Senda de la vida
سبيل الحياة
Géneros
وقال إن هذا الغريب يبدو لي أنه يسأل عن شيء لا أستطيع أن أتبينه، فمال على العملاق الإنجليزي وقال يستحثني: نعم؟! فسألته عن «وستمنصته» فجعل يهز رأسه ويستعيدني وأنا أهز له رأسي أيضا كأني غير فاهم وألح في السؤال عن «وستمنصته» فأحس أن في الكلمة شيئا يمكن أن يهديه إلى مرادي وقال: «قل هذا مرة أخرى» ولكني تغابيت وجعلت أتلفت ثم قلقت وخفت، فقد رأيت صديقي وزوجته قد تركاني وذهبا فوقفا على الرصيف.
وليت هذا كل ما حدث إذن لما كان فيه بأس ولكنهما كانا يضحكان حتى خيل إلي أنهما سيقعان على الأرض. وكان ضحكهما عال فخفت أن يفطن إلى أن في الأمر مزاحا فيستثقله أو يعده سخرية منه فتسوء العاقبة، فخففت التحريف فلم يلبث أن فطن إلى مرادي فاستوقفني حتى مرت سيارة أمنيبوس معينة، فأمرني أن أصعد وتبعني صديقي، وأمر الكمساري أن يأخذ منا الأجر إلى وستمنستر وأن يحرص على أن ينزلنا هناك فأخرجت نقودا ومددت بها يدي إلى الكمساري ليأخذ منها ما يشاء تظاهرا بالجهل باللغة الإنجليزية . وهكذا كسبت الرهان.
وأعود إلى فلسطين فأقول أن في عكة مسجدا كبيرا وقد بناه - على ما أظن - أحمد الجزار باشا الوالي التركي في ذلك الزمان وهو رجل مشهور فلا أحتاج أن أتحدث عنه ولكني أقول إني وجدت مكتوبا على باب المسجد من الداخل هذا البيت العجيب في مدح الجزار باشا: «ذاك الوزير الشهم أحمد من غدا
جزر أعناق العباد كما يجب»
وأظن أن هذا البيت يستحق التدوين ...
وفي بغداد دعانا شيخ عربي إلى أكلة على الطريقة البدوية، فاستحسنا ذلك جدا، وآثرناها على وليمة أخرى؛ فلما ذهبنا ألفينا السماط ممدودا.. وأصف ما رأيت فأقول إن السجادة غطيت بملاءة بيضاء وضع عليها جفنة ضخمة فوقها صينية عظيمة لا أدري من أين جاءوا بها وقالوا إن عندهم ما هو أكبر منها بكثير، وفوق الصينية طشت هائل مليء أرزا مخلوطا بالزبيب واللوز والفستق وعلى الأرز خروف عظيم مشوي - هذا في الوسط، وحول الجفنة وعلى مستدارها أطباق عديدة لا يأخذها الحصر، فيها أنواع شتى من الطعام ... كالدجاج والخضر والعصيدة والولائق المختلفة، وهي من دقيق وسمن ولبن، وقد عرفوا أننا لن نستطيع مجاراتهم، فأعدوا لنا أطباقا وملاعق وسكاكين وأشواكا. فجعلنا نحن نأكل على طريقتنا، أي أن نأخذ ما نشتهي في أطباقنا. أما هم فأكلوا على الطريقة البدوية الصرف، وهي أن يتناول الواحد قبضة من الأرز ويطوي عليها أصابعه ويضغطها حتى تصير كالكفتة؛ وبعد أن يفتلها على هذا النحو يقذف بها في فمه. وهذا يبدو هينا سهلا، ولكن المصيبة أن الطعام يكون كالنار فيحرق الكف. فكيف بالفم واللسان؟ أما اللحم فيهبر منه ما تستطيع أصابعه أن تقطعه أو تمزقه ويرمي به في فمه وما يرمي في الحقيقة إلا جمرا مضطرما، وعلى ذكر الجمر أقول إن للعرب - أو على الأصح للبدو - طريقة عجيبة في علاج الجروح وقد جربتها فأنا أتكلم عن خبرة ويقين، ذلك أن راحتي أصابتها النار، فجعلت أوحوح وأنفخ فيها ولا أدري ماذا أصنع لتسكين الألم على الأقل، فصاح أحد النجديين الذين كانوا حاضرين هناك فى الحجاز: «ملح ... ملح..» فجاءوه بقليل من الملح الخشن فمد يده إلي وقال «خذ قبضة» «فتناولت منه بيدي السليمة وأنا أضحك في سري وأقول لعله يظن أن الحروق يفيد فيها السحر، فصاح بي: «بيدك المحروقة»، ففهمت وأخذت قبضة بيدي المحروقة فقال: «اطو عليها أصابعك» ففعلت فقال: «ابق هكذا» فظللت قابضا على الملح الخشن دقائق ثم نظر في وجهي وقال: «استرحت الآن.. زال الألم..» ففتحت كفي وأنا أبتسم ولا أكاد أصدق، فما كنت أشعر بأي ألم ولا رأيت أثرا للحرق! فما قول الأطباء في هذا وليكن رأيهم ما يكون فإني أنا لا أنوي أن أداوي الحروق التي تصيبني - وعسى ألا يصيبني شيء - إلا بالملح..
