى كنت أمامها، فقالت: حاذر أن يرانا أحد من الخارج.
قلت: لا تخافي. - بحياتك، لا تدعنا نطيل الوقوف هنا؛ لأني أخاف أن يباغتنا أحد. - لا تخافي. - لا تكلفني هذا الأمر مرة أخرى يا حسن؛ فإنه غير لائق بي، وإذا عرف به أحد أذوب جزعا. - لا تخافي.
أدركت أني لم أتجاوز في حديثي معها لفظتي: «لا تخافي.» ولما سكتت أوشكت أن يغلق علي. ضربت على وتر ذاكرتي فوجدته مقطوعا. استدعيت تخيلاتي فلم يلبني منها شيء فكاد ظلام الاغتمام ينسدل على ضميري. لم تعبر هنيهة حتى استدركتني نعيمة قائلة: لماذا لم تأت إلى الدار في كل هذه المدة كعادتك؟ آه، ليتني لم أزل صبيا صغيرا يا ست نعيمة، فكنت ألتقي بك كل يوم بلا إثم ولا حرج. أما الآن فأخشى أن أضعف حركة من حركاتي تفضح سرائري.
فرأيتها وقد عرتها رجفة كالعصفور بلله القطر. ثم جعلت تتلفت كأنها تبتغي أن تضيع الحديث، وشعرت أن كل ما كان لها من الجراءة السابقة في الحديث - لأن كلامها كان خلوا من معاني قلبها - قد تحول إلي فعدت أقول: نعيمة ألا تزالين تذكرين ماضي مودتنا؟ ما كان أحلاها! - ولكننا الآن قد أصبحنا فتيين، وخرجنا من عدن البساطة إلى بيداء الهيئة الاجتماعية، حيث تقيم الشريعة الأدبية حجابا متينا بيننا، حتى إذا تسلقناه لا نأمن السقوط الهائل. - ولكن هذا الحجاب إذا حال بين شخصيتينا فلا يحول بين روحينا يا نعيمة، وجل بغيتي من هذا اللقاء الذي أتوخاه أن أخبرك صريحا أن تلك المودة الصبوية التي نبتت في عدن بساطتنا أصبحت الآن دوحة حب باسقة في فؤادي، فهل تشائين أن تسقي هذه الدوحة من غيث رضاك؟
فأطرقت حياء وخجلا، ثم تلفتت وقالت: ويلي! لو رآني أحد هنا ماذا يقول؟ بربك دعنا نفترق. - على أي حال نفترق يا نعيمة. - نفترق كما اجتمعنا. - ولكني أود أن أسمع من شفتيك الشريفتين هل قلبي مخطئ؟ هل لي في ضميرك أثر يا نعيمة؟ - بربك دعنا من هذا الحديث. كيف تسألني هذا السؤال وأنت تعلم ما حداني إلى هذا اللقاء؟
وعند ذلك همت أن تقفل الباب، فتناولت يدها وقلت: إلى اللقاء. متى نلتقي؟ - لا أدري بيد أننا لا نلتقي هنا بعد. زرنا لعله يتسنى لنا أن نلتقي.
ثم خرجت وهي قفلت الباب وعدت أحس أن الأرض مرنة تحت قدمي فلا أمشي إلا يستخفني السرور، وجعلت - بعد ذلك - أذهب إلى القصر، وأجتهد أن أعرض نفسي أحيانا إلى دار الحريم؛ لكي تراني نعيمة، وأحيانا كنت أدخل إلى القصر أو أخرج منه في موعد خروج نعيمة وأمها إلى النزهة أو إلى الزيارة، فأحييها وأكلمها قليلا - ولكن بكل تحذر.
على أني لم أستطع الاستمرار على هذه الحالة فكنت أحس بشوق شديد إلى لقاء نعيمة كأن الحياة بالبعد عنها صارت عذابا لي، ولقد فكرت في أن تكون زوجة لي، ولكن صنعتي كانت تميت هذا الفكر؛ إذ أرى أن بيني وبينها بونا شاسعا لا أستطيع أن أعبره إلا بأعجوبة سماوية.
وكنت في بعض الأحيان أتخيل نفسي راقيا في سلم المعالي حتى أبلغ إلى مرتبة وزير وحاصلا على يدها، ولكن لم أكن لألبث أن أذكر ضعفي فأدرك أني أبني قصورا وعلالي في الهواء، فتصغر نفسي وتستولي علي الكآبة؛ إذ أفتكر حينئذ في مصير حبي هذا، وأسائل نفسي عما تكون نهايته وغايته. وكنت متى أغرقت في هذه الأفكار وانتهيت إلى شفا اليأس أنفض عن ضميري هذه الهواجس وأقول: «لكل وقت شأنه، فلأحب الآن وأدع المستقبل لتدبير الله.»
