وكانت شهرته قد سبقته إليها فتوافد عليه طلاب الصور والتزين، وتهافت عليه المتعلمون بالعشرات ومنهم فانديك العظيم، وسندرس مصور الحيوانات المعروف، وأرسلت إليه الملكة ماريا دي مديشي في طلب نقوش تقترحها عليه لتزين قصرها في باريس، وكأنما عرضته علاقاته بالملوك والأمراء لشواغل السياسة، فسافر إلى إسبانيا في مهمة خطيرة ولقي فيها «فيلازكيه» المصور الكبير، وقد سر منه ملك إسبانيا وارتاح إليه فأنفذه في مهمة إلى باريس ولندن، فحظي في هذه المدينة برعاية شارل الأول ونال منه رتبة الفروسية وتكليفا سنيا بنقش غرفة المائدة في «الهويتال»، ولما قدم الأرشيدوق فردناند الحاكم الإسباني إلى «أنتورب» كان روبنس هو المتولي تهيئة المدينة لاستقباله فزاره الأرشيدوق شاكرا في بيته حين علم أن النقرس يقعده عن مبارحة فراشه، ومضت سنتان عليه وهو بين الصحة والمرض فآثر العزلة، واشترى قصرا جميلا لا تزال صورته التي رسمها المصور محفوظة في المتحف الإنجليزي. إلا أن السياسة والفن أبتا عليه الهدوء في هذه العزلة، فكانت تقطعها عليه السياسة تارة والفن تارة أخرى حتى أحس باقتراب الأجل في سنة 1639، فكتب وصيته واستعد للخاتمة التي لا مفر منها لشقي أو سعيد، ثم وافته تلك الخاتمة المنظورة بعد سنة واحدة وهو في الرابعة والستين من حياة هنيئة لم تنغصها الهموم، ولم تزعجها القلاقل، إلا ما لا بد منه لأبناء الفناء.
توفي عن زوجته الثانية الحسناء «هيلنا فورمنت» التي اقترن بها وهي في السادسة عشرة وهو في الرابعة والخمسين، بعد موت زوجته الأولى بأربع سنوات، أما هذه الزوجة الأولى فاسمها «إيزبيل براند» بنى بها بعد عودته من إيطاليا، ورزق منها ولديه اللذين حفظ رسمهما في صورة بديعة من أحسن صوره وأكملها مودعة في متحف فينا إلى اليوم. •••
تلك قصة وجيزة للحياة التي حييها روبنس المصور السياسي الموفق في التصوير والسياسة، وقد نسيت توفيقاته السياسية وسها عنها التاريخ، ومحاها الذي محا أرزاقه منها ومن سخروا له تلك الأرزاق وكافأوه على خدمته بالأموال والألقاب، ولكن صوره وزخارفه ما تزال باقية تتوارثها الأمم، وتتنافس فيها العواصم، ولقد يعجب أناس من هذه الملكة التي تنجح في السياسة نجحاها في التصوير، وتبرع في تسوية المعضلات والتوفيق بين المطالب براعتها في مزج الألوان والتأليف بين الأصباغ، والحق أنها ملكة عجيبة فيما عهدناه من ملكات النابغين، ولكننا لا نخالها من العجب بالموقع الذي يراه كثير من الناس، فإنك لا تخطئ أن تلمح السياسي الحصيف في رسوم المصور وخصائصه التي عرف بها فنه الجميل، فإن مزاياه في هذا الفن هي مزايا السياسي المحنك، والمواهب التي حرمها على اللوحة هي المواهب التي يحرمها السياسيون، فهو أريب سريع التوسم والفراسة، بارع التناول مغرق في العمليات التي لا تخالطها النظريات والفروض، وهو خلو من الخيال والعطف والمطامح التي تستهوي رجال الفنون، وحبه للضخامة والأبهة أرجح من حبه للأناقة والجمال، ومهما تر له من صورة مقتبسة من مأثورات المسيحية أو أساطير الأقدمين، ومنقولة من التواريخ أو حوادث أيامه وآخذة من الطبيعة أو وجوه الآدميين، فإنك لا تجد في مئات الصور التي تنسب إليه أثرا بارزا للخيال الرفيع، أو للعطف السري، أو للذوق اللطيف، وإنما يستوحي الرجل رأسه لا قلبه وحقائق العيان لا نوازع الخيال. ولا يستثني من هذه الخلة إلا قليل من الصور التي رسمها لبنيه أو لزوجته أو لأقربائه، فإنك واجد في هذه عطفا حيا لا تجده في غيره، وإحساسا رقيقا لا يطالعك في رسومه الكبيرة أو الصغيرة من وجوه الناس ولا من محاسن الطبيعة، ونساؤه كلهن نساء بيوت من اللحم الخالص، والدم الصرف، غير ممزوجات بفتنة الأمل، ومسرة الحب، ونزاهة الخيال البعيد، فالمرأة عنده امرأة ولادة ومتعة، والنظرة التي ينظر بها إليها نظرة شهوانية، ولكنها بريئة من المرض والحس المخبول، وحياته كلها حياة عمل وحصافة، سواء أكان عمله هذا في معارض السياسة، أم على لوحة التصوير.
