أنت سابق نفسك
البهلول
المحبة
الملك الناسك
بنت الأسد
القديس
الطمع
الذات العظمى
الحرب والأمم الصغيرة
الناقدون
Página desconocida
الشعراء
دوارة الريح
ملك أردوسة
طائر إيماني
الخلافات
المعرفة ونصف المعرفة
الصحيفة البيضاء
العالم والشاعر
الأثمان
البحار الأخرى
Página desconocida
التوبة
المحتضر والشوحة
وراء وحدتي
اليقظة الأخيرة
أنت سابق نفسك
البهلول
المحبة
الملك الناسك
بنت الأسد
القديس
Página desconocida
الطمع
الذات العظمى
الحرب والأمم الصغيرة
الناقدون
الشعراء
دوارة الريح
ملك أردوسة
طائر إيماني
الخلافات
المعرفة ونصف المعرفة
Página desconocida
الصحيفة البيضاء
العالم والشاعر
الأثمان
البحار الأخرى
التوبة
المحتضر والشوحة
وراء وحدتي
اليقظة الأخيرة
السابق
السابق
Página desconocida
تأليف
جبران خليل جبران
ترجمة
أنطونيوس بشير
أنت سابق نفسك
أنت سابق نفسك يا صاح، وما الأبراج التي أقمتها في حياتك سوى أساس لذاتك الجبارة، وهذه الذات في حينها ستكون أساسا لغيرها.
وأنا مثلك سابق نفسي؛ لأن الظل المنبسط أمامي عند شروق الشمس سيتقلص تحت قدمي عند الظهيرة، وسيعقب هذا الشروق شروق آخر؛ فيحدث ظلا ثانيا أمامي، ولكن هذا الظل عينه سيتقلص تحت قدمي أيضا في ظهيرة أخرى.
منذ البدء ونحن سابقو نفوسنا، وسنبقى سابقي نفوسنا إلى الأبد، وليس ما حشدنا ونحشد في حياتنا سوى بذور نعدها لحقول لم تفلح بعد. نحن الحقول ونحن الزارعون، نحن الأثمار ونحن المستثمرون.
عندما كنت يا صاح فكرة هائمة في الضباب كنت هنالك فكرة هائمة مثلك؛ فنشدتك ونشدتني؛ فكانت من تشوقاتنا الأحلام، والأحلام كانت زمانا بلا قيود، والأحلام كانت فضاء بلا حدود.
وعندما كنت كلمة صامتة بين شفتي الحياة المرتعشتين، كنت أنا مثلك هنالك كلمة صامتة، وما تلفظت الحياة بنا حتى برزنا إلى الوجود وقلبانا يخفقان بتذكارات الأمس والحنين إلى الغد. وما الأمس سوى الموت مطرودا ولا الغد سوى الميلاد مقصودا.
Página desconocida
وها نحن الآن في يدي الله، فأنت شمس منيرة في يمناه، وأنا أرض مستنيرة في يسراه، ولكن قوتك إلى الإنارة ليست بأفضل من قوتي على الاستنارة.
وما نحن - الشمس والأرض - إلا بداءة لشمس أعظم وأرض أعظم، وسنبقى بداءة إلى الأبد.
أنت سابق نفسك أيها الغريب العابر بباب حديقتي، وأنا مثلك سابق نفسي، ولو كنت أجلس في ظلال أشجاري وأبدو ساكنا هادئا.
البهلول
جاء في قديم الزمان رجل من البادية إلى مدينة الشريعة العظيمة، وكان بهلولا خياليا، ولم يكن له من متاع سوى ثوبه وعصاه.
فكان يطوف في شوارع المدينة ويتأمل هياكلها وأبراجها وقصورها بإعجاب وإجلال؛ لأن مدينة الشريعة كانت في غاية من الجمال. وكان بين الآونة والأخرى يخاطب العابرين به مستفهما عن مدينتهم وغرائبها، فلم يفهموا لغته كما أنه لم يفهم لغة أحد منهم.
وعند انتصاف النهار وقف أمام فندق فسيح الأرجاء، بديع الهندسة والإتقان، وكان الناس يدخلون إليه ويخرجون منه من غير اعتراض.