تقت جدا أن أجتمع بنعيمة، ولم أعد أستطيع الصبر عن لقائها وبث المستجد من وجدي لها، وعجبت كيف أنها هي صابرة عن مقابلتي إذا كانت تحبني كما أحبها؛ ولذلك كنت أتوقع يوما بعد آخر أن تشير إلي بأن ألاقيها في الملتقى السري المعهود؛ أي عند باب الحديقة الخلفي، على أن هذا التوقع كان يخيب كل يوم.
Página desconocida
وأخيرا لم أعد أطيق الصبر عن الاجتماع بها ولا سيما؛ لأني أحسست أنها لم تعد تهتم بأن تراني من خدرها إذ أكون في بعض رحبات القصر التي تشرف عليها مقصورتها، فاغتنمت ذات يوم فرصة خروجها مع أمها إلى النزهة وقابلتهما في باب الدار، وغافلت أمها وقلت لها بالإفرنسية: «أود أن أراك غدا في الملتقى المعهود.» فلم تجب، فعذرتها، ولكني رجحت أنها توافيني في الميعاد فانتظرتها في اليوم التالي أمام الباب حسب المعتاد.
لم تخلف ظني فقد وافت وفتحت الباب، وهي تتلفت؛ خوف مفاجأة أحد، ثم قالت: بربك يا حسن لا تغرر بي، فإني أشعر أني أفعل منكرا بهذه المقابلة السرية، وما أتيت تلبية لطلبك بل لكي أقول لك أن تتجنب أقل صلة بي. - اعذريني يا نعيمة إن وجدي يجد بي، ولا أستطيع الصبر عن لقائك ولو لحظة لكي أقول لك من صميم قلبي: إني أحبك حبا لا نهاية له، إني مستسلم للتقادير في هواك. فامتقع لون وجهها وبالجهد استطاعت أن تقول لي: لا تزد من هذا الحديث يا حسن أفندي فإنه غير لائق بي ولا بك ولا لزوم له.
فشعرت أن نبلة عبرت في قلبي فشقته شطرين، وجعلت ذراعاي ترتجفان فقلت لها: رحماك يا نعيمة هل تغير قلبك علي؟ لا أقدر أن أعيش هنيهة بغير روح حبك، إن كنت عدلت عن محبتي فها أنا مائت. أموت حقيقة فارحميني يا نعيمة، وطفر الدمع من عيني وأنا أسند الجدار وأكاد أقع على قدميها.
فنظرت إلي ولمحات الرقة والانعطاف والإشفاق تتموج على سحنتها ثم قالت: إن حبنا لعقيم يا حسن، فالأفضل لنا أن نقتصر عنه قبل أن يبلغ أشده ويتعذر علينا الخلاص منه، ويؤدي بنا أخيرا إلى عقدة صعبة الحل، أو إلى ما لا تحمد مغبته. - بالله، ألم يبلغ أشده بعد يا نعيمة. بربك لا تجرحي فؤادي بمثل هذه النصال، لقد أصبحت في بحر من الحب عميق القرار وليس لي منه خلاص، فبحقك لا تصادمي قلبي بهذا النهي عن الحب؛ فلم يعد في وسعي التخلص منه ، وإن كنت لا تحبينني فحسبي أن ترضي عن حبي لك.
فتنهدت وقالت: آه يا حسن لماذا تغرر بي وأنت لا تجهل أن بيننا حجابا كثيفا؟ - إني تعس جدا. أنا لا أجهل أن مقامي دون مقامك جدا، ودون الحصول على يدك خرط القتاد ولكن قولي لي لو كنت الآن في مقام يساوي مقام أبيك فهل يكون لي حظ منك يا نعيمة؟ - أتريد بهذا السؤال أن تختبر درجة حبي لك يا حسن؟ الأفضل أن تقصر هذا الحديث لئلا يورطنا في حب عقيم لا ننال منه غير العذاب. - أحب أن أتأكد يا نعيمة ما إذا كنت حاصلا على نعمة في عينيك. - آه يا حسن فكرت كثيرا في أمر حبنا، فرأيت أنه يكون وبالا علينا إذا تمادينا فيه؛ إذ لا نهاية صالحة له. - أعلم ذلك جيدا يا نعيمة، فما أنا إلا نموذج البائسين. - إذن لماذا نتمادى بهذا الحب؟
ففكرت هنيهة ثم قلت: أما من وسيلة لحصولي على يدك يا نعيمة؟ - لو رجع الأمر إلي لما كان شيء أسهل من ذلك، ولكن أنت تعلم أن أبي ممن يبالغون في اعتبار الأصل والجاه، فإذا لم يطلب يدي ذو وجاهة ومال طائل؛ أبقاني أبي في خدري حتى أقضي نحبي فيه.