بين يدي الساعة نسخ من صوره الكثيرة أظرفها «حكم باريس» التي استمد موضوعها من أساطير اليونان؛ خلاصة هذه الأسطورة أن ملك تساليا تزوج من «ثيتيس» إحدى بنات البحار فأقام عرسا فاخرا، دعا إليه الأرباب والربات جميعا إلا «أريس» ربة الفوضى، فإنه تعمد نسيانها مخافة أن تفسد عليهم نظام الزفاف، ولكن أريس حنقت عليه فجاءته غير مدعوة على حين غرة، وألقت في الجمع تفاحة ذهبية مسطورا عليها «هدية للجميلة بين الجميلات» فتنازع التفاحة أجمل الإلهات في الوليمة: هيرا ربة الأعراس وزوجة الإله الكبير، وأتينا ملكة الهواء وسيدة الأبطال، وفينوس إلهة الجمال وساحرة الغرام، واشتد التلاحي بينهن وأبين أن يسلمنها لواحدة منهن، فلما اشتد الخصام بين الثلاث قضى «زيوس» رب الأرباب أن يحتكمن إلى غلام راع ليقضي بينهن أيهن أجمل جمالا وأحق بتفاحة أريس، وكان ذلك الغلام هو باريس ابن ملك طروادة متنكرا في زي الرعاة، فرضي الربات الثلاث هذا الأمر، ولكنهن خشين الحكم الذي يحكم به ذلك الغلام الساذج مع ثقة كل منهن برجحانها في شمائل الحسن، واستحقاقها لجمال أريس، فدست كل منهن إليه من يرشوه ويستميله إليها، ووعدته هيرا السلطان، وأتينا النصر في الحروب، وفينوس أجمل من في الأرض من النساء. فقضى الغلام لفينوس، وأخذ المرأة التي اختارتها له - وهي هيلين ملكة إسبرطة - إلى طروادة فكانت تلك فاتحة الحروب المنسوبة إلى هذه المدينة في أساطير اليونان.
هذه قصة تفسح منادح الخيال، وتبعث دواعي العطف، وتشتمل على معان شتى من الأريحية والجمال، والموقف الذي اتخذه روبنس لصورته هو موقف الربات الثلاث يعرضن جمالهن على الغلام ويستغوينه بالتثني والإيماء للقضاء لهن بالجائزة المشتهاة، وهو موقف شائق يفيض بشاعرية التصوير وخفة الحركة، فكان عسيا أن يظهر فيه بعض الخيال، وبعض العاطفة، وبعض نفحات الآلهة العلويات! ولكن روبنس لم يظهر لنا شيئا من ذلك ولم يعرض لنا في هذا الموقف الشعري إلا نساء متشابهات في السمنة والقصر وتقارب الأعضاء، نساء بيوت شباعى من الغذاء لا هندام لأجسامهن ولا رشاقة! ولولا صحة الفطرة التي أسبغها عليهن المصور لحسبت بهن مسا من الورم! على أن من آيات ذلك الرجل القدير أنه استطاع أن يخلو هذا الخلو المعيب من الشاعرية، وأن يجيء مع هذا بصور قوية تبدهك بشعور الثقة، وتمكن الأستاذية، وقلة التردد، ويغطي ما فيها من الصدق والإحكام على ما فيها من الغلظة، وعيوب الشكل الدميم.
ولم يكن روبنس على ذوق حسن في اختيار الأساطير لصوره، بل كان كثيرا ما يختار لها موضوعات تنضج بالهمجية، والغلظة والحيوانية السمكية، حتى بلغ من ظهور هذا العيب في آثاره أن سلمه المعجبون به، وزعموا أنه كان يتعمده تبغيضا لتلك السمات المعيبة! وهو عذر بين التمحل لا يستر الحقيقة ولا يمنع تلك الحقيقة أن تدلي إلينا بعبرتها المعلومة: وهي أن ذوق الجمال شيء وذوق المجالس واللباقات السياسية شيء سواه، وقل أن يتشابها، بل قد ينزل أحدهما من الآخر منزل النقيض من النقيض.
