يموت الإنسان ليحيا
منذ بضع سنوات، شاءت لي المصادفة ذات مساء، أن أفتح التليفزيون لأشهد حلقة من برنامج ديني، جيء فيه بمجموعة من أكبر أساتذة جامعاتنا في مجال العلوم، وروعي فيهم أن يكونوا ذوي تخصصات مختلفة، ودبر لهم أن يتجمع أمامهم عشرات المئات من طلاب الجامعة، وكان الموضوع الذي أعد ليكون مطروحا للعرض والمناقشة، هو أن يبين العلماء - كل في ميدان تخصصه العلمي - أن في القرآن الكريم من الحقائق العلمية، في كل ميدان من الميادين التي جاء الأساتذة الأجلاء ليمثلوها، ما يتطابق مع أحدث ما وصلت إليه تلك العلوم من نتائج.
وإنه ليتعذر على مثل كاتب هذه السطور، بتخصصه في الفلسفة، أن يناقش علماءنا الأفاضل في تخصصاتهم العلمية، فالمفروض أن تكون الكلمة الأخيرة لهم، فيما يمس موضوعات النبات، والحيوان، والفلك، وغيرها، مما جاء الأساتذة الكبار ليتحدثوا فيه، وليجيبوا على ما قد يوجه إليهم من أسئلة الطلاب، لكنني - مع ذلك - أشعر بأن واجبي العلمي يقتضي أن أشير بلمحة سريعة إلى ما أراه انحرافا خطيرا عن النظرة العلمية الصحيحة فيما قبل الأساتذة الجامعيون أن يشاركوا في مجاراة الرأي العام في اتجاهه؛ لأنه إذا سمع الجمهور - وسمع طلاب العلم - قولا من أكبر المتخصصين في العلوم عندنا يقرر بأن في الكتاب الكريم، من قوانين العلوم الطبيعية، ما يتطابق مع آخر صيحة عصرية في تلك العلوم، فمن الذي يجرؤ بعد ذلك أن يحاجهم في خطأ شاع في مرحلتنا الزمنية هذه بين الناس، ربما أكثر مما شاع في أي مرحلة سابقة، مع أن الفرض هو أن أمتنا تسير من الأجهل نحو الأعلم، حقا لقد انحرف علماؤنا هؤلاء انحرافا خطيرا عن النظرة العلمية في الأساس الذي اجتمعوا من أجله، وفي بعض التفصيلات التي سأبينها فيما يلي من هذا الحديث ...
أما من حيث الأساس، فالقرآن الكريم إنما نزل مع الوحي كتابا فيه عقيدة وشريعة، فإذا وردت فيه إشارات إلى حقائق مما قد نراه مندرجا تحت علم من العلوم، فإنما أقصد بها أي شيء مما يتفق مع سياق ورودها، إلا أن تكون قد جاءت بقصد أن تكون «علما» بالمعنى الذي نفهمه من هذه الكلمة عندما يراد بها العلوم الطبيعية في أي فرع من فروعها، وأقل ما يقال من ذلك، أن ما قد أنزل به القرآن الكريم إنما هو حق ثابت، وسيظل ثابتا ما بقي مكان وزمان فيهما إنسان، وإلا فما الذي يمكنه أن يتغير في عقيدة أن الله - سبحانه وتعالى - واحد أحد صمد، وما الذي يتغير في أي قيمة من القيم الأخلاقية الواردة في الكتاب والتي منها؟ يتكون إنسان كامل، إذا هو استطاع أن يذهب معها إلى حدها الأقصى؟ وأما «العلم» فهو بحكم طبيعته نفسها يصحح نفسه بنفسه عصرا بعد عصر، بمعنى أن الحقائق العلمية المقرر لها الصدق في عصر ما سرعان ما يتبين أن صدقها منحصر في دائرة محدودة من وقائع مجالها التطبيقي، فيحاول العلماء في إثر ذلك البحث عن صيغ جديدة للقانون العلمي الذي ثبت قصوره لكي تستطيع الصيغة الجديدة أن تغطي كل ما قد ظهر للإنسان من وقائع المجال التطبيقي، وهكذا تظل الوقائع تتكشف لنا ونظل نلاحقها بتغير القوانين العلمية من صيغ أضيق مجالا إلى ما هو أكثر سعة وشمولا ... فمن الذي يرضى لعقيدته الدينية أن توضع في هذا المنظور المتغير مع تعاقب العصور؟ أليس يكفينا من الإسلام أن يحيل الإنسان إلى «عقله»، وأن يحضه حضا على إعمال هذا العقل فيما يوسع علمه بحقائق الكون؟ فإذا كان علماؤنا الأجلاء قد طاب لهم العوم على الموجة الشعبية، فجاءوا إلى تلك الندوة ليقولوا لطلاب العلم المجتمعين أمامهم وإلى ملايين المشاهدين في طول البلاد وعرضها إن في القرآن الكريم «علوما طبيعية» تطابق آخر صيحة في تلك العلوم، فماذا عساهم - يا ترى - قائلين حين تجيء بعد الصيحة الأخيرة، صيحة ثانية تعقبها ثالثة ورابعة ...؟
فلم يكن علماؤنا الأجلاء على صواب، حين استجابوا لدعوة تحقق غاية في نفوس الداعين، لكنها يقينا تصيب التربة العلمية لطلابنا وللشعب كله بضربة في الصميم، هذا من حيث الأساس، وأنتقل إلى تفصيلات سمعتها ممن كان أول المتحدثين، وقد جعل موضوعه نشأة الحياة من مصدر لا حياة فيه؛ ليبين بعد ذلك لسامعيه مدى الصواب العلمي، في قول الله تعالى:
يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ، فوقع في خطأ لم نكن نتوقع مثله من مثله، فكلمة «ميت» «بالياء المشددة» وكلمة ميت «بالياء الساكنة» مختلفتان في المعنى اختلافا بعيدا، وذا صلة شديدة بالموضوع الذي كان الأستاذ يتحدث فيه، فالكلمة وهي بالياء المشددة كالتي وردت في الآية الكريمة التي كانت مدار الحديث، ليس معناها أن المشار إليه بها قد مات بالفعل، ولكن معناها أنه صائر إلى الموت، أي أن المشار إليه بهذه الكلمة المشددة ياؤها هو «حي» غير أن حياته إلى أجل. وهنا يكون اختلاف في معنى «الحي» حين تكون اسما من أسماء الله تعالى، وحين تكون مشيرة إلى الإنسان أو غير الإنسان من الكائنات الحية، فالحي سبحانه وتعالى حياته أزلية أبدية لم تبدأ عند لحظة معينة ولن تنتهي، وأما الكائن من الكائنات الحية المخلوقة لله فحياته لها أول ولها أجل تنتهي عنده صورتها الأرضية التي كانت عليها، وأما «ميت» ذات الياء الساكنة فهي التي يشار بها إلى من مات بالفعل، كالتي وردت في الآية الكريمة
أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه
والتي وردت في الآية الكريمة
حرمت عليكم الميتة ... .
وعلى هذا الضوء، ماذا يكون معنى الآية الكريمة التي جعلها الأستاذ في تلك الندورة مدارا لحديثه، وهي
Página desconocida