ويئست من تقويمه، وتوقعت مصرعه بين يوم وآخر. سنخسر صديقا من أنبل من عرفنا في حياتنا، صديق الذكريات الطيبة التي لا تشوبها شائبة. ولم تصدق مخاوفي، بل خيل لي أن الذبحة تناسته كما يتناساها، وأنه أحرز انتصارا على قوانين الطبيعة، وفاجأنا وهو يقترب من الستين بقوله: أريد أن أتزوج!
أعلن رغبته بعد انقضاء عامين على وفاة امرأة عاشرها طويلا، عرفها في بيت قمار، واتخذها خليلة، وجمعت بينهما ألفة كالزوجية أو أشد، وطالما ألحت عليه أن يتزوج منها وأن يتوب عن القمار ولكنه جاد بكل شيء إلا الزواج. وماتت فجأة، ولأول مرة أراه يبكي بحرارة، لأول مرة يكشف عن قلبه الذي يخفق بالحب كما يخفق بالحزن، كأنما أرى شخصا جديدا تماما، أجل شهدت حزنه يوم وفاة مصطفى النحاس، ولكنه مر سريعا، وحسبته تحية قلبية لذكرى والديه. أما هذه المرة فقد بكى بكاء مرا وسلم نفسه لنوبته بلا حرص، ولم يعد الرجل الذي يتحدى الموت ليله ونهاره. وبعد انقضاء عامين حن إلى الزواج، ولم يبذل من ناحيته أي جهد لتحقيق رغبته ولكنه أعلنها لنا وانتظر. وتحاورنا في حيرة، حقا إنه رجل ثري وجيه وابن أسرة كريمة، ولكنه في الستين من عمره ومدمن قمار ذائع الصيت، لن ترضى به امرأة إلا بعيب فيها أو طمعا في أن ترثه بعد موته. وشعر بأننا نحرث في بحر كما يقولون فتجاهل رغبته، وطواها في صدره، وواصل حياته المنعمة بالعنف والتحدي واللامبالاة.
وأخيرا جاءت النهاية، جاءت الذبحة، ربما متأخرة عن توقعاتنا، ولكن مضاعفة لدهشتنا وانزعاجنا. وكنا معه على موعد، ولكن حيل بينه وبين الوفاء به في هذه الدنيا.
آل كناشة
في جوار آل ضرغام يقوم بيت آل كناشة وهو الأخير في هذا الجناح. ربه الشيخ محمد كناشة، قارئ القرآن الكريم، لا هو من المشاهير مثل علي محمود وإسماعيل ندا، ولا هو أيضا من قراء المواسم في القرافة ولكنه في منزلة متوسطة ضمنت له رزقا لا بأس به، وزوجته فلاحة ودودة لا تخلو من وسامة. للأسرة ذرية مباركة، مكونة من سبع بنات متزوجات، وولدين إبراهيم وزكي وهما من أصدقاء صبانا. وقد حصلا على الابتدائية وأمضيا سنوات عقيمة في الثانوية. كانا مشغوفين بالغناء، ويسترسلان فيه كلما وجدا فرصة أو تشجيعا منا. وإبراهيم قصير القامة، قوي البنية، لا قبح في وجهه ولا جمال، وزكي، رشيق، مليح، ورث عن أمه خير ما فيها. وربما شاركانا بعض الشيء في اهتماماتنا الوطنية، على حين اقتصرت ثقافتهما على حفظ الأدوار والتواشيح القديمة ثم مضيا مع الزمن يحفظان أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب. ومع الأيام تميز كل منهما باتجاه فني خاص، فمال إبراهيم إلى الأغاني الجادة، وفي حين تبلورت موهبة زكي في أداء الطقاطيق والمونولوجات حتى أطلق عليه حسن الفنجري «الرقيع ابن الشيخ». ومالا معا إلى الالتحاق بمعهد الموسيقى الشرقي، واعترض الشيخ محمد بادئ الأمر، ولما يئس من نجاحهما في الثانوية، وافق فالتحقا بالمعهد، وبعد التخرج اشتغل إبراهيم مطربا بصالة نعيمة الضباطي، وضمنت له حنجرته حياة عادية، فتزوج وأعاد من جديد حياة أبيه مع اختلاف المضمون. أما زكي فعمل «مونولوجست» في صالة ببا، ولم تبشر حياته بقفزات غير متوقعة، لولا أن أحبته سيدة غنية. ودفعت به قصة الحب إلى أغلفة المجلات الفنية، وزكى منظره الحسن نجاحه المثير. توجت قصة الحب بزواج شرعي، وأتاح له ثراء زوجته أن ينشئ «الفونتانا» أجمل ملاهي شارع الألفي في وقتها. قام مبناه من طابقين؛ الأول كافيتريا حديثة والأعلى ملهى ليلي للغناء والرقص، وأحاطت بالمبنى حديقة جميلة بارعة الجمال. وأصبح زكي مدير المحل، بالإضافة إلى بعض المونولوجات يلقيها آخر الليل من مختارات ألفت لأجله ولحنت بإشرافه، وقد نجحت وذاعت على ألسنة السكارى وأهل الانبساط من الجنسين. ولم يقسم له أن ينجب كأخيه إبراهيم فركز عنايته بذاته، وسهرنا نحن الأصدقاء في الملهى ورأينا صاحبنا وقد خلق من جديد في صورة غاية في الجمال والأناقة، قال حسن الفنجري: انظروا إلى مفعول الغذاء الطيب!