أما صور روبنس الدينية، ففيها تنوع الملامح، وإتقان التلوين، وتمكن الأستاذية، ولكنها مقفرة أو تكاد تقفر من القداسة الخاشعة والإيمان الوطيد، ولعله كان يؤثر الأساطير اليونانية على الأقاصيص الدينية، وهو لا يؤمن بهذه ولا بتلك! ولكن من العذر له ومن اللوم عليه في آن واحد أن نتنبه إلى أمر في حياة هذا المصور القدير جدير بالانتباه حين نأخذ من تصفح الصور المنسوبة إليه، فقد كان لكثرة الإقبال عليه وضيق وقته، يقبل أن يضع توقيعه على صور كثيرة ليس له فيها غير الرسم والتخطيط، والبقية كلها من عمل تلامذته ومريديه، وكان طلاب تلك الصور يقنعون باسم روبنس، ولا يسوءهم أن يحطوا من الثمن الباهظ معظمه أو كثيرا منه بذلك الاقتصاد الغريب.
النكتة1
على ذكر كتاب «في المرآة»
كان التصوير الهزلي معروفا عند الأقدمين، ولكنه لم ينتشر ولم يتأصل، ولم يستكمل حظه من الجودة والألفة إلا في القرنين الأخيرين، وقد يعزى انتشاره إلى أسباب كثيرة أهمها الطباعة والصحافة والنظم الدستورية، بما تستتبعه من الحملة على الخصوم والرغبة في تعريضهم للبغض تارة وللسخرية تارة أخرى، وإلى معرفة بالنفس الإنسانية لم تكن مأنوسة في الأمم القديمة، فأصبح من السهل السائغ على الإنسان أن يرى في الملأ مضحكا، أو أن تبدو جوانب النقص فيه للخاصة والكافة؛ لأننا نعلم الآن أن الكمال في الصفات غرض لا تتعلق به المطامع وأنه ما من أحد إلا وفيه جانبه المضحك وجانبه الضعيف، فلا ضير علينا أن تظهر هذه الجوانب للناس، وأن يتندر بها من يعرفنا ومن لا يعرفنا، ومعظم الفضل في هذا - إن حسبت هذا فضلا - للسياسة ونظام الشعبية الحديث، فقد قيل قديما: «من ألف فقد استهدف.» ولكننا أحرى أن نقول في هذا العصر: «من خاض غمار السياسة فقد استهدف.» فما في هذا الغمار رحمة ولا هوادة، ومن وطن نفسه على النزول فيه فلا يستغرب أن يكون غرضا للمطاعن تارة وعرضة للسخرية تارة أخرى، ولا يصدقن أنه ناج من التشهير والتقول، أو أن خصلة من خصال نفسه تبقى مجهولة مصونة غير مبالغ فيها قدحا ومدحا وتعظيما وتهجينا، ما دام له خصوم وأنصار، وما دام التحزب هو صناعة الحكم في هذا النظام الشعبي الحديث، ويعزى انتشار الرسوم الهزلية والرضا بها إلى سبب آخر لعله أقوى من هذا السبب وأدعى إلى شيوعها وقبولها، وهو تحول العقائد القديمة وزوال المثل العليا، ورجوع الأمر إلى التجربة والمشاهدة بعد أن كان مرجعه للخيال والتصديق بالمغيبات، فالضعف الإنساني اليوم حقيقة مقررة أو هو حقيقة محبوبة في بعض الأحيان، والتطلع إلى منزلة الكمال الذي لا تشوبه شائبة فكاهة يضحك منها الجاهل والعالم، وينكرها الأريب والغرير؛ لأنه ما من أحد إلا يرى بين عينيه مصارع العقول ومهاوي الشهوات ويسمع عيوب العظماء ورياء المتزمتين والزهاد، ويختبر صنوفا من الأنفس البشرية في حالتي العلو والإسفاف وخلتي الوقار والترسل، فلا فائدة من ادعاء الكمال؛ لأنه تصديقه اليوم أبعد المحال. ولا ضرر من كشف النفس عن خبيئة مضحكة أو نقيصة شائعة فهذا قضاء الضعف الإنساني الذي لا محيد عنه، وتلك سنة الحياة في هذه الدنيا الجديدة التي أبت أن تعرف القداسة في واقع أو في خيال.
Página desconocida