ففكرت نحو دقيقة ثم قلت: نعيمة هبي أني صرت ذا ثروة طائلة ومقام سام، فهل أنال نعمة في عيني أبيك؟ الحصول على المال والجاه في مقدور الإنسان، ومجال السعي أمامي فسيح؛ فقد أستطيع أن أرقى حتى أبلغ ذروة العلى فهل أرضي أباك إذا بلغت إلى مقام يساوي مقامه؟
فتأملت قليلا، وقالت: إذا كانت لك هذه الهمة القعساء، والعزيمة الصادقة حتى تبلغ مقاما جديرا بأن يعتبر، فإذا شاء أبي أن يعرقل أمورنا؛ نفكر في ذلك الحين بطريقة لاجتياز هذه العقبة. - إذن ثقي يا نعيمة بأني إذا لم أبلغ في إبان شبابي المقام الذي يرضيك؛ أنصرف من هذا العالم الفاني. - ماذا تعني أن تفعل؟ - سأخبرك بعد حين. عيني لي موعدا آخر للقائنا وفيه نقرر أمرنا ونفترق على اتفاق. - غدا هنا كالعادة.
وعند ذلك افترقنا منتعشين، ولا أطيل عليك الحديث؛ فإننا التقينا في اليوم التالي في الموعد المعين بعد أن قضيت ليلي ونهاري أفتكر في مستقبلي افتكار الكهل الذي أحدقت به هموم الدنيا، وإليك نتيجة ما افتكرته مستخلصا من حديثنا التالي.
الفصل الرابع
Página desconocida
بادأتها بالكلام قائلا: فكرت أمس واليوم يا نعيمة بأمر مستقبلي، وكان حبك يشدد عزيمتي ويرفع همتي وينير ذهني، وافتكرت أني إنسان كامل الجسد والعقل كسائر الناس، وأن أولاد الكبراء لا يمتازون علي بشيء سوى المال، وأن الذين نبغوا في الدنيا نبغوا بجهدهم وسعيهم، فماذا يمنع من أن أنبغ وأبلغ درجة الكبراء؟ - لا شيء يمنعك إذا صممت وكنت صادق العزيمة، فماذا عزمت أن تفعل؟ - افتكرت بكل المهن والحرف، وتأملتها بنفسي فتراءى لي أن لصناعة المحاماة مستقبلا زاهرا. أما سمعت أن محاميا كسب في قضية لأحد المثرين ألفي جنيه دفعة واحدة، وأن هذا المحامي يجمع الآن ثروة طائلة؟ فمكاسب هذه الصناعة وافرة جدا إذا كان صاحبها نابغا فيها، وإني أرى الناس يجلون المحامين في هذا الزمان كأهم أعضاء الهيئة الاجتماعية؛ ولذلك افتكرت أن أمضي إلى أوروبا، فأدرس المحاماة، وأعود أجاهد بين أهل هذه الصناعة، فإن أفلحت وارتقيت شأنا وجمعت مالا؛ أقدمت على طلب يدك بقلب قوي، وإلا آثرت الموت على الحياة. - أرى أنه فكر حسن جدا يا حسن، وإنفاذه ميسور. - أما أنه حسن فلا أظن أنه يوجد أحسن منه، وأما أنه ميسور فلا. لأنك تعلمين أن أبي ليس مثريا ولا له مورد رزق غزير لكي يتسنى له أن ينفق علي في مدة دراستي في باريس، إلا إذا باع العقار الزهيد الذي اقتناه بعد جهد طويل في خدمة أبيك. هنا العقدة. - فماذا تفعل إذن؟ - سأجتهد بأن أقنع أبي بأن يبيع عقاره ويعلمني، وإلا فأبحث عن طريقة أخرى. - أتظنه يوافقك على هذه الفكرة؟ - إني ضعيف الأمل جدا يا نعيمة؛ لأن أبي من أهل الجيل الفائت، قلما يدرك أهمية مشروعي، ولا يعتقد أني أهل له؛ لأنه يظن أن عملا كهذا لا يليق إلا بأبناء الذوات. وزيدي على ذلك أنه لا يثق بفلاحي إلى حد أن يجازف بعقاره القليل الذي صرف معظم حياته في العمل حتى اقتناه. - إذن لم تزل أمامنا كل العقبات يا حسن، وهمتك التي علقت عليها كل الأمل لا تكاد تفيد شيئا فما العمل؟ إنك علقت قلبي ورميتني في بحر اليأس. - ثقي بي يا نعيمة إني أفرغ كل قواي وأطرق كل باب من أبواب النجاح، فعديني أن تحافظي على حبي وعلى قلبي ولا تنبذيه مهما غرك جاه غيري وغناه، وأنا أعدك أني إذا لم أبلغك أمنيتك في عهد شبيبتي فلا أبقي على حياتي. أنا الآن في السابعة عشرة وأنت تدنين من الخامسة عشرة وصبر بضع سنين ليس أمرا جليلا لحديثين مثلنا. فهل تعاهديني يا نعيمة على الحب الثابت والوفاء؟ فأطرقت خجلة ولم تنبس ببنت شفة.