فقال البهلول في ذاته: «لا شك أن هذا مزار مقدس»، ودخل مع الداخلين.
وشد ما كانت حيرته عندما وجد نفسه في بهو عظيم، وكبراء القوم من رجال ونساء جالسون إلى كثير من الموائد الأنيقة، يأكلون ويشربون، والموسيقيون يشنفون آذانهم بأطرب العزف والغناء.
فقال البهلول إذ ذاك في ذاته: «قد ضللت، فما هذه بالعبادة التي توهمت، بل هذه مأدبة أعدها الأمير لشعبه تذكارا لحدث جلل.»
Página desconocida
وفي تلك الدقيقة دنا منه رجل، خيل إليه أنه عبد الأمير، وسأله أن يجلس مع الجالسين؛ فجلس؛ فقدمت إليه اللحوم والخمور والحلوى، أفخرها وأشهاها؛ فأكل هنيئا وشرب مريئا.
وعندما بلغ كفافه هم بالانصراف، ولكنه ما وصل إلى الباب حتى دنا منه رجل بادن متأنق اللباس فأوقفه.
فقال البهلول في نفسه: «لا شك أن هذا هو الأمير بعينه»؛ فانحنى أمامه وحياه باحترام، وشكره بلغة قبيلته.
أما الرجل البادن فخاطبه بلغة المدينة قائلا له: «يا سيدي، إنك لم تدفع بعد ثمن غدائك.»
فلم يفهم البهلول شيئا، ولكنه شكره ثانية من صميم قلبه؛ فتأمله الرجل البادن جيدا. وبعد أن أنعم النظر في وجهه مليا أدرك أنه غريب عن المدينة، وعرف من ثيابه الرثة أنه فقير الحال وليس له ما يدفعه ثمن غدائه؛ فصفق مناديا؛ فجاء على الفور أربعة من حراس المدينة ومثلوا بين يديه؛ فقص عليهم قصة البهلول؛ فألقوا القبض عليه في الحال، ومشوا به اثنين اثنين إلى جانبيه. أما البهلول فكان يتأمل ملابسهم المزركشة وهو يكاد يطير فرحا قائلا في سره: «لا شك في أن هؤلاء من أشراف المدينة.»
فسار الحراس به إلى أن بلغوا دار القضاء، فدخلوا إلى قاعة المحاكمة؛ فرأى البهلول أمامه في صدر تلك القاعة رجلا جليلا جالسا على منصة عالية، تجلله المهابة، وتزيده لحيته البيضاء المسترسلة على صدره هيبة ووقارا، فخيل إليه أنه الملك بعينه، وطارت نفسه فرحا لمثوله أمامه.
ثم بسط الحراس دعواهم إلى القاضي؛ فعين القاضي محاميين، واحدا ليدعي على البهلول، وآخر ليتولى الدفاع عنه؛ فنهض المحاميان، الواحد تلو الآخر، وأدلى كل بحججه.
أما البهلول فظن أنهما يرحبان به باسم الملك؛ فامتلأ قلبه بعواطف المنة ومعرفة الجميل للملك وللأمير على كل ما جرى له.
وعند انتهاء المحاكمة حكم القاضي بما يأتي على البهلول: «يجب أن تكتب جريمته على لوحة، وتعلق على صدره، ثم يركب حصانا عاريا، ويطاف به في المدينة، ويسير المزمرون والمطبلون أمامه.»
فنفذ الحكم في الحال، وأركب البهلول حصانا عاريا، وطيف به في شوارع المدينة، وسار المزمرون والمطبلون أمامه. وكان سكان المدينة يتراكضون على سماع الأصوات؛ فينظرون إليه وهو على تلك الحالة، ويغربون في الضحك أفرادا وجماعات. وكان الأولاد يركضون وراءه من شارع إلى شارع زرافات زرافات.
Página desconocida
أما البهلول فكان ينظر إليهم بعينين مشرقتين فرحا، والدهش آخذ منه مأخذه؛ لأنه كان يعتقد أن اللوحة المعلقة على صدره إنما هي وسام قدمه له الملك عربون بركته ورضاه عن زيارته، وإن ذلك الموكب ما سار إلا احتفاء بحضرته.
