تذكرت «لير»، لكن ... لا ... لا ... لم أكن قط في مثل ما كان فيه، فقد كان الرجل ملكا نزل عن أرضه لبناته، على أن يحفظن له كرامته ومأواه، ووعدنه بما أرضاه، لكنهن غدرن به حتى ولو كان والدا، فعند الجشع الجائع للمال والسلطان، لا مكان لأبوة وبنوة، فأين أنا منه، فلا ملك ولا بنات، وكل ما في الأمر أن خطابا ورد إلي من شاب لا أعرفه - ولا أعلم من أين عرف عنوان إقامتي، إذ هو من طبعي أن أتسلل كالظل، صامتا متسترا، جاءني ذلك الخطاب ليسألني الشاب عما عساه أن يصنع، فهو يريد أن يحيا بالعلم والثقافة، للعلم وللثقافة، ولعله أحسن الظن في شخصي، فطلب شيئا من الإرشاد والنصح، كنت - إذن - أمام هذا السؤال، أفكر بماذا أجيب لو كنت لأجيب، عندما أزحت المنضدة الصغيرة نحو الحائط الزجاجي، لأكون أقرب إلى ضوء النهار، وأعددت الورقة والقلم، لكن السماء اكفهرت بسحابها الأقتم الغاضب، وبدأ الجن في ثورته أو في قتاله بمشاعل البرق وطبول الرعد.
كانت النفس عندئذ قد غشتها ظلال تقع بين اليأس والرجاء، فلا النفس في حالة من اليأس الخالص الذي لا رجاء فيه، ولا هي في حالة الرجاء الذي لا يأس فيه، فيكفيني أملا أن أرى شابا كهذا الذي أرسل إلي سؤاله، وهو في أول طريقه ينذر نفسه للعلم وللثقافة، لكن موضع حيرتي هو وقفتي بين ما يكون وما ينبغي أن يكون، فبين هذين الطرفين في حياتنا زاوية منفرجة واسعة الانفراج، يسألني الشاب: ماذا صنعت أنت بنفسك؟ وشكرا لك يا بني مرة أخرى على حسن ظنك، لكنني - وأقولها صادقا - إذ عشت حقا بالعلم والثقافة، للعلم وللثقافة، ويمنعني طبعي أن أمد يدا أستجدي بها العون، حتى لو اجتمع لي الفراعنة، والأكاسرة، والقياصرة، والأباطرة، والملوك، كان لزاما علي أن أعيش من العمر ثمانين عاما، قدمت فيها ما أظنه قد لقي شيئا من القبول عند كثيرين، لكنه ظل إلى هذه الساعة التي أكتب فيها هذه السطور، قبولا مكتوم الأنفاس، أو هو كالمكتوم، إذ لم يخل الأمر من صوت ارتفع حينا طويلا بعد حين طويل، لكنني لم أيأس قط؛ وكان ذلك لسبب بسيط، وهو إذا لم أنفق أيامي في دراسة أتعلم بها، وفي كتابة أعبر بها عما يفيض به خاطري، ففيم كنت أنفقها؟ لكن الأعوام الثمانين قد أسمعت آخر الأمر آذانا فيما وراء الحدود، والحمد لله على نعمته، فإذا كنت يا بني على استعداد نفسي، للعمل المتصل الذي لا يفتر، والذي - في الوقت نفسه - قد لا يعود عليك بما يتكافأ مع الجهد المبذول فيه، مكتفيا بأن ترضى عن نفسك وترضى عنك نفسك، فهيا إلى جهاد طويل، لا أوصيك فيه إلا بشيء واحد، وهو أن يكون لك هدف واضح في رسالة تؤديها لوطنك ومواطنيك، متوخيا الصدق مع نفسك ومع الناس.
