Senda de la vida
سبيل الحياة
Géneros
ولما نجحت في امتحان الشهادة الابتدائية جاء أخي وابن عمتي مهنئين، وأشارا عليها بأن تكتفي من تعليمي بهذا القدر، لما كنا فيه من العسر، فأبت، فألحا فأنكرت ذلك منهما وزجرتهما عن اللجاجة فيه، فلم ينهزما. وأنذرها أخي - وكان غير شقيق - أنه قابض يده عن كل معونة. وكانت معونته متقطعة لا خير فيها ولا اعتماد عليها لضآلتها وقلة الانتظام فيها، فلم تعبأ بذلك وأصرت على المضي في تعليمي إلى نهايته المقدروة.
وكانت أمي - على صغر سنها - زعيمة الأسرة. وكان أهلي جميعا يلجأون إليها يطلبون رأيها فيما يعرض لهم، وفصلها فيما يقع بينهم من المشاكل. وقد كان موت أبي؛ وأنا في التاسعة من عمري. وكنت - ومازلت مع الأسف - أكبر ابنيها، فصارت تعاملني على أني رب الأسرة وسيد البيت وتعودني احترام النفس والتزام ما يقتضيه مقامي في البيت وتستجوبه زعامتي للأسرة. وتنتهي إلى «مسئولياتي» وإلى التبعات التي يحملها «رجل» مثلي. وكانت حاذقة كيسة في سلوكها فلا نهر ولا زجر، ولا أوامر ثقيلة ولا نواهي بغيضة. ولا شطط أو إسراف، ولا تقصير أو تفريط، ولا إشعار بأن لحريتي حدودا ضيقة غير معقولة أو محتملة وإن كانت الرقابة على هذا دقيقة وافية، أذكر وأنا في المدرسة الثانوية أني عوقبت مرة بالحضور إلى المدرسة في منتصف الساعة السابعة صباحا (السادسة والنصف) وكان هذا عقابا جائزا في ذلك الوقت وكان البيت في حي السيدة زينب والمدرسة في شبرا، وبينهما «أبعد مما بين بصرى والحرم» فأخبرتها وخرجت من البيت قبيل الفجر وأنا أخشى أن أكون قد تأخرت، فقلقت وذهبت بها الظنون كل مذهب، ولكنها لم تقل شيئا. فلما كان الضحى ركبت إلى المدرسة وسألت البواب فأخبرها أن تلميذا جاء في الفجر وأيقظه ليدخل فرده فظل يتمشى حتى طلع النهار، فعادت مطمئنة ولم تخبرني بما فعلت إلا بعد عدة أعوام لمناسبة عرضت.
وكنت وأنا صغير أدخن. خفية، وكانت على غير علم مني تراقبني. فإذا نمت تأخذ ما يكون معي من السجاير، فإذا أقبل الصباح لم أجد شيئا وظللنا على هذا المنوال أياما - أشتري السجاير كلما ساعفتني الموارد، وهي محدودة جدا وهي تسرقها بالليل ولو أخفيتها في بئر، ثم خفت أن تسألني فلا أستطيع أن أكذب وخجلت أن أعترف بهذه الحماقة الصبيانية وحالت رقة الحالة دون الاحتمال، فأقلعت. حتى كبرت .
ومن حنانها العجيب أنها كانت إذا مرضت ووصف لي الطبيب دواء لا تدعني أجرع منه إلا بعد أن تجرع هي منه. وكثيرا ما كنت أقول لها: «يا أمي كفي عن هذا!»، فتقول: «يا بني إنه قلب الأم» فأقول: «ولكنه عمل لا نفع منه» فتقول: «نعم، ولكن ليطمئن قلبي».
ولما أتممت التعليم الثانوي، حرت إلى أي مدرسة عالية أذهب. فسألتني أيها أوثر، فقلت: الطب، قالت: «فاذهب إلى مدرسته وقدم أوراقك» ففعلت ولكن ناظرها المستر كيتنج رمى بأوراقي إلى الشارع لأني يوم الكشف الطبي دخلت قاعة التشريح فرأيت جثة منتفخة تفوح منها رائحة نتن خبيث، فدار رأسي وأغمي علي، وكان الناظر مقبلا فرآني فقال هذا لا يصلح. فاطردوه.
وعدت إليها فأخبرتها الخبر. فلم تجزع كجزعي وهونت علي الأمر وقالت: «لم يبق إلا «الحقوق» فاذهب بأوراقك إليها» ففعلت وضمنت القبول ولكن الوزارة زادت «المصروفات المدرسية» من خمسة عشر جنيها إلى ثلاثين. فاسترجعت أوراقي فما كان لي قبل بهذه الثلاثين كل عام. وشاء الله أن تفتح مدرسة المعلمين العليا فدخلتها.
واستقلت من وزارة المعارف بعد أن اشتغلت بالتدريس فيها خمسة أعوام، وكانت الحرب الكبرى قد استعرت. فجئتها يوما بقراطيس فيما مرتبي نقودا فضية فألقيتها في حجرها وقلت: «هذا آخر ما أقبض من مال الحكومة».
قالت: «يعني؟» قلت: «إني استقلت» قالت: «على بركة الله».
ولكني أرقت ليلتي. فقد كانت الدنيا قائمة قاعدة. والأحوال مضطربة. وكانت الحكومة قد أعلنت «الموراتوريام» - أي تأجيل الدفع الجبري - فجاءت تسألني عن سر هذا الأرق فأفضيت إليها بما يساروني من المخاوف وندمي على الاستقالة وجزعي من هذا الغمار الجديد الذي أقدمت على خوضه فقالت: «لا تقدر البلاء قبل نزوله. قم فنم وتوكل على الله لقد كنت أنا مستعدة أن أعمل بيدي في سبيل تربيتك، فكن أنت مستعدا أن تعمل حتى بيديك إذا احتاج الأمر، وثق أنك لن تخيب، فإني داعية لك راضية عنك». فوالله لقد صرت بعدها إنسانا ثانيا.
وكانت - عليها رحمة الله - تتوخى أن تعفيني من المنغصات وتتجنب أن تحملني الهموم فتستقل بها دوني وتتحرى ما يدخل على نفسي السرور ويشيع فيها الغبطة والرضى، ويفيض على البيت الايناس والبهجة. وكانت ذاكرتها قوية، فكانت إذا جلست للسمر تتدفق بأحاديث الأيام السوالف وكأنها تحياها من جديد، فلا يغيب عنها حرف ولا يفوتها لون. وكانت لقوة ذاكرتها سجلا عاما للأهل والصواحب، فمن نسي شيئا فما عليه إلا أن يلجأ إليها. وكانت صديقاتها يستودعنها حسابهن، وكثيرا ما كان يحدث أن تجئ الواحدة منهن فتقول لها: «إن فلانة الدلالة تزعم أن علي لها مبلغ كذا، فما هي الحقيقة؟» فتخبرها الحقيقة فتقوم عنها ويكون هذا هو القول الفصل.
Página desconocida