وحدث أنه فيما هو راكب والجمع يحشده رأى بينهم بدويا من قبيلته؛ فاختلج قلبه طربا، وهتف به بأعلى صوته قائلا: «بربك يا صاح! أين نحن الآن؟ أليست هذه المدينة التي يسميها شيوخنا مدينة رغائب القلب، وشعبها الأريحيون الفياضون، الذين يحتفون بعابر السبيل في قصورهم، ويرافقه أمراؤهم، ويشرف ملكهم صدره بالنياشين، فاتحا له أبواب مدينته الهابطة من السماء؟»
فلم يقل البدوي الثاني كلمة قط، ولكنه تبسم وهز رأسه .
أما الموكب فاستمر في سيره، وكان وجه البهلول مرتفعا أبدا، والنور يفيض من عينيه.
المحبة
يقولون إن ابن آوى يشرب من الجدول الواحد الذي يشرب منه الأسد، ويقولون إن النسر والشوحة ينقدان الجيفة الواحدة وهما متفقان متسالمان. فيا أيتها المحبة العادلة، ويا من كبحت جماح رغائبي بيدك الفقيرة، وحولت مجاعتي وعطشي إلى إباء وشمم، لا تأذني للقوي العزوم في أن يأكل الخبز، أو يشرب الخمر، اللذين يستهويان ذاتي الضعيفة.
ذريني بالأحرى فأقضي جوعا بل دعي قلبي يتلهب عطشا.
واتركيني أموت وأفنى، قبل أن أمد يدي لقدح لم تملئيه أو كأس لم تباركيها.
الملك الناسك
خبرت أن فتى يعيش في غابة بين الجبال، وأنه كان فيما مضى ملكا على بلاد واسعة الأرجاء في عبر النهرين، وقيل لي أيضا إن هذا الفتى قد تخلى بملء اختياره عن عرشه وعن أرض أمجاده؛ وجاء ليستوطن القفار. فقلت في نفسي: لأسعين إلى ذلك الرجل سعيا، وأقف على ما في قلبه من أسرار؛ لأنه من يتنزل عن الملك فهو بلا شك أعظم من الملك!
Página desconocida
فذهبت على الفور إلى الغابة حيثما كان قاطنا؛ فوجدته جالسا في ظلال سروة بيضاء، وبيده قصبة كان ممسكا بها كأنما هي صولجانه؛ فحييته تحية الملوك، وبعد أن رد التحية التفت إلي وقال بلطف: «ما عساك تبتغي في هذا الغاب الأعزل يا صاحبي؟ أجئت تنشد ذاتا ضائعة في الظلال الخضراء، أم هي عودة إلى مسقط رأسك عند انقضاء شغل النهار؟»
فأجبته قائلا: «إنني ما نشدت إلاك، ولا شاقني إلا الوقوف على ما حدا بك إلى استبدال مملكتك الكبيرة بهذه الغابة الحقيرة!»
فقال: «وجيزة هي قصتي؛ فقد انطفأت فقاقيع غروري فجأة، وإليك حكايتي: بينما كنت جالسا إلى نافذة في قصري، كان وزيري يتمشى مع سفير أجنبي في حديقتي، وعندما صارا على مقربة من نافذتي سمعت الوزير يتكلم عن نفسه قائلا: «أنا مثل الملك أتعطش للخمرة المعتقة، وأعشق جميع ضروب المقامرة، ويثور بي ثائر الغضب كسيدي الملك.» ثم توارى الوزير والسفير بين الأشجار، ولكنهما ما لبثا أن عادا بعد برهة، وإذا بالوزير يتكلم عني في هذه المرة قائلا: «إن سيدي الملك مثلي يحسن الرماية، ويتعشق الألحان، وهو مثلي يستحم ثلاثا في النهار.»
وسكت لحظة ثم زاد قائلا: «في عشية ذلك اليوم تركت بلاطي، ولا شيء معي سوى عباءتي؛ لأني لم أشأ بعد ذلك أن أكون ملكا على قوم يدعون نقائصي لأنفسهم ويعزون فضائلهم إلي.»