فقلت لها: هاتي يدك يا نعيمة وعاهديني، إن كنت واثقة بصدق عزيمتي لا أدعك تصبرين على هذا العهد طويلا، بل يمكنك أن تعرفي طوالع مستقبلي وصدق آمالي في منتصف هذا الأجل. بعد بضع سنين تقدرين أن تحكمي من نفسك على ما إذا كان في وسعي أن أحقق أملك أو لا. ثم تناولت كفها بكفي وهي ترتجف وعلمت من عدم ممانعتها لي أنها راضية بالعهد، فقلت: إني لك يا نعيمة كل حياتي ولأجلك لا أدخر جهدا في سبيل الفلاح والسعي إلى العلى، فهل تعاهدينني أن ترفضي أي طالب غيري قبل أن ينقطع الأمل من نجاحي؟
فتمتمت قائلة: إني لك كل حياتي.
وعند ذلك افترقنا وكلانا كتلة آمال عجيبة.
ولا أخفي عليك أني كنت إلى ذلك الحين أتعلم في المدرسة بالرغم من إرادة أبي؛ لأنه كان - رحمه الله - لا يرى للعلم قيمة أو فائدة إذا خرج عن دائرة العلوم الدينية، فتعلمت في المدرسة بعض العلوم الابتدائية وشيئا من الإفرنسية بحيث صرت أفهمها وأعبر عن أفكاري البسيطة فيها، وكان في نية أبي أن أترك المدرسة عامئذ وأتوظف كاتبا في دائرة حسين باشا بماهية جنيه أو أكثر قليلا، أو أن أتعلم صناعة كالنجارة أو الخياطة أو نحوهما، وكان يحسب أن المزيد من تعلمي أصبح بلا فائدة وما هو إلا إضاعة وقت.
ولأجل ذلك تعذر علي جدا أن أكاشفه رأيه في مشروعي الجديد؛ أي العزم على دراسة الحقوق؛ لأني كنت متأكدا تمام التأكد أنه يستجهلني. على أني لم أر بدا من مفاوضته بهذا الأمر؛ لكي يكون على علم بما أفعل، فجرأت نفسي وباحثته، فأبى أن يسمع تفصيل الأمر لما علم بخلاصته وقال: «ما نحن أبناء باشاوات حتى تدرس في أوروبا وما نحن أهلا لتقلد المناصب العالية» فرجوت منه أن يدعني أفعل ما أشاء إذا أبى أن يمد لي يد المساعدة، فأبى أيضا قائلا لي: «يجب أن تكتفي بالذي تعلمته؛ فإنه أصبح كثيرا عليك، وينبغي لك الآن أن تشتغل، وها إني أترجى سعادة الباشا أن يقبلك بين موظفي الدائرة، فتكون فيها كاتبا معزوزا مكرما يحسدك جميع رفاقك على وظيفتك.»
فقلت له: دعني يا أبت لنفسي سنتين أو ثلاثا، فإذا وجدتني ضالا عن سواء السبيل فتول قيادتي؛ فأنت في غنى عن عملي - والحمد لله - فاتركني لتدبيري، فأدار وجهه مستاء مني، وبعد ذلك تعبت جدا في استرضائه، ورجوت منه أن يمهلني برهة، فإن لم يعجبه مسعاي فعلت ما يري. وبعد اللتيا والتي تركني لنفسي راضيا عني بعض الرضى.
أما ما عزمت على أن أفعله بعد ما تفكرت مليا فهو أن أستخدم في مكتب محام، وقد أملت أن أعجب المحامي فيدفع لي راتبا لا تدفعه لي دائرة حسين باشا عدلي ولو قضيت فيها عشر سنين، وأن أدخر راتبي في سنتين أو ثلاث وأنفقه على تعلمي المحاماة، هذا من جهة النفقة. أما من جهة التعلم فعزمت على أن أدرس في أوقات الفراغ، وأمارس الإجراءات؛ لكي تسهل علي دراسة الفن، وقد نبهني إلى هذا الأمر ما كنت أعرفه عن شاب مستخدم عند محام فكان راتبه في السنة الثانية نحو ستة جنيهات، فقلت في نفسي: ما يمنع أن أكون كهذا الفتى في المستقبل القريب؟ وقد عملت ميزانيتي هكذا:
جنيهات
0
Página desconocida
في الستة أشهر الأولى أستخدم مجانا
6
في الستة أشهر التالية يكون راتبي جنيها كل شهر
36
في السنة الثانية يكون راتبي ثلاثة جنيهات شهريا
72
في السنة الثالثة يكون راتبي ستة جنيهات في الشهر
114
14
أنفق منها نفقات نثرية
Página desconocida
100
يبقى لي مائة جنيه أنفقها في سنتين في باريس على درس الحقوق، فانظر ما أجهلني، كنت أظن أن خمسين جنيها تزيد على نفقتي هنا!