وعند انتهاء الحرب العالمية الثانية توفيت زوجته فأصبح من كبار أغنياء البلد، وقال صديقنا عبد الخالق: صدق من قال: قيراط حظ ولا فدان شطارة! وكان تنكره لأسرته؛ والديه المسنين وأخيه إبراهيم، وصمة في جبينه لا تمحى أبد الدهر. ليس كتنكر أحمد شقيق عبد الخالق لأسرته؛ فأحمد كان في الواقع فقيرا وكانت زوجته هي الغنية وشاءت أن تستأثر به وأن تكره أسرته من أول يوم. أما زكي فقد آلت إليه ثروة خيالية وظل تنكره لغزا ووصمة. وما لبث أن عشق راقصة اشتهرت بجمالها فتزوج منها، وبدا سعيدا مرحا رغم أنه لم ينجب، وشيد في الهرم قصرا ضرب بجماله المثل وعاش عيشة الملوك. ولم يجد جديد من ناحيته حتى ترامت إلينا أنباء غامضة عن مرض ألم به، وتأكد الخبر لما سافر إلى الخارج للعلاج. ورجع بمرضه دون شفاء، ولم يجئ ذكر للمرض صراحة ولكنه كان يوصف تارة بالخطير وأخرى بالخبيث. وأخبرنا إبراهيم بأنه - أخاه - حرم من أحب الأشياء في الدنيا إلى نفسه؛ الجنس والطعام! قال إبراهيم بشماتة: غير مسموح له إلا بمرقة النابت!
ولم تتحمل زوجته الجميلة عشرته طويلا فاضطر إلى تطليقها، وأصبح وحيدا بلا عزاء. وفي تلك الأيام رأيته مرة في «الفونتانا» وهو يشرف على إدارتها كنوع من التسلية. والحق أني فزعت لمرآه؛ لم أر رجلا ولكني رأيت جثة محنطة، جثة محنطة تلتوي شفتها راسمة امتعاضا أبديا احتجاجا على عبث الأقدار به. له من المال ما يمكنه من امتلاك أي شيء، وليس له من الصحة ما يمكنه من الاستمتاع بأي شيء. وانساق مع حظه إلى الهدف الوحيد الباقي له وهو الجنون!
فقد حصر كل اهتمامه بقبره، نعم قبره، حتى لو استنفد ذلك ثروته الطائلة. اشترى أرضا في مدافن الخفير لعلها أكبر أرض خصصت لمدفن في مصر، وغرس بها حديقة غناء تصلح أن تكون حديقة عامة. أما القبر نفسه فقد شيد ظاهره وشواهده من الرخام النفيس المنقوش بآيات الرحمن، وبلغ اتساع منامته حجرة استقبال واسعة، وطعمت جدرانه بالرخام وغطيت بالسجاجيد الفارسية، وركبت فيه أنابيب للإنارة تستمد طاقتها من مولد كهربائي وأوقف على المدفن وخدماته مالا يفي بالإنفاق عليه أبد الدهر. قلنا إنه لا ينقصه إلا أن يحنط جثته ويدفن معها متاعه من الجواهر والطعام والثياب! أراد ألا يرثه أحد من الشامتين، ولا أدري مدى توفيقه في ذلك. وفي الخمسينيات مات زكي كناشة فلم يحزن لموته أحد، وقال صديق: لم أعرف في حياتي من هو أقسى منه!
فأجاب صوت: الحياة نفسها تبدو أحيانا أقسى وأمر.
آل عديلة الحرة
Página desconocida