غير أن أمانة القول تقتضيني أن أضيف الوجه الآخر للموقف في حياتنا على حقيقته، وهو أن حب الظهور يملأ خياشيم عدد كبير منا، ولعل لهم عذرهم في ذلك؛ لأن «ثقافتنا» الشعبية الأصيلة تسير بجمهور الناس في خطين معا، فهم لا يصفقون إلا لمن استطاع أن يظفر بقدر ملحوظ من القوة في كثير من جوانبها: قوة النفوذ، قوة الصوت، قوة المال، قوة المنصب إلى آخر هذا الخط الطويل، لكن جمهورنا مع ذلك يكن التقدير الصامت لمن نذر نفسه للعلم وللثقافة كما تريد أنت أن تفعل، فإذا كنت نزاعا بطبعك إلى قوة الجاه، فلا سبيل أمامك سوى أن تأخذك الكبرياء حتى ولو كانت كبرياء النفخة الكذابة، فلا تتواضع لأحد؛ لأن جمهورنا سريع الخلط بين التواضع والضعة، اشمخ بأنفك حتى لو لم يكن لك أنف تشمخ به، وابرز بصدرك إلى الأمام، حتى لو لم تسعفك في ذلك رئتاك.
لقد كتبت بالأمس عن «الإرادة» وموضعها في النظرة الإسلامية، وكان مضمرا في نفسي أن أهم ما ينقصنا هو تربية الإرادة القوية في أبنائنا وبناتنا؛ لأنه إذا كان قد أصابنا ضعف في نواح كثيرة فأساسه فتور الإرادة وتراخيها، وإذا رغبنا في استعادة مجدنا فسبيلنا إلى ذلك هو إرادة قوية لا تلين أمام الصعاب.
فلما جاءتني رسالة الشاب، كان أول خاطر سبق إلى ذهني هو أن أوجه السؤال لنفسي على هذا النحو: لقد كتبت عن الإرادة وأنها هي صاحبة الأولوية في النظرة الإسلامية، وها هي ذي فرصة قد حانت لنكمل الحديث، فبأي شيء نريد للإرادة أن تتعلق؟ ولعل في الإجابة ما يكون في الوقت نفسه جوابا مفيدا للشاب صاحب الخطاب، فلم ألبث بضع ثوان حتى أجبت نفسي: أول ما أود لعزيمتنا أن تمتد إليه، فتمحوه من الوجود محوا هو «الخوف»، إن من طبيعة الإنسان أن يتحصن بشيء من الخوف على سبيل الحذر من المجهول، لكن الخوف - شأنه في ذلك شأن جميع الظواهر النفسية - يصبح مرضا إذا بولغ فيه، وقد زاد عن حده المعقول في حياتنا وأصبح مرضا، فيخاف الإنسان فينا من ظله، كما نقول، نخاف من صاحب النفوذ، ومن صاحب القوة بكل أشكالها، ومن هنا ترانا نكتم الحق خوفا من إعلانه، إذا كان في إعلانه ما يغضب أصحاب القوة، فكانت النتيجة المحتومة لذلك أن نحيا - كما نحيا - بازدواجية القيم، فحياة نحياها في الظاهر بالقيم التي تصادف الرضا، وحياة أخرى نحياها في الخفاء، ليسر بعضنا لبعضنا الآخر همسا في الآذان، عما يراه حقا، فإعلان الحق ضرب من الجهاد، كثيرا ما يصيب المجاهدين في سبيله العناء والعنت والأذى، مما يتطلب من أولئك المجاهدين في سبيل الحق وإعلانه، اللجوء إلى الصبر، ولكن الناس يظلون في خسر إلى أن يظهر فيهم من تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ...