فقلت: «ما أغرب قصتك، وما أعجب أمرك!»
فأجابني قائلا: «ليس هنالك من غرابة يا صاحبي؛ فقد قرعت أبواب سكينتي طامعا منها بالكثير، فلم يكن لك منها سوى اليسير. بربك قل لي، من لا يستبدل مملكة بغابة تترنم فيها الفصول، وترقص طروبا أبدا؟ كثيرون هم الذين تركوا ممالكهم ليستبدلوا بها أدنى مراتب الوحدة والتمتع بحياة العزلة السعيدة، وكم هنالك من نسور هبطت من جوها الأعلى لتعيش مع المناجذ في أنفاقها الصامتة؛ فتتفهم أسرار الغبراء! بل ما أكثر الذين يعتزلون مملكة الأحلام لئلا يظهروا للناس أنهم بعيدون عمن لا أحلام في نفوسهم، والذين يعتزلون مملكة العري، ساترين عري نفوسهم، حتى لا يستحي الأحرار من النظر إلى الحق عاريا والتأمل بالجمال سافرا. وأعظم من هؤلاء جميعهم ذاك الذي يعتزل مملكة الحزن، لكي لا يظهر للناس معجبا مفاخرا بكآبته.»
ثم نهض متوكئا على قصبته وقال: «ارجع الآن إلى المدينة العظمى، وقف بأبوابها مراقبا جميع الداخلين والخارجين منها. واعن بأن تجد الرجل الذي على رغم أنه ولد ملكا فهو بدون مملكة، والرجل الذي على رغم أنه مسود بجسده فهو سائد بروحه، ولكنه لا يدري بذلك ولا رعاياه يدرون بسيادته، والرجل الذي يبدو للعيان حاكما ولكنه في الحقيقة عبد لعبيد عبيده.»
وبعد أن فرغ من كلامه نظر إلي، فلاحت لي منه ابتسامة خلتها ألف فجر وفجر.
ثم تحول عني متغلغلا في قلب الغابة.
أما أنا فرجعت إلى المدينة، ووقفت بأبوابها أراقب العابرين بي، على نحو ما قالي لي. وما أكثر الملوك الذين مرت ظلالهم فوقي، منذ ذلك اليوم حتى الساعة، وأقل الرعايا الذين مر فوقهم ظلي!
Página desconocida
بنت الأسد
وقف أربعة عبيد يروحون بمراوحهم لملكة حيزبون كانت نائمة على عرشها تغط غطيطا غليظا، وكان في حضن الملكة هرة متكئة تموء وهي تنظر إلى العبيد نظرة كره واشمئزاز.
فقال العبد الأول لرفقائه: «ما أبشع هذه الحيزبون النائمة! انظروا كيف تراخت شفتاها، وهي تصعد أنفاسها كأنما الشيطان آخذ بخناقها.»
فماءت الهرة قائلة: «إن بشاعتها في رقدتها ليست جزءا من بشاعتكم في عبوديتكم وأنتم مستيقظون.»
ثم قال العبد الثاني: «ومن الغريب أن النوم لم يلطف ملامح وجهها، بل زادها تجعدا، فهي ولا شك حالمة حلما شريرا راعبا.»
فماءت الهرة قائلة لهم: «حبذا لو تنامون أنتم وتحلمون بحريتكم!»
فقال العبد الثالث لرفقائه أيضا: «يلوح لي أنها ترى في منامها موكب جميع ضحاياها الذين قتلتهم ظلما وعدوانا.»
فماءت الهرة قائلة: «نعم، فهي ترى مواكب أجدادكم وحفدتكم.»
ثم قال العبد الرابع: «ما أغباكم! تتحدثون عن هذه الملكة وهي نائمة، وماذا يجديكم الحديث نفعا أو يجديني؟ ألعله يخفف عني نصيبي في وقوفي وعنائي في ترويحي لها؟»
فقالت الهرة وهي تموء: «أجل، إنكم ستروحون إلى دهر الداهرين؛ لأنه كما على الأرض كذلك في السماء.»