وفي لبنان أنقذتني فتاة لا أعرفها من هلاك محقق، وهذه الفتاة من أعاجيب الخلق، فإن لعينها نظرة تنيم الحية - كما عرفت بالتجربة المرعبة - وأنا قوي النظرة حادها وفي وسعي أن أحدق في قرص الشمس، ولكني لم أستطع أن أحدق في وجه هذه الفتاة العجيبة. وكنت كلما وقعت عيني عليها لا أزال أطرف ثم لا أجد بدا من تحويل عيني إلى ناحية أخرى.
وكنا قد لقيناها في الصباح ونحن نصعد في جبل في رأسه ينبوع أردت أن أرى الموضع الذي يتفجر منه ماؤه. وكانت تحمل جرة فيها من ماء هذه العين، وكنا نخاف أن نضل، فسألناها عن الطريق واستملحناها فاستسقيناها وأردت أن أنقدها بضعة قروش فأبت، وأنبأتها أني أريد أن أرى مفجر العين فنهتني عن ذلك. فسألتها عن السبب فقالت وهي تهز كتفيها. «هيك» ولم تزد ولما ودعناها عادت فحذرتني، فضحكت وشكرتها وأبيت إلا أن أصعد إلى حيث ينبثق الماء، وصعدت وحدي فقد رأى إخواني وعورة الطريق فانصرفوا عن مرافقتي، فوجدت كهفا على بابه عشب ونبات طويل ورأيت الماء يخرج من الكهف، فقلت أدخل لأرى فنحيت النبات وإذا بي أرى عينين لامعتين فظيعتين ثابتتين تحدقان في عيني وكانت نظرتهما من القوة بحيث لم أستطع أن أحول وجهي، وزاد فظاعة النظرة وعمق تأثيرها أن العين لا تطرف والجفون لا تتحرك وأن البريق شديد جدا في ظلام الغار. وكانت العينان ترتفعان عن الأرض شيئا فشيئا وتدنوان مني على مهل وأنا أنظر إليهما ويداي إلى جانبي وقد جمدت في مكاني وشعرت بالخدر في أعضائي. وكنت قد أدركت أن هذه حية وأنها من النوع الوثاب الذي تتحرك عيناه ولا تطرف جفونه. ومن هنا عمق تأثير نظرتها، ولم يخالجني شك في أني مقضي علي بالهلاك. وكيف أنجو وأن مسمر في مكاني لا أستطيع حراكا؟ ولو وسعني أن أتحرك لوثبت الحية علي وأنشبت في أنيابها قبل أن أدور على عقبي. وكانت نفسي تنازعني أن أصرخ مستنجدا ولكن شفتي كانتا مطبقتين لا تنفرجان. وإذا بالعينين المرعبتين تراجعان في الظلام وتهبطان إلى الأرض بعد أن كانتا ترتفعان عنها وتزحفان إلي، وأحسست أن نظرتهما تفتر وأن تأثيرهما في نفسي صار أقل وأصأل، وشعرت بأني صرت أملك أن أحرك أعضائي بعد طول الجمود، فتلفت فإذا الفتاة التي لقيناها في الصباح تحدق في عيني الحية بأقوى من نظرة الحية. ويكفي أنها ردتها بعينها. واختفت الحية فتشهدت وملت على الفتاة لأشكرها بقدر ما كان يسعني أن أفعل في مثل هذه الحالة. فلامتني على مخالفتها وذكرتني أنها حذرتني وقالت إنها أشفقت علي من المصير الذي كان لا مفر منه فأدركتني قبل أن أقضي نحبي فسكت ولم أقل شيئا.. وماذا أقول؟
الفصل الثامن
حي ولا كالأحياء
Página desconocida