خلقت المرأة لتعطي، وخلق الرجل ليأخذ منها كل ما تعطيه، خلقت المرأة للطاعة وخلق الرجل للسيادة، خلقت المرأة للأمان، وخلق الرجل للجهاد، خلقت المرأة لتحب الرجل، وخلق الرجل ليحب نفسه في حبه إياها، هذه هي حقيقة الحقائق قد أسرف الشرق في الإيمان بها، وأسرف الغرب في إنكارها، وبين هذين النقيضين وسط هو خط السلامة وباب النجاة.
وقد تكابر المرأة نفسها، أو تكابر الرجل حبا للعنت الذي جبلت عليه، ولكنها إذا رجعت إلى طبعها شعرت بهذه الحقيقة راضية أو كارهة، وعز عليها إنكارها، أو كان لجاجها في الإنكار دليلا على شدة الشعور بها، وصعوبة الخلاص منها، ولذة العنت التي قلنا: إنها مجبولة عليها كما جبل عليها سائر الضعفاء، ويتساوى في هذا الشعور ذكيات النساء وغبياتهن، والعالمات منهن والجاهلات، والقديمات في عصور التاريخ والحديثات في هذا العصر الذي خيل إليه أنه يقلب الطبائع، وينقل الفطر عما أشرجت عليه.
وهذه ماري كورلي الكاتبة الإنجليزية المعروفة، إلى جانبي اعترافاتها التي دونت فيها قصة غرامها، وأوصت بنشرها بعد موتها تقول فيها وهي تزري بالطالبات الداعيات: «أية امرأة تذكر الحرية وعلى شفتيها قبلة حبيبها!» وإلى جانبي كذلك ترجمة راحيل فارنهاجن، والكاتبة السويدية الكبيرة «ألن كي»، وكلتاهما من أذكى النساء وأعلمهن وأعطفهن تقول الأولى عن حبيبها: «لقد كنت أراني كأنني حيوان مملوك لذلك الرجل، وكان في قدرته أن يلتهمني لو يشاء» وتقول الثانية: «إن المرأة لا مقام لها ولا سعادة إلا أن تحب، وأنها تحب الحب وتحب الرجل، وتحب حب الرجل، في حين أن الرجال لا يحبون إلا أنفسهم، وقليل منهم من يحب المرأة لشخصها، ثم هي تتمنى أن يحب الرجل المرأة، كما تحب المرأة المهذبة الرجل، أي أنها فيما تراه «ألن كي» تحب الرجل حبا يشمل شخصيته كلها، ويتناول فيها جانب الرجل وجانب الإنسان.»
غير أن المجاز في كلام ألن كي يغطي على بعض الحقيقة، ويند بها قليلا عن محجة الصدق والبيان الصريح، فإن الرجل ليحب «ذات» المرأة حين يحب نفسه، وليشعر بسروره الحق حين يشعر لتلك المرأة بشخصية حرة في الاختيار والاستسلام، وليس في جوهر هذا الشعور اختلاف بين الرجال والنساء، ولا الرجال بغافلين عن الفضائل الإنسانية التي يحسونها في المرأة مع الفضائل الأنثوية، ولكن الاختلاف يأتي حين تزن كل من الشخصيتين نفسها بجانب الشخصية الأخرى، فتعلم الضعيفة بغيتها عند القوية، وتعلم القوية حقها على الضعيفة، وتمتزج الاثنتان ذلك الامتزاج الذي تظفر منه إحداهما بسعادة الملك، والأخرى بسعادة التسليم، ولن تكون السعادتان أبدا من نوع واحد كما تريد «ألن كي»؛ لأن اللذين يحسانها لم يكونا من نوع واحد في مزايا الجنس، ولا في مزايا الإنسان.
وبعد، فأين «صوفية» تاجور وطبيعة الأنوثة في الحب؟! بعيد في ظاهر الأمر من بعيد، ولكنك إذا جاوزت عتبة النفس الإنسانية إلى داخلها فلا نهاية ثمة للالتقاء والافتراق بين هاتيك المنافذ والسراديب.
الآراء والمعتقدات لجوستاف لوبون1
للدكتور جوستاف لوبون توفيق في اللغة العربية لم ينله كاتب من كتاب الغرب الاجتماعيين في أيامنا، فقد ترجمت له كتب عدة، أذكر منها الآن روح الاجتماع، وسر تطور الأمم، وروح الاشتراكية، وروح الثورات، والآراء والمعتقدات، وهو الذي بين أيدينا الآن، ولا شك في أن هذه الكتب كلها لها قيمتها التي تستحق من أجلها النقل إلى لغتنا وإلى اللغات الأخرى، ولكننا لا نظن قيمتها هذه هي سر ذيوعها بيننا، وإقبال أدباء العربية على ترجمتها، فإن للكتب أسبابا تمهد لها الرواج والنجاح في كل موطن غير ما تحويه من الموضوعات وتحمله من الفوائد، وهذه ملاحظة لا يفوتنا أن ننبه إليها في صدد الكلام على هذا الكتاب؛ لأن مصنفات جوستاف لوبون مثل ظاهر للمصنفات القيمة في بابها التي استمدت معظم رواجها عندنا من أسباب أخرى طارئة غير أسبابها العالقة بها على اختلاف المواطن والبيئات.