وقد جريت على هذه الخطة، فقدمت نفسي إلى أحد المحامين فقبلت مجانا، وجعلت أجتهد في إتقان كل عمل أكلف به، ومن حسن التوفيق أن ذلك المحامي صادف في ذلك العام إقبالا غريبا، فكان يحتاج إلى خدمتي في أكثر الأحيان، فكنت ألبيه حتى أعجبته جدا. وفي الشهر الثالث عين لي جنيها راتبا شهريا، ففرحت جدا بالنجاح العاجل الذي لم أكن أنتظره، وتوسمت خيرا. وفي الشهر السادس وجدت أني أنفع المكتب بأعمالي فطلبت زيادة المرتب، فزادني المحامي جنيها، وحينئذ رضي علي أبي؛ إذ شعر بنجاحي، وبدأ يدرك حسن مستقبلي، وصرت أحسن بسهولة إقناعه بأن يساعدني في الإنفاق على تعلمي المحاماة، وكنت أصرف أوقات الفراغ بدرس الإفرنسية وإتقانها استعدادا لدراسة الحقوق.
وما انقضى العام حتى أصيب أبي بحمى شديدة قضت عليه عاجلا، فحزنت عليه حزنا شديدا - بالرغم من وقوفه عثرة في سبيل مستقبلي - ولما كنت وحيدا له ورثت الأفدنة القليلة التي اقتناها في حياته وبعتها من دون أن أستأذن أمي، وتركت لها نفقتها وأتيت إلى هنا لكي أدرس الحقوق - كما تعلم - وها أنا الآن في السنة النهائية لدراستي.
وقبل أن آتي إلى هنا اجتمعت بنعيمة وأطلعتها على مشروعي وما نويت أن أفعله في المستقبل فسرت جدا، وجددت عهدها معي، وأقسمت أنها لا ترضى بسواي مهما كانت حالة من يطلب يدها حسنة. هذا مجمل قصتي مع نعيمة أيها العزيز يوسف، وأنت تعلم أن نعيمة من نوادر أترابها، فحصولي على نعمة رضاها توفيق غريب، فإذا كان خليل بك مجدي ينازعني إياها فكأنه ينازعني حياتي.
الفصل الخامس
- إني أحس معك يا عزيزي حسن، وأدرك حرج موقفك، ولكن إذا كنت ضامنا رضى نعيمة وواثقا من عهدها، فلماذا تحسب حسابا لمنازعة خليل إياك؟ - ألا تذكر أنه قال: إن حسين باشا وعد أباه حامد باشا حسني قبل وفاته أن يزوجها له متى عاد من أوروبا بشهادة الهندسة، وأنت تعلم أن خليل بك يعود في هذا العام معنا، فإذا أصر عدلي باشا على أن يزوج ابنته بخليل فماذا تفعل وأي قوة لعهدها؟ هذا ما أخاف منه يا يوسف، مهما كانت نعيمة وفية لي فما هي إلا فتاة، والفتاة تحت سلطة ولي أمرها المطلقة، وإذا غدت نعيمة زوجة لخليل فلك بعدي العمر الطويل.
فتأمل يوسف بك برهة وهو يلاهي نفسه بتقليب كتاب بين يديه، ثم رفع نظره إلى حسن وقال: إني أشعر بحرج موقفك يا حسن وأقول: ليتك لم تعرف نعيمة؛ لأن منازعك خصم شديد وأهله ناس أشداء البأس لا يصلى لهم بنار، وأنت لا سلاح لك لمقاومتهم إلا حب نعيمة لك وهو سلاح ضعيف جدا لا يكاد يفيد، بل يخشى أن يستعمل ضدك، فلقد حرت بماذا أنصحك وأنت في هذا الموقف الحرج؟ وكيف أقدر أن آخذ بيدك في قصدك هذا؟ على أني أقول لك: «دع التقادير تجري في أعنتها» ومتى حان حين النزاع؛ ترى ماذا تفعل؟ ومع ذلك يجب أن تحذر تمام الحذر من منازعك يا حسن؛ فإنه أقوى منك مالا وجاها ونفوذا. - هذا ما لا أجهله يا يوسف؛ ولهذا تراني أفتكر دائما بمشروعات مختلفة بنية أن أدرسها عسى أن أنفذها فأكسب منها كسبا وافرا يقدرني عاجلا على أن أظهر بمظهر الكبراء، وأقدر أن أنازع خليل منازعة القوي. - بأي شيء تفتكر مثلا؟ - لعلك تستجنني إذا سردت لك شيئا من الأفكار التي تخطر لي؛ لأنك إذ قابلتها بي تجدني شيئا حقيرا بالنسبة إليها، ولكن إذا كانت لك ثقة الرجل الحزوم بنفسه لا ترى شيئا عظيما علينا. وما الأفراد الذين قاموا بالمشروعات الجسام إلا بشر مثلنا، وإنما امتازوا عن سواهم بأشياء زهيدة في حقيقتها عظيمة في نتيجتها، وهي الإقدام والثبات والاستبصار، فإذا كنت تعتقد أن العظيم لا يكون إلا ابن العظيم، وأن الحقير في دنياه حقير في عقله وعزمه وعمله، فلا داعي لأن أبسط لك شيئا من آمالي. - عجيب يا حسن! متى كنت أستخف بآرائك حتى تستهل حديثك الجديد بهذه المقدمة؟ ولماذا تفترض أني أعتقد بأن الرجال العظام لا يكونون إلا من سلالة عظام؟ لم يقم بين البشر أعظم من نابليون مع أنه من سلالة كورسيكية تكاد تكون خاملة الذكر، فهات ما عندك.