أمة تخلو من الخوف والتخويف، إلا بالقدر الذي تتطلبه طبيعة الإنسان - هذا هو أول ما يجب أن تتعلق به الإرادة، ولا يكون ذلك إلا بتربية تبث في الناشئ ثقته في نفسه، مع احترامه للآخرين، إنه مطلب يسير في وصفه والتعبير عنه، لكنه عسير في تحقيقه تحقيقا يجعله طريقة عيش وأسلوب حياة عند كل فرد من أفراد الشعب، فالحياة عندما تتخذ في الإنسان صورتها المثلى تصبح مغامرة يغامر بها الفرد ابتغاء الوصول إلى مثل أعلى يراه في هذا الجانب أو ذاك من جوانب الحياة، فقد يتجه المثل الأعلى بصاحبه نحو أن يكون عالما بحاثة يكشف عن حقائق الوجود، أو يتجه به نحو إبداع في الفن والأدب، أو نحو قوة الحكم أو قيادة الجيوش أو ما شئت من سبيل، لكن أيا ما كان السبيل المختار، فهنالك طريقتان للتربية من أجل تحقيق غاية منشودة: طريقة توحي بالمغامرة والكشف والتحديد وإرادة القوة، وطريقة ثانية تبث في الناشئ روح الخوف والانكماش والمحافظة والبعد عن الخطر والمخاطرة، والطريقة الأولى تكون لها السيادة في الشعوب عند نهضتها، والطريقة الثانية تخنق الرقاب وهم في مرحلة الضعف والتخلف والجدب والجمود، في الحالة الأولى إقدام وجرأة، وفي الحالة الثانية، جبن وحذر وخوف، والأغلب في الحالة الأولى ألا يضغط الرأي العام على حرية الفرد إلا بالحد الأدنى الضروري لسلامة المجتمع، أما في الحالة الثانية فيغلب أن يبطش الرأي العام بأي فرد من أفراده تأخذه الجرأة فيحاول تغيير المألوف، وأخشى أن يكون المسيطر على حياتنا في مرحلتنا الراهنة هو مناخ الخوف والهزيمة.
نعم إن الحياة المزدهرة لا بد لها من «أمن»، لكن المهم دائما هو تحديد المعاني التي لها قوة التأثير على تشكيل الفكر والسلوك، فبأي معنى نفهم «الأمن»؟ أما الخائف الضعيف المهزوم، فلا يفهم من الأمن إلا أنه ضمان استمراره فيما هو فيه، وأما صاحب العزيمة القوية، الطموح الجريء البحاثة الرحالة الطائر في أجواز الفضاء، الغائص إلى أغوار المحيط، فمعنى «الأمن» عنده أن تصان له حريته وظروفه التي تساعده على أن يحيا تلك الحياة المخترقة للآفاق، ولقد سبقت لي الإشارة في مناسبة سابقة إلى مغزى العنوان الذي اختاره الإدريسي لكتابه «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» فهو يدل على روح الشعب العربي الإسلامي إذ كان في مرحلة قوته، فقوته لم تكن في إغلاق النوافذ خوفا من لفحة البرد، بل كانت قوته في اختراق الآفاق.
ولطالما وقفت متأملا قول الله - جلت قدرته:
فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف
والإشارة هنا كانت إلى قريش الذين هيأ لهم الله سبل السفر المطمئن في رحلاتهم التجارية إلى الجنوب شتاء، وإلى الشمال صيفا، فللحياة المزدهرة ركيزتان أساسيتان: وفرة في الجانب الاقتصادي من جهة، تسانده سكينة نفس من جهة أخرى، وتستطيع أن تفهم من الوفرة الاقتصادية كل ضروب النشاط الإنتاجي مع كل ما يؤدي إليه ويتفرع منه، كما تستطيع أن تفهم من النفس التي أمنت من الخوف واطمأنت، كل ما قد تنتجه تلك النفس الهادئة المطمئنة من علم وفن، بل ووسائل الحياة المهذبة في ساعات الفراغ، من يسرت لهم حياة فيها الركيزتان: الازدهار في ضرورات العيش الكريم من جهة، والنفس التي أمنت عوامل الخوف، فقد حقت عليهم عبادة الله الذي هيأ لهم السبيل.
Página desconocida