اقرأ باسم ربك الذي خلق ، في كلتا الحالتين يأتي الأمر بالقراءة متبوعا باسم الله، فليست القراءة الواجبة - إذن - هي قراءة الآلي، وإنما هي القراءة التي تفك بها الرموز، فيكشف عن الكنوز المكنونة من معرفة لما كتبه قلم يحمل علما كان مجهولا للإنسان قبل قراءته «الحالة الأولى»، ومن معرفة لما خلقه الله، وذلك بدراسته ما وسع الإنسان أن يدرس ليعلم «الحالة الثانية».
هي قراءة مزدوجة، فرع منها يقرأ الكلمات، وفرع آخر يقرأ مخلوقات الله، والفرعان كلاهما يستهدفان هدفا واحدا، وهو، «المعرفة» بعد فك الرموز والكشف عما تعنيه، ولعل الأمر يزداد أمامنا وضوحا إذا ذكرنا محاولة من أهم محاولات الفلاسفة المسلمين الأولين، وهي محاولة قد وفقوا فيها إلى حد بعيد، وأعني محاولتهم أن يبينوا بأن الحقائق التي نزل بها الوحي قرآنا، هي نفسها الحقائق التي يصل إليها العقل علما، وربما كان أمتع وأنفع ما نقرؤه في هذا المجال، هو كتاب «حي بن يقظان» لابن طفيل، فهو «أمتع»؛ لأنه «أدب من حيث الشكل الروائي»، وهو «أنفع» لأنه وضع أمام قارئه إنسانا نشأ وحده على جزيرة ليس فيها إلا نبات وحيوان وكائنات مادية كالأرض والماء والشمس، فلما نما جسما، ونضج عقلا، استطاع من تأمل المخلوقات التي حوله، أن يستدل بعقله المحض على وجود الله، وطبائع الأشباه، وأريد للقارئ أن يتأمل الاسم الذي اختاره ابن طفيل لبطل روايته الفلسفية، إذا استخدمنا مصطلحات الأدب في عصرنا، وأحب هنا أن أضيف حقيقة إملائية، وهي أن القارئ إذا ما رآني قد كتبت «ابن طفيل» بحرف الألف في «ابن»، فذلك هو الصواب؛ لأن الألف في «ابن» لا تحذف إلا إذا جاءت بين اسمين كقولنا: «عمر بن الخطاب» - أعود إلى سياق حديثي، فأقول إنني أريد للقارئ أن يتأمل اسم «حي بن يقظان»، ليرى كيف أحسن ابن طفيل اختيار الاسم؛ لأنه إذا كان الإنسان المعزول وحده في جزيرة منذ ولد، قد استطاع بعقله أن «يقرأ» الكائنات من حوله، قراءة كشفت له عن الحق سبحانه، وعن حقائق الأشياء وطبائعها؛ فذلك لأنه لم يكن غافلا ولا لاهيا بما يسمع ويرى، أعني لم يكن غافلا ولا لاهيا عندما «قرأ» الذي قرأه فيما حوله، فذلك لأنه «حي» بكل معنى الحياة، ولأنه «يقظان» بكل وعيه وإدراكه ... فهذا الذي صنعه الفلاسفة المسلمون الأولون، حينما بينوا التقاء ما نزل به الوحي، وما يدركه العقل باستدلالاته وبراهينه، يوضح لنا ما قلناه عن القراءة بشعبتيها، وتلك هي القراءة العابدة؛ لأنها قراءة باحثة كاشفة عارفة.
ومن هذا الذي قدمناه، تتولد نتيجة أراها ذات أهمية كبرى في رؤيتنا الإسلامية من جهة، وفي تربية أبنائنا على تلك الرؤية من جهة أخرى، وأعني بها النظرة التي ننظر بها إلى الحلال والحرام