Saad Zaghlul, Líder de la Revolución
سعد زغلول زعيم الثورة
Géneros
إن شرف الممالك يقدر بمقدار احترام ساستها ورجالها للمعاهدات السياسية التي يبرمونها والتصريحات الرسمية التي يفوه بها رجال تلك الحكومة الرسميون. ولما كانت إنجلترا في معاهدة لندن عام 1840 قد ضمنت استقلال مصر، كما أقسمت الملكة فكتوريا والبرلمان بالتاج والشرف عام 1882 أن الاحتلال لن يكون إلا وقتيا وأعلن جلادستون عام 1887 أن أوان الجلاء عن مصر قد آن، ولما كنتم جنابكم الرئيس الممثل لحكومة جلالة ملك بريطانيا والمدافع عن كرامة بلاده وشرف الأمة الإنجليزية الحرة؛ فإني أطالب جناب الرئيس المبجل برفع الحماية التي أعلنتها حكومتكم على بلادنا قسرا لمقتضيات الحرب وجلاء الجنود البريطانية عن وادي النيل احتراما للمعاهدات والتصريحات التي ذكرناها وصيانة لشرف أمة أنت على رأس حكومتها، وليأذن جناب الرئيس بأن أذكر أن سياسة العنف والإرهاق التي اتبعت معنا لا تزيدنا - نحن المصريين كافة - إلا تمسكا بمطالبنا، وثباتا في موقفنا، وأنه خير لإنجلترا أن تكون لمصر صديقة، وهناك نستطيع أن نقطع على أنفسنا عهدا بأن نصون مصالحكم، ونروج تجارتكم في بلادنا.
ولا شك أن آخر ما انتظرته الحكومة البريطانية - وهي تنفي زعيم مصر إلى جزيرة مالطة عقابا له على طلب استقلالها - أن لا تفيد من ذلك إلا أن تصبح الجزيرة ميدانا آخر من ميادين المطالبة بذلك الاستقلال!
نزلوا في المعتقل معزولين عن بقية الأسرى على خلاف السنة التي كانت متبعة فيه قبل وصولهم، ولم يؤذن لهم بالخروج للرياضة في الخلاء إلا مرتين كل أسبوع بعد التوقيع على حلف كتابي يقسمون فيه بالشرف أن لا يهربوا، ولا يساعدوا أحدا على الهرب، ولا يعطوا أحدا نقودا، ولا يعملوا شيئا فيه إيذاء لجنود جلالة الملك ... وبعد كل هذا لم تكن السلطة الإنجليزية تسلمهم من مالهم إلا بمقدار ما يلزمهم أول فأول لضرورة المعيشة، وكانوا قد برحوا مصر وليس معهم من النقد إلا قليل، فأرسلوا - بوساطة السلطة - يطلبون مالا من ذويهم في مصر، فجاءهم خمسمائة جنيه لكل من سعد وحمد الباسل ومحمد محمود، ومائة جنيه لإسماعيل صدقي، فأودعتها السلطة مصرف الجزيرة، وأباحت لهم أن يشتروا ما يشاءون بتحويلات يقبضها البائع من المصرف، ورخصت لهم في استخدام طاه ألماني وإبقاء النور الكهربائي إلى ما قبل منتصف الليل بنصف ساعة، فكانوا يقضون الوقت في التعاون على تعلم اللغات التي يحسنها بعضهم ولا يحسنها الآخرون.
ولم يسمعوا شيئا عن مصر ولا عن ثورتها إلا حين زارهم اللورد مثوين حاكم الجزيرة، وهو يقول لهم عرضا: «أشعلتم النار في مصر وجئتم إلى هنا!» فعلموا أن في مصر أحداثا خطيرة، وأدركوا أنها الثورة حين استطاع طاهيهم الألماني أن يدس إليهم بعض القصاصات عن صحيفة التيمس، وعرفوا منا قبسا من مظاهرات الطلبة وثورة البدو في الفيوم، ولكنهم لم يسمعوا بما يدلهم على مداها وتفصيلات وقائعها.