وعند ذلك كشف يوسف بك ساعته، فوجدها قد تجاوزت العاشرة، فقال: لقد فات موعد الذهاب إلى الكومدي فرنسيز، فدعنا نقضي بقية سهرتنا هنا؛ فإني أستلذ البحث بالمواضيع الجدية، فقل ما تريد أن تقول.
نحن الطلبة المصريين، نقضي في هذه البلاد وفي بعض ممالك أوروبا ردها من الزمان يكفي لدراستها والاطلاع على أسرار رقيها ونجاحها، إذا وجهنا نظرنا إلى هذا القصد، ولا يخفى عليك أن أوروبا الآن مثال العمران ونموذج التقدم بالرغم مما يعتور تمدنها من المفاسد، وسائر العالم يمشي الآن في تمدنه على خطوات أوروبا ويحذو حذوها بالرغم منه، رضي أناسه أو لم يرضوا، ومصرنا في جملة الممالك الشرقية الجارية في هذا المجرى أيضا، فكل ما نراه من محاسن المدنية ومحامد العمران سنقتبسه شيئا فشيئا على أيدي أناس مختلفين، غالبهم من الأجانب، فلماذا لا يقتبس شيء من ذلك على يدنا نحن الذين نختبر الأحوال هنا بأنفسنا، وندرس مزايا المدنية على مهل زمنا ليس بقصير؟ بل لماذا نقضي الوقت في باريس هذه أم الدنيا ولا ندرس جميع محاسنها، ونقتبس منها لبلادنا ما نستطيع اقتباسه فننتفع وننفع البلاد في وقت واحد؟ - صواب ما تقول، وما هي إلا غفلة منا، ولا ريب أننا إذا بقينا غافلين سبقنا الأجانب إلى جميع موارد الرزق ومصادر الكسب في بلادنا، وقد سبقونا إلى جانب كبير فيما مضى، فلماذا ندعهم يسبقوننا إلى الباقي. - هذا ما أريد أن أقوله. - وماذا خطر لك أن تقتبسه من مزايا المدنية التي هي مورد كسب لمقتبسيها؟ - لا يخفى عليك أننا الآن في عصر الكهرباء، وللكهرباء مستقبل مجيد، ولسوف ترى أنها مستخدمة في أشياء كثيرة، فلماذا لا نستخدمها نحن في بلادنا كما يستخدمها أهل أوروبا؟ - مثلا. - خذ النور مثلا. لماذا لا نسعى بتأليف شركة في مصر لإنشاء النور الكهربائي فيها وتوزيعه على المنازل والحانات ... إلخ؟ ولا ريب عندي أن شركة تتألف لهذا الغرض تصادف إقبالا من الجمهور وتربح أرباحا باهظة.
Página desconocida
ففكر يوسف بك هنيهة ثم قال: مشروع حسن ولكن أمامه عقبات. - لا أنكر أن أمامه عقبات، ولكن لا بد من درسه، حتى إذا ظهر أن منافعه أوفر من متاعبه جعل في حيز الفعل، فما ظنك بالعقبات التي تعترضه؟ - أولا أن شركة الغاز في مصر تنافسه، فلا يقدر أن ينازعها الرواج والانتشار؛ لأنها أقدم منه وأقوى؛ ولأن نفقة الغاز أقل من نفقة الكهرباء فلا يمكن لشركة الكهرباء أن تبيع نورا أرخص من نور الغاز إلا إذا انتشرت انتشارا متسعا.
