Senda de la vida
سبيل الحياة
Géneros
قالت: «الجو في هذه الأيام بديع.. تهيئ لنا زورقا حسنا نظيفا مريحيا، نركبه في النيل ونقضي يومنا كله على متن الماء، ونتغدى فيه أو في إحدى «المقاتات» التي نمر بها في طريقنا».
قلت: «اقتراح جميل، ولكن.. أنا وحدي أكون معكن؟ وفي خدمتكن؟ ارحمن يتمي يا فتيات!»
فقالت: «تستطيع أن تدعو فلانا وفلانا».
فدعوتهما وأعددنا الطعام ومررنا بهن فحملناهن إلى قصر النيل حيث كان الزورق ينتظر، ولم ألق إليهن نظرة حتى نزلن من السيارة وشرعن ينحدرن إلى مكان الزورق، فدهشت، فقد كانت ثيابهن زاهية نظيفة مكوية، بل كانت أفخر وأبرع ما رأيتهن فيه، فتناولت ذقني بيدي وقلت: «هيه.. نهارك أسود يا أبا خليل» ولم أكد أهز رأسي هزتين حتى نادتني إحداهن فنظرت إليها مستفسرا فقالت: «خذ بيدي فإني أخشى أن أزل وأقع على التراب أو تغوص قدمي فيه» فسألتها وأنا أتناول يدها: «أين تحسبين نفسك؟ في سباق الخيل؟ ما هذه الثياب التي لبستها؟»
قالت وهي تحني رأسها لتنظر إلى قدميها: «ما لها؟ ألا تعجبك؟»
قلت: «تعجبني تعجبني. ولكنها لن تعجبك بعد نصف ساعة في الزورق».
ولا أطيل. ركبن، ووثبنا نحن وراءهن فأشرنا إليهن أن يجلسن فنظرن إلى المقاعد - ولم يكن بها سوء والله - متأففات مترددات فنفضنا لهن التراب الموهوم عن الحشايا المطروحة على المقاعد. وصحيح أنها ليست وثيرة جدا، ولا جميلة المنظر، ولكنها نظيفة. غير أن فتياتنا تبادلن نظرات تنبئ بالامتعاض ولا تنبئ بالرضى، ثم انتهين بأن جلسن متلاصقات جدا محاذرات أشد الحذر؛ وكان لابد أن أغضي عن ذلك فليس ذنبي أنهن جئن في ثياب لا تصلح إلا على الأرض اليابسة. وناولت أحد إخواني مجدافا وأخذت أنا الآخر، وتركنا الدفة لثالثنا. وقام الملاح فدفع الزورق عن الشاطئ بالمردى، ثم بدأنا نجدف وكنت أضرب الماء برفق شديد حتى لا يطير منه شيء، ولكن رشاشا منه كان يصيبهن على الرغم من ذلك فيصرخن ويتلاغطن ثم يتدانين ويعبسن ويمسكن عن الكلام ولا تبقى لهن عين يدرنها في المناظر التي جئن لينعمن بالنظر إليها.
وأخيرا قال الذي بيده الدفة: «خذ أنت الدفة وأعطني المجداف».
فلم أتردد في القبول فما كان يسرني أن أكون سبب التنغيص. واتخذ صاحبي مقعده وراح يضرب الماء بعنف فيتعالى الصراخ فلا يعني بأن يلتفت إليهن ولا يزيد على أن يقول وهو يضحك: «لا بأس! سينشف الماء ثم يفرك الوحل فلا يبقى شيء..» وقد حرن ما يصنعن لاتقاء هذا المطر. وكنت ربما ضحكت إذ أراهن يخرجن مناديل في سعة الكف وينشرنها على حجورهن كأنما من الممكن أن تستر شيئا.
وأخيرا بلغنا مكانا دنونا من شاطئه، وقال الملاح: إن الأحسن أن يجر الزورق بالحبل. وقام فأخرج حبلا طويلا شده على الزورق ووثب إلى الشاطئ وراح يجر، وقعد أحدنا عند الدفة ليضبط الزورق فلا يجنح أو يلصق بالأرض. فعاد إلى الفتيات البشر وانطلقت ألسنتهن وإن كن لم ينسين موجدتهن علينا لما أصابهن من البلل. ثم تهامسن ونهضن وجعلن يصحن بالملاح وهو بعيد لا يسمع ونحن نسألهن ماذا يبغين وهن لا يباليننا أو يجبننا. وسمع الملاح فوقف وارتد إلينا، وإذا بهن يردن أن يتولين هن جر الحبل أو «اللبان» كما يسميه النواتية. فنصحنا لهن ألا يفعلن وحذرناهن وأنذرناهن فأبين إلا أن يفعلن، وفي ظنهن أن هذا أسلم لثيابهن، وأشرح لصدروهن وأجلى للصدأ وأجلب للصحة أيضا، فتركناهن يفعلن وأدنينا لهن الزورق من الشاطئ وحملناهن واحدة واحدة إلى الأرض. فذهبن يجرين إلى أول الحبل حيث تركه الملاح ودفعنا نحن السفينة إلى الماء مرة أخرى وكنا نراهن فإذا باثنتين منهن تتناولان الحبل معا، وكانت الثالثة تدور حولهما ولا تصنع شيئا، فمرة تكون أمامهما وتارة تكون خلفهما وهكذا، فانتهى الأمر بأن التف الحبل على سيقانهن جميعا فصرخن ووقفن يحاولن تخليص أرجلهن مما أحاط بها فخلصت أرجلهن ولكن الحبل صار على صدورهن وأعناقهن، والزورق يضطرب بنا ونحن نحاول أن نضبطه بالمجداف. واستطعن أخيرا وبعد لأي وصراخ فظيع أن يتجنبن شنق أنفسهن، فتهامسنا بأن الأولى بنا أن نسكت وندعي الجهل بما حدث وأن ننظر ماذا يصنعن بعد ذلك. ويظهر أنهن خجلن أن يقلن شيئا فعدن إلى الحبل واستأنفن جره فحمدنا الله ولكنهن كن يمشين شيئا، ثم يقفن فجأة وعلى غير انتظار منا، فيضطرب بنا الزورق فناديناهن، فلما تنبهن إلى أننا نريد أن نكلمهن وقفن وأقبلت علينا واحدة منهن وقفت بعيدا وأشارت إلينا تسألنا عما نريد، فصحت بأعلى صوتي: «لا تقفن».
Página desconocida