وبعد شهر من مالطة جاءهم النبأ بالإفراج عنهم والسماح لزملائهم في القاهرة بالسفر إلى حيث يشاءون، وأنهم مأذون لهم في السفر على الباخرة «كاليدونيا» التي تقل أولئك الزملاء، وستصل إلى الجزيرة صباح يوم الثلاثاء الموافق لنصف أبريل.
فكان لذلك النبأ في نفوسهم وقع عظيم؛ لأنه بشرهم بالحرية التي طالما تمنوها للسعي في قضية بلادهم، وأثبت لهم أنهم يسعون في قضية تستحق عناءها، ولا تخيب رجاء الساعين فيها.
فتفاءلوا بالإفراج عنهم خيرا، وفرحوا بما أولاهم من الثقة وتأكيد العزيمة أضعاف فرحهم بالطلاقة من الاعتقال، وباتوا على شوق إلى صباح يوم الثلاثاء؛ لينعموا بلقاء أولئك الزملاء الذين فارقوهم، ولا يعلم منهم أحد متى يكون اللقاء، وليسمعوا منهم تفصيل الحوادث التي لمحوا بصيصا منها في شذرات الصحف الإنجليزية، وهي لا تصل إليهم إلا بعد لأي في خلسة من الرقباء.
ثم أذنت السلطة لهم بزيارة الأسرى من أبناء وطنهم ومن الترك والألمان، فلبوا دعوة المصريين المعتقلين بالمعسكرات الأخرى، فاستقبلهم الأسرى الأجانب معجبين، واستقبلهم الأسرى المصريون فخورين، وكان بعض القادة الترك يقولون لأصدقائهم المصريين: «اعتبرونا منكم فقد أحببنا بلادكم وأحببنا زعماءكم.» ورحب بهم الأمير هوهنزلرن ابن عم غليوم، ورفع لهم بعض الألمان راية بيضاء مكتوبا عليها بالمداد الأحمر تاريخ (14 سبتمبر سنة 1807)، وهو تاريخ جلاء الجنود الإنجليز عن مصر عندما طمعوا في احتلالها للمرة الأولى، وكان الأسرى الألمان قد أقاموا معرضا فنيا لمصنوعاتهم التي استطاعوا أن يصنعوها بما لديهم من الأدوات القليلة تزجية لأوقات الفراغ، فقدم أحدهم إلى سعد تمثالا عسكريا بالعدة الحربية الكاملة للإمبراطور غليوم، مصنوعا من الورق المقصدر الذي تغلف به صناديق التبغ الصغيرة، فحياه سعد وقال له: «إنه لتمثال عظيم يمثل عظيما.» ثم قال: «ولكننا لا نملك عدة الحروب، وإنما نحن أمة سلام.»
وقد رست الباخرة «كاليدونيا» في ميناء مالطة ضحى يوم الثلاثاء، وعليها أعضاء الوفد القادمون من القاهرة وهم حسب ترتيب الحروف الهجائية: أحمد لطفي السيد بك، وجورج خياط بك، والدكتور حافظ عفيفي، وحسين واصف باشا، وسينوت حنا بك، وعبد العزيز فهمي بك، وعبد اللطيف المكباتي أفندي، وعلي شعراوي باشا، ومحمد علي بك، ومحمود أبو النصر بك، ومصطفى النحاس بك، ومعهم مكتب الوفد وفيه كتابه ومترجموه، ومنهم الأستاذ ويصا واصف الذي انتخب عضوا في الوفد بعد وصولهم إلى باريس.
ولما رست الباخرة على الميناء انتظر الأعضاء فيها قدوم إخوانهم المعتقلين فطال الانتظار، واستحسن بعضهم النزول إلى الجزيرة للقائهم، فوجدوا الخدم قد سبقوا سعدا وأصحابه إلى الشاطئ بالحقائب ومؤنة السفر، وما هي إلا هنيهة حتى أقبل سعد وأصحابه الثلاثة يمشي معهم ضابط إنجليزي وضابط من أهل الجزيرة لم يفارقهم إلا عند صعودهم إلى السفينة، فكان للقاء الزعيم وأصحابه مشهد رائع لا ينساه من رآه، وامتزجت في لقائهم معان شتى من الشوق والإيناس، وشعور الظفر والثقة والأمل في النجاح.
Página desconocida