فقاطعه حسن قائلا: لا بأس دعنا من نور الكهرباء، فما قولك بإنشاء شركة لترام كهربائي في شوارع القاهرة والإسكندرية؟ - ففكر يوسف هنيهة، وقال: إن نجاح هذا المشروع أكثر احتمالا من مشروع النور الكهربائي؛ أولا: لأن مصر مدينة كبيرة مترامية الأطراف ولا غنى للناس فيها عن الانتقال من طرف إلى طرف، أو على الخصوص من أطرافها إلى مركزها الأوسط؛ حيث معظم الحركة والاحتكاك والتواصل في المعاملة. والمشي مسافات طويلة - ولا سيما في الصيف - يكاد يكون تهلكة، فلا ريب عندي أنه إذا جرى الترام في أهم شوارع المدينة وكانت الأجرة زهيدة، لا بد أن يصادف إقبالا، وإذا لم تكن أرباحه إلا ما يربحه الحمارة وأصحاب الأمنبوس وجانب من العربات فحسبه وكفى. - بل إني أؤكد لك أن أرباحه تكون أضعاف ذلك إذا كانت الأجرة زهيدة، بحيث يسهل على كل فرد أن يدفعها، ولا يخفى عليك ما ينجم عن ذلك من سرعة الحركة العملية في المدينة؛ إذ يسهل على الناس التنقل. - والله إنه لفكر حسن جدا يا حسن ولكن ... - لكن ماذا؟ - لم تدعني أن أذكر لك السبب الثاني الذي يحول دون نجاح شركة النور الكهربائي فالآن أذكره لك؛ لأنه سبب عام يحول دون كل شركة؛ وهو عدم إقبال الوطنيين على إنشاء الشركات والاكتتاب بها، فإذا أنشئت هذه الشركة لا تجد أحدا من أغنيائنا يثق بصحة عملك لكي يشترك معك فيه مجازفا بماله. - هذه العقبة لم أغفل عنها يا عزيزي يوسف، ولا أجهل أن ارتقاءها يحتاج إلى عزم صادق وهمة قعساء وجلد عجيب في السعي والإقناع بحسن مزايا المشروع، ولكني إذا وقفت إلى اثنين أو ثلاثة مثلك يرعوون ويفهمون خلاصة درسي للمشروع وكانت لهم الجراءة على بذل المال له، فإني أذكر لك أن بقية المتمولين متى رأوا الاثنين أو الثلاثة من المتمولين الوجهاء أقدموا على المشروع تبعوهم فيه - بحكم الغيرة - ولو عن غير فهم لما ينتهي إليه.
فأول خطوة أخطوها في هذا العمل العظيم هي أن أدرس المشروع جيدا، وسأغتنم فرصة الصيف القادم للطواف في بعض عواصم أوروبا؛ حيث أزور مكاتب شركات الترامواي والنور الكهربائيين وغيرهما من الشركات التي يتراءى لي أنها لازمة لبلادنا، وأدرس أحوالها وأقف على كل ما يمكن الوقوف عليه من إحصائياتها. ثم اجتهد أن أطبق ذلك على مصرنا، فإن توسمت خيرا بعد ذلك الدرس والبحث وضعت تقريرا ضافيا في المشروع وعرضته على كبار أغنيائنا الذين أتوسم فيهم الفطنة والفهم، وحينئذ أبذل كل ما عندي من قوة الإقناع، فإن أفلحت فخير، وإلا تيقنت أن الأمة في سبات عميق ولا حياة لمن تنادي.
وكان يوسف بك حينئذ يتأمل حسن ويذرعه بنظره من قدميه إلى قمة رأسه وكأنه يقول في نفسه: أفي هذا الجسم الصغير والعمر الحديث يوجد هذا الفكر العالي وهذا الإقدام العجيب وهذه النفس العظيمة؟ وبعد ما تأمله هنيهة قال: إني أرجح فوزك يا حسن، فأقدم وأنا معك. - نعم إذا كنت يا عزيزي يوسف ذا ثقة بنفسك، وتعتقد أن ما يفعله كبراء الأجانب في بلادهم - وغيرها - ليس من أعمال الآلهة وإنما هو عمل بشري في مقدور كل بشر ذي همة وإقدام وبصيرة. إذا كنت تعتقد ذلك فلا تتوقع إلا الفوز والنجاح لمشروعنا.