ولعل أدعى هذه الأسباب إلى الرواج أن الكتاب الأول لجوستاف لوبون ظهر في اللغة العربية بقلم عالم قانوني له مكانة موقرة بين الفضلاء والأدباء ورجال الصحف والمجلات هو المرحوم «أحمد فتحي زغلول»، ثم نذكر من هذه الأسباب أن آراء المؤلف فاجأت الناس بخلاف ما اتفقوا عليه وأخذوه مأخذ الحقائق المقررة المفروغ من بحثها والإيمان بها، فلا هي تعرض بعد ذاك على النقد، ولا هي تقبل الجدال، فقد خلفت لنا الثورة الفرنسية مبادئ عن المساواة والحرية وعصمة الإجماع، وقداسة آراء الشعوب نجم أكثرها من وحي الخيال والعاطفة، وقبلها الناس قبول التسليم الأعمى؛ لأنهم حسبوا أن المبادئ التي قتل في سبيلها من قتل واشترتها الأمم بما اشترتها به من الشدائد والمحن والأهوال يستحيل أن يطرقها الزيف أو تعتريها عوارض الضعف كما تعتري المبادئ التي لم تسفك في سبيلها قطرة غير قطرات المداد، ولم يبذل الناس في شرائها أكثر من ورقة تكتب عليها وقلم يجري بتسطيرها، فلما فوجئ قراء العربية بآراء الدكتور الغريبة، وشهدوا أول مرة طريقة في التدليل تخالف طريقة الجمع والاستشهاد، والذهاب مع الظواهر السطحية وقواعد العرف المصطلح عليها فتنوا بهذا النمط الحديث، واشتاقوا إلى التوسع فيه، واتفق ذلك في أوائل العهد الذي كثر فيه تجاذب الكلام على الحرية والديمقراطية وحقوق الشعوب وما إلى ذلك، فكان هذا باعثا جديدا على الالتفات إلى كتب لوبون وآرائه والعناية بقراءتها ومناقشتها، والعجيب أن هذه الكتب لا تشجع الديمقراطية وهي مع هذا ظهرت في إبان حركتها عندنا فلم تثبطها، ولم يكن اعتلاج البحث في نظرياتها إلا كاعتلاج كل عاطفة جامحة يخالطها الرأي الزاجر من قبل العقل فيزيدها مضاء واحتداما، ويكون الزجر الذي يصدها عن طريقها كأنه حافز يقذف بها في ذلك الطريق ويعصف بالموانع والعراقيل، فهل يعد هذا مصداقا غير مقصود لتلك النظريات التي بشر بها لوبون ولا يزال يبشر بها في كل كتاب!
والواقع أن لوبون مبشر علمي ينحو في تقرير آرائه منحى الواعظ ورجال الدعايات، وأن كتبه هي نظريات وتطبيق لتلك النظريات في وقت واحد، فهي تقرر أن العقائد تثبت بالتوكيد والتكرير، وهي في الوقت نفسه تؤكد وتكرر فكرة واحدة لا يفتأ الرجل يدور عليها ويبديها ويعيدها؛ ليجعلها في حكم العقائد الثابتة والبدائه اليقينية، ولقد أفلح في شطر من دعايته ولكنه لم يفلح في الشطر الآخر. أفلح في تبيينه أن البرهان لا ينقض العقائد التي توارثتها الشعوب وأشربتها أرواح الجماعات، ولم يفلح في إنشاء عقيدة واحدة بذلك التوكيد الذي يتكلفه، وذلك التكرير الذي لا يمله. بيد أننا نظلمه إذا أخذناه بهذه الخيبة؛ لأنه يشترط للنجاح والتوكيد شروطا لم يحاول استيفاءها، ولا هو يستوفيها إذا أقدم على هذه المحاولة! •••
وكتاب الآراء والمعتقدات الذي ترجمه الأديب الفلسطيني محمد عادل زعيتر، وطبعته المطبعة العصرية بمصر هو تبشير جديد بدين الدكتور لوبون العقلي، ودعايته المنطقية، وهو توكيد جديد للأصول التي تقوم عليها عقائد الجماعات، وتبني عليها أطوارها وتقلباتها، وهو تفصيل بعضه مسبوق وبعضه غير مسبوق لآرائه التي أجملها في مصنفاته الأخرى، وتكملة يحتاج إليها كل من يحب استقصاء آراء الدكتور، والتزود من شروحه وبيناته.
Página desconocida