Página desconocida
وفي تلك اللحظة تحركت الملكة في نومها فسقط تاجها على الأرض؛ فقال واحد من العبيد: «إن في ذلك لشؤما!»
فماءت الهرة وقالت: «مصائب قوم عند قوم فوائد.»
فقال العبد الثاني: «ماذا يحل بنا إذا أفاقت الآن من نومها ورأت تاجها ساقطا على الأرض؟ والله إنها تذبحنا جميعا!»
فماءت الهرة قائلة: «قد كانت تذبحكم منذ ميلادكم أيها الأغبياء وأنتم لا تعلمون.»
وقال العبد الثالث: «إنها ولا شك تذبحنا، وتعتبر أنها بعملها هذا إنما تقرب عبادة لآلهتها.»
فماءت الهرة قائلة: «لا يضحي للآلهة إلا الضعفاء.»
أما العبد الرابع فأسكت رفقاءه عن الكلام، والتقط التاج بتأن ووضعه على رأس الملكة من غير أن يوقظها.
فماءت الهرة وقالت بصوت عال: «الحق أقول لكم، إنه لا يلتقط التيجان المتدحرجة سوى العبيد.» وبعد هنيهة استيقظت الملكة، وتلفتت حواليها متثائبة ثم قالت لعبيدها: «يخيل إلي أني حلمت بأني رأيت أربع حشرات يطاردها عقرب حول جذع سنديانة جبارة. قبحه الله من حلم مزعج!»
وأطبقت عينيها؛ فنامت ثانية بعد أن ملأت القاعة بغطيطها؛ فطفق العبيد الأربعة يروحون لها على جاري عادتهم.
أما الهرة فماءت قائلة: «روحوا، روحوا أيها العميان والأغبياء؛ فأنتم لا تروحون إلا نارا تلتهم وجودكم!»
Página desconocida
القديس
زرت في حداثتي قديسا في صومعته الهادئة، القائمة بين التلال، وفيما كنا نبحث ماهية الفضيلة أطل عليها لص وهو يتعرج على الجانبين فوق الروابي، والتعب قد أعياه. وعندما وصل إلى الصومعة جثا على ركبتيه أمام القديس، وقال له: «أيها القديس الشفيق، قد جئتك طالبا تعزية؛ فإن آثامي قد تعالت فوق رأسي.»
فأجابه القديس قائلا: «يا بني، إن آثامي أنا أيضا قد تعالت فوق رأسي.»
فقال له اللص: «عفوك يا سيدي! فأنا سارق، وقاطع طريق، ويستحيل أن تكون مثلي.»
فأجابه القديس: «إنك واهم يا بني؛ فإنني بالحقيقة مثلك سارق وقاطع طريق.»
فقال له اللص: «ماذا تقول يا سيدي؟ فأنا قاتل، ودماء الكثيرين من الناس تصرخ في أذني.»
فأجابه القديس: «وأنا أيضا قاتل يا ابني، وفي أذني تصرخ دماء الكثيرين.»
فقال له اللص: «يا سيدي، أنا قد ارتكبت شرورا لا تحصى، وجرائم لا عداد لها، فكيف تساوي نفسك بي وأنت رجل الله البار؟»
فأجابه القديس وقال: «لو أنك عرفت كثرة شروري لما ذكرت شرورك.»
فانتصب اللص إذ ذاك وحدق إلى القديس طويلا، وملء عينيه دهشة وغرابة، ومضى من غير أن ينبس ببنت شفة.
Página desconocida
أما أنا فكنت صامتا إلى تلك الدقيقة؛ فالتفت آنئذ إلى القديس وسألته قائلا: «ما دعاك إلى أن تنسب لنفسك شرورا لم ترتكبها قط يا سيدي؟ ألا ترى أن هذا الرجل قد مضى ولم يعد من المصدقين بدعوتك، والمؤمنين ببشارتك؟»
فأجاب القديس وقال: «أجل يا بني، فإنك بالصواب حكمت، بأنه لم يعد من المصدقين بدعوتي، ولكن الحق أقول لك إنه قد انصرف والعزاء يملأ فؤاده.»