فنظر يوسف إلى حسن - مبتسما - وقال: يا لله ما أعظم فعل الحب! لعمري لولا عهودك المقدسة لنعيمة لما كنت أجد فيك هذه العزيمة العجيبة - على ما أظن. - لا أنكر عليك أن حبي لنعيمة يدفعني إلى ركوب متن الشدائد والعظائم ويصور لي المستحيلات ممكنة، على أن هذا الحب الجليل لم يفقدني عقلي بل أزكى نار ذكائي، فلا أدخر جهدا في سبيل الصعود على سلم العلى؛ لكي أعجب عدلي باشا وأكون فخرا لنعيمة، بحيث إنهما يؤثرانني على أي طالب آخر. - ولكن لا تنس يا حسن أن منازعك شديد البأس بأهله، فأخاف أن يفوز عليك. - يستحيل أن يفوز إذا أصرت نعيمة على أن لا تقبل يد طالب كما عاهدتني سرا، ولا سيما إذا كان حسين باشا كما نعرفه يحب ابنته ويعقل الأمور جيدا ويدرك عاقبة الإكراه، وقد جددت نعيمة ذلك العهد معي في العام الغابر لما عدت إلى مصر في فصل الصيف لكي أشاهدها وأطلعها على أخبار نجاحي، وإذا لم أفز بآمالي قبل ذلك الميعاد فلا أكون مستحقا ليد نعيمة، وفي هذه الحالة أنفي نفسي من هذا الوجود وأدعها تنعم بمن اختاره الله زوجا لها. - إني أفضل جدا أن تكون أنت نصيب نعيمة يا حسن، ولكني أخاف عليك من منازعك - كما قلت لك - فأحذرك منه. - لقد أثرت ظنوني يا يوسف بهذا التنبيه المتكرر، فهل هناك من سبب يوجب هذا التنبيه؟
فحاول يوسف أن يغالط حسن في ظنه قائلا - بلهجة باردة: كلا لا شيء، وإنما أقول لك: إن التنازع في مثل هذا الموضوع يفضي - غالبا - إلى مغبات محزنة. - لا بد أن يكون في المسألة سر فلا تخف علي يا يوسف شيئا له مساس بي؛ لئلا يحصل لي أذى بسبب إخفائه، اللهم إلا إذا كان الأمر سرا يتعذر عليك أن تبوح به. - لا أخفي عليك - وأنت الصديق الحميم - أن هناك سرا جليلا هائلا قد يكون له مساس بعلاقتك مع نعيمة، في حين أن خليل بك يعد قلبه بقلبها ؛ ولذلك أؤثر أن أسره إليك؛ لكي تكون على بينة من أخلاق خصمك وخفيات قلبه وثبات ذوي قرباه، وأنت تعلم أن خليل بك وأهله أصدقائي، ولكني في الحقيقة لا أسكن لصداقتهم ولا أرضى عن أعمالهم الخفية، ولا أجسر - من الجهة الأخرى - أن أتظاهر بالعداء لهم، بل أداريهم؛ اتقاء لشرهم. - إني لا أعرف هؤلاء القوم إلا معرفة سطحية، وإذا لم يكن بد من مناظرتهم لي فلا بد لي من الاطلاع على جميع أخبارهم وأحوالهم، واكتشاف ما يمكن من أسرارهم، فإن كنت تروي لي ما تعرفه عنهم تخدمني خدمة جليلة يا يوسف. - لا أضن عليك بشيء، فاسمع حكاية سرية أسرها إليك وأرجو أن تقسم لي بأن تكتمها.
الفصل السادس
قال أقص عليك هذه الحكاية السرية يا عزيزي حسن؛ لأن بدءها يشبه بدء قصتك مع نعيمة؛ ولهذا أخاف أن تنتهي حالتك كما انتهت الحالة في قصتي. - هات، لنرى. - هل تتذكر فتى يدعى شاكر بك نظمي بن إبراهيم باشا خيري.
ففكر حسن هنيهة، وهز رأسه، وقال: كلا لا أذكر أحدا بهذا الاسم، فمن تعني؟ - لا. لا أنتظر أن تذكره؛ لأنك كنت صغيرا جدا حينئذ، ولم يكن لك اختلاط بأمثاله، كم عمرك الآن؟ - نحو العشرين. - عجبا. إن الذي يراك يظنك في الرابعة والعشرين! فقد كنت إذن حينئذ في الثامنة من عمرك، وكنت أنا في السادسة عشرة من عمري؛ لأنه قد مضى على الحادثة نحو اثني عشرة سنة تقريبا. - ماذا تعني بقولك حينئذ؟ - أعني بها يوم فر هذا الفتى الذي أكلمك عنه. - ما قصته؟ - كان شاكر هذا فتى في ريعان الشباب، وكان يشبهك في بعض الأخلاق، وربما تشابهتما في المزاج، بيد أنه كان أرق منك جسما، وكنت أعرفه جيدا كما أعرفك، وكان صديقي كما أنك صديقي، وهو لا يكبرني بأكثر من سنتين أو ثلاث سنين.
كان هذا الفتى مغرما بزينب ابنة حمدي باشا رفعت الذي كان من بعض المقربين لإسماعيل باشا الخديوي الأسبق، وهو - كما لا يخفى عليك - ابن عم حسين باشا عدلي. - نعم نعم، سمعت شيئا عن الموضوع، سمعت أن فتى طلب يد زينب من أبيها، ثم ظهر أنه مجرم ففر، نعم سمعت أطراف هذه الحكاية في عهد حداثتي، ولكني لم أكن حينئذ لأعبأ بها. - وكان عزيز باشا نصري - وحينئذ كان بك - أخو خليل بك مجدي مناظرك يطلب يد زينب أيضا لا حبا بها، بل طمعا بميراثها العظيم؛ لأنها الوارثة الوحيدة لحمدي باشا رفعت أبيها؛ إذ لم يكن له بنون ولا أقارب سواها، أما زينب فكانت تحب الفتى شاكر بك نظمي؛ لأنه أجمل من عزيز باشا وجها وأوفر عقلا وأرقى أدبا. وهي - كما لا يخفى عليك - من نادرات أترابها في عقلها وآدابها وجمالها، بل هي أفضل امرأة عندنا في آدابها.
Página desconocida