أذهلنا الخبر كأنما لم نصدق أن أمثاله يموتون، وذكرنا آلاف الضحكات التي أطلقها من صدورنا فخيم علينا حزن ثقيل.
آل الكاشف
فيما يلي آل الفنجري يقع بيت آل الكاشف، ولدى انضمامنا إلى سكان الشارع لم يكن بقي من أهل البيت فيه إلا رب الأسرة والابن الأصغر عبد المنعم وهو صديقنا. الكاشف بك في الحلقة السادسة، من كبار مهندسي الري، وذو مظهر عسكري صارم. وله بعيدا عن شارعنا ابن وهو البكري، وابنته تليه في العمر، أما صديقنا فقد ولد عقب فترة انقطاع غير قصيرة. ويعتبر البكري من نوابغ عصره، دكتور في الكيمياء من إنجلترا، وفي طليعة الرجال الذين بسطوا العلم ونشروا ثقافته بين عامة المثقفين، وامتاز بأسلوب أدبي سلس وبليغ يسلكه في نطاق بلغاء العصر من الأدباء المحترفين دون مبالغة. ولا تقل الأخت نبوغا عن أخيها، وقد نالت الدكتوراه من إنجلترا أيضا في الرياضة وتألقت في عالم التربية والتعليم. عرفت الأسرة بالذكاء والتفوق، وهي تدين في تفوقها أيضا بجدية الأب الإسبرطية وحرصه الدائب على تأهيل أولاده للبروز في البيئة العلمية. صديقنا عبد المنعم نشأ في جو مختلف، ترعرع في أحضان الإسبرطية ولكنه فقد منذ طفولته حنان الأم ورعايتها. ولم توجد مشكلة في الدراسة فقد كان يحفظ دروسه وينجح، ولكن الكاشف بك يعتبر النجاح المدرسي أولى الخطوات فحسب، ويطالب أبناءه إلى ذلك بالثقافة والاطلاع والاستقامة في السلوك والطباع داخل البيت وخارجه، وخيب عبد المنعم تطلعات أبيه في ذلك كله. عدا النجاح والانتماء الوطني المتوسط أيضا لم يكترث بشيء. كره البيت فهو لا يلزمه إلا عند المذاكرة، وانتمى للشارع بكل جوارحه، يهيم على وجهه هنا وهناك، ويقتبس قاموسه الخاص مما يلقى على سمعه، منجذبا انجذابا خاصا إلى الشواذ والغرائب. وانفجر بينه وبين أبيه خصام لا ينتهي، وكان يتحمل التأديب الشفوي واليدوي بقوة خارقة، لا يتراجع عن أهوائه أبدا. وفي العطلة راح أبوه يخفي أحذيته في صوانه الخاص ويغلقه ليضطره إلى البقاء في البيت مع الكتب، فكان ينطلق إلى الطريق منتعلا قبقاب الحمام دون مبالاة، ويحرمه من المصروف اليومي فيبيع ما يختاره من تحف البيت وأوانيه، ويأكل كل علقة وأختها صابرا متصبرا، حتى جفت ينابيع الحب بينه وبين أبيه، وكم يتمنى موته جهرا وكم نذر لذلك النذور! واشتهر بحب أطعمة السوق الشعبية مثل لحمة الرأس والكشري والطعمية والفول والعدس والفسيخ، ولم يكن يشارك أباه المائدة، ويستعمل الشوكة والسكين إلا في نادر النادر، قال عنه حسن الفنجري: إنه صاحب أعظم معدة شعبية.
وفي تجواله حفظ الكثير من نواح النادبات، وكان يطربه أكثر من أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب، وفي ليالي السمر يسمعنا ما لا نحب مثل:
عيني عليك ياللي تموتي عازبة
أو:
يا شابة يا صبية يا قد المعدية
وكثيرا ما كان ينشد مراثيه ونحن نخترق الحسينية في طريقنا إلى حي الحسين، ونردد وراءه المقاطع المكررة، فيتطلع إلينا الأهالي متوقعين أن يشهدوا جنازة، ولما تتكشف لهم الحقيقة ينهالون علينا بالشتائم والدعوات الطالحات!
وهو قوي الجسم، عملاق القامة، شعبي الملامح، مرح رغم همومه، طيب القلب. وليس من النادر - إذا طرده أبوه إثر احتدام خصام - أن يبيت في الحقول وحده. ومن عجب أن لم يبد أي اهتمام بالجنس الآخر، ولا تأثر يوما بالجمال. ما من فرد من شلتنا إلا عشق، وتشكى آلام العشق والحرمان، حتى محمد السناوي، أما عبد المنعم فربما كانت أكلة كرشة أهم عنده من أجمل امرأة في العباسية. ولي معه واقعة عرضني فيها للموت لولا لطف الله؛ حدث ذلك في الثلاثينيات وفي تجمع شعبي خطير قام لاستقبال مكرم عبيد حال عودته من رحلة سياسية ناجحة في الخارج. وكانت دكتاتورية محمد محمود تلفظ أنفاسها، فسمحت الداخلية بالمظاهرة، وأمرت رجالها بالمحافظة على الأمن مع عدم التعرض للمتظاهرين. لأول مرة نرى رجال الأمن وهم يتفرجون علينا في دعة وسلام. ومر موكب سكرتير الوفد يشق طريقه في بحر زاخر بالهاتفين، وسرنا وراءه بأمل أن نستمع إلى الخطب في بيت الأمة. وفي مكان ما من الطريق صادفنا مأمورا في ملابسه الرسمية يقف وسط التيار بلا سلاح وفيما يشبه المودة والتشجيع. وفجأة انقض عليه عبد المنعم ووجه إلى بطنه لكمة عنيفة غير متوقعة انقلب على أثرها على وجهه وهو يخور. تلفت فيما حولي في فزع فرأيت فارسا على بعد يتطلع إلى الحادث بغضب ويحاول الاندفاع نحونا. وجرينا بالسرعة التي يسمح بها الزحام، ونحن نعلم أن الموت يطاردنا، وكلما قطعنا شوطا نظرنا خلفنا فنرى الفارس وقد لحق به نفر من الفرسان وهم يشقون طريقهم بصعوبة وأعينهم لا تتحول عنا، وما زلنا نجري حتى لذنا ببيت الأمة ونحن نرجو ألا يكونوا قد تابعوا لواذنا، وقبعنا فيه والخطب تلقى والهتاف يتصاعد. ولم أصدق ليلتها أنني نجوت وأنني رجعت إلى بيتي سالما، وأسأله بحنق: لماذا فعلت ما فعلت بلا أي موجب؟
فيقول ضاحكا: أي اعتداء على الشرطة حلال!
Página desconocida