وفي تلك اللحظة سمعنا اللص يغني من بعيد، وكانت الأودية تردد صدى صوته الممتلئ بالمسرة والتعزية.
الطمع
رأيت في جولاني في الأرض وحشا على جزيرة جرداء له رأس بشري وحوافر من حديد.
وكان يأكل من الأرض ويشرب من البحر بلا انقطاع، فوقفت أراقبه ردحا، ثم دنوت منه وسألته قائلا: «ألم تبلغ كفافك بعد؟ أليس لجوعك من شبع أو لظمأك من ارتواء؟»
فأجابني وقال: «نعم، نعم، قد بلغت كفافي، بل قد مللت الأكل والشرب، ولكنني أخاف ألا تبقى إلى غد أرض لآكل منها وبحر لأرتوي من مائه.»
الذات العظمى
حدث بعد تتويج نفسيبعل، ملك جبيل، أنه انصرف إلى مقصورته، وهي الغرفة التي بناها له عرافو الجبل النساك؛ فنزع تاجه، وخلع «برفيره» ووقف في وسط المقصورة، مفكرا في عظمته المتناهية، كملك جبيل الواسع السلطان في ذلك الزمان.
وكان في صدر تلك المقصورة مرآة مفضضة الإطار، أهدتها إليه أمه؛ فالتفت إليها بغتة، وإذا برجل عار قد خرج منها وتقدم إليه.
Página desconocida
فأخذ الرعب بمجامع قلبه، وصرخ بالرجل قائلا: «ماذا تريد أيها الرجل؟»
فأجابه الرجل وقال: «أود شيئا واحدا أيها الملك، وهو أن تخبرني لماذا توجوك ملكا على هذه البلاد؟»
فقال له الملك: «قد توجوني مليكا عليهم لأنني أنبل رجل بينهم.»
فقال له الرجل: «والله لو كنت أنبل مما أنت لما قبلت الملك.»
فأجابه الملك: «بل إنما توجوني لأنني أشدهم بأسا وقدرة.»
فقال له الرجل: «لو كنت بالحقيقة أشدهم بأسا لما قبلت أن تكون مليكا عليهم.»
فقال له الملك: «ألا إنما توجني شعبي لأنني أوفرهم حكمة.»
فأجابه الرجل قائلا: «والله لو كنت أوفر حكمة مما أنت الآن لما اخترت أن تكون ملكا.»
فسقط الملك حينئذ على الأرض وبكى بكاء مرا، أما الرجل العاري فكان ينظر إليه بشفقة وحنان آسفا على جهله وغروره. ثم تناول تاج الملك المتدحرج على الأرض ووضعه بلطف على رأسه المنحني، وعاد فدخل في المرآة كما خرج وهو ينظر إلى الملك برقة وحسرة.
أما الملك فنهض بغتة إلى المرآة، وتأملها جيدا فلم ير هنالك أحدا إلاه وتاجه على رأسه.
Página desconocida
الحرب والأمم الصغيرة
كان في أحد المروج نعجة وحمل يرعيان، وكان فوقهما في الجو نسر يحوم ناظرا إلى الحمل بعين جائعة يبغي افتراسه. وبينما هو يهم بالهبوط لاقتناص فريسته، جاء نسر آخر وبدأ يرفرف فوق النعجة وصغيرها وفي أعماقه جشع زميله.
فتلاقيا وتقاتلا حتى ملأ صراخهما الوحشي أطراف الفضاء؛ فرفعت النعجة نظرها إليهما منذهلة، والتفتت إلى حملها وقالت: «تأمل يا ولدي، ما أغرب قتال هذين الطائرين الكريمين! أوليس من العار عليهما أن يتقاتلا، وهذا الجو الواسع كاف لكليهما أن يعيشا متسالمين؟ ولكن صل يا صغيري، صل في قلبك إلى الله؛ لكي يرسل سلاما إلى أخويك المجنحين!»
فصلى الحمل من أعماق قلبه!
الناقدون
في عشية أحد الأيام كان المسافر راكبا حصانه وسائرا إلى الساحل؛ فوصل في طريقه إلى فندق؛ فترجل وربط حصانه إلى شجرة أمام الباب؛ لأنه كان واثقا بالليل وبالناس، شأن أقرانه المسافرين إلى السواحل، ثم دخل إلى الفندق مع الداخلين.
وعند انتصاف الليل كان جميع من في الفندق نياما؛ فجاء لص وسرق حصان المسافر فلم يدر به أحد.
وفي الصباح نهض المسافر من نومه، وجاء على الفور إلى حيث ربط حصانه فلم يجده. وبعد أن فتش عنه جيدا عرف أن لصا سرقه في تلك الليلة؛ فتأثر كثيرا على فقد حصانه، ولكنه حزن بالأكثر على أن بين الناس من يغريه الشر فيعمد إلى السرقة.
وعندما عرف رفقاؤه المسافرون بما جرى له تجمعوا حواليه، وبدءوا ينحون عليه باللائمة معنفين إياه.
فقال الأول: «ما أحمقك أيها الرجل! لماذا ربطت حصانك خارج الإصطبل؟»
Página desconocida
ثم قال له الثاني: «إنني أستغرب كيف أنك لم تحجل (تقيد) الحصان عندما ربطته، فما أوفر جهلك؟»
فقال الثالث لرفيقيه: «إن السفر إلى البحر على ظهور الخيول غباوة من أساسه.»
فقال الرابع: «أما أنا فأعتقد أنه لا يقتني الخيول إلا كل بليد بطيء الخطى.»
فدهش المسافر لبلاغتهم وفصاحتهم في الوعظ والإرشاد بعد فوات الأوان، ثم قال لهم وهو يتميز غيظا: «أيها الأصحاب، عندما سرق حصاني جاءتكم الفصاحة عفوا؛ فأسرعتم الواحد تلو الآخر تعددون هفواتي وزلاتي، ولكن يدهشني كيف أنكم مع ما أوتيتم من قوة البيان، لم يقل أحد منكم كلمة عمن سرق الحصان!»
الشعراء
كان أربعة من الشعراء جالسين إلى خوان، وكان على الخوان إناء من الخمر.
فقال الشاعر الأول: «يخيل إلي أني أرى عبير هذا الخمر مرفرفا في الفضاء، كسحابة من الطيور في غاب مسحور.»
فرفع الشاعر الثاني رأسه وقال: «أما أنا فإني أسمع بأذني الباطنة هذه الطيور تغرد؛ فتأخذ ألحانها بمجامع قلبي؛ فتأسره كما تأسر الزنبقة النحلة بين وريقاتها.»
فأغمض الشاعر الثالث عينيه ورفع ذراعه وقال: «أما أنا فإني أكاد ألامسها بيدي، أشعر بحفيف أجنحتها يهب في وجهي كأنه لهاث جنية نائمة.»
فنهض الشاعر الرابع إذ ذاك، ورفع الإناء بيديه وقال: «عفوكم أيها الإخوان! فإني ضعيف البصر، ثقيل السمع، كليل اللمس، فليس في طاقتي أن أرى عبير هذه الخمرة، ولا أن أسمع غناءها، ولا أن أشعر برفرفة أجنحتها. أواه! إنني لا أشعر بغير الخمرة ذاتها؛ ولذلك يجب أن أشربها لتوقظ حواسي الخاملة، وتشعل روحي بنار بركتكم العلوية ووحيكم الطهور.»
Página desconocida
ثم وضع إناء الخمر على شفتيه وأتى على آخر نقطة فيه.
أما الشعراء الثلاثة رفقاؤه، فكانوا ينظرون إليه بدهشة، فاتحين أشداقهم، وفي عيونهم غلة لا تروى لهبتها وبغضة لا تخمد حدتها.
دوارة الريح
قالت دوارة الريح للريح: «قبحك الله، ما أثقلك وما أملك! أليس في وسعك أن تهبي في وجه غير وجهي؟ ألا تعلمين أنك بعملك هذا إنما تعكرين صفو ثباتي الذي أعطانيه الله؟»
فلم تجب الريح بكلمة قط، ولكنها ضحكت في الفضاء.
ملك أردوسة
مثل شيوخ مدينة «أردوسة» مرة في حضرة الملك، والتمسوا منه أمرا يقضي بمنع المسكرات في مدينتهم.
فلم يجب الملك سؤلهم، بل ولاهم ظهره وتركهم ومضى، ضاحكا منهم في سره.
فانصرف الشيوخ من حضرته قانطين.
ولما بلغوا باب القصر رأوا وزير الملك، وكان هذا الوزير داهية؛ فلحظ اضطرابهم وعرف قصتهم.
Página desconocida
فقال لهم: «أواه أيها الأصحاب! فإن الحظ لم يسعدكم لأنكم لو أتيتم إلينا عندما يكون ملكنا سكران لكنتم حصلتم في الحال على ما طلبتم!»
طائر إيماني
من أعماق قلبي هب طائر وصعد محلقا في الفضاء، وكان كلما حلق في الجو أكثر فأكثر يزداد كبرا فكبرا، فبدا أولا كالخطاف، ثم صار كالقبرة، فكالنسر، إلى أن أصبح كسحابة الربيع اتساعا؛ فملأ السماوات المرصعة بالنجوم.
من أعماق قلبي هب، وحلق في الفضاء، وكان يزداد حجمه كلما طار.
ومع ذلك فإنه ظل ساكنا في أعماق قلبي.
فيا إيماني، يا معرفتي الجامحة القديرة.
كيف أبلغ سموك، فأرى وإياك ذات الإنسان الفضلى المرسومة على أديم السماء؟
كيف أحول هذا البحر الذي في أعماق نفسي إلى ضباب كثيف، وأهيم وإياك في فضاء اللانهاية؟
أوهل يستطيع السجين في ظلمات الهيكل أن يرى قباب الهيكل المذهبة؟
أم هل للنواة أن تتمدد فتغلف الثمر كما كان يغلفها من ذي قبل؟
Página desconocida
أجل يا إيماني الحليم! أجل، فإني مقيد بالسلاسل الحديدية في غيابات هذا السجن المحدود، تفصلني عنك هذه الحواجز المصنوعة من اللحم والعظم، وليس لي أن أطير معك الآن إلى عالم اللاحدود.
بيد أنك من قلبي تنبثق محلقا في الفضاء الواسع، وأنت لا تزال قاطنا في أعماق قلبي الوجيع، وإني بذلك لراض مستسلم قنوع.
الخلافات
حدث عندما كانت ملكة «عيشانا» في فراش مخاضها، والملك وعيون بلاطه يترقبون نجاتها من آلامها الشديدة، وهم جالسون على أحر من الجمر في قاعة الثيران المجنحة
1
أن دخل عليهم فجأة رسول مستعجل، وركع عند قدمي الملك وقال: «أيها الملك المعظم، إنني أحمل لكم بشائر الفرح، وللملكة، ولعبيد الملك أجمعين، وذلك أن محراب «الجائر» عدوك اللدود، ملك «البترون» قد قضى نحبه.»
فلما سمع الملك وكبار رجال دولته هذه البشرى نهضوا منتصبين على أقدامهم، وهللوا فرحين؛ لأنه لو طال أجل محراب الجبار سنة واحدة، لغزا أرض «عيشانا» وقاد سكانها عبيدا إلى بلاده.
وفي تلك اللحظة دخل طبيب البلاد إلى قاعة الثيران المجنحة، ودخلت وراءه قابلة الملكة؛ فانحنى الطبيب احتراما للملك وقال له: «ليعش سيدي الملك إلى الأبد، فها قد رزقك الله طفلا ذكرا، سيخلفك على العرش، ويخلد حكمك على شعوب «عيشانا» عديد السنين!»
فتهلل الملك، وطارت روحه فرحا؛ لأنه في اللحظة الواحدة هلك عدوه وتأصلت الخلافة في نسله.
وكان في مدينة «عيشانا» في ذلك العهد نبي حق، ولكنه كان فتى جريئا باسل الروح، فأمر الملك أن يحضر النبي بين يديه في تلك الليلة، فأحضر في الحال.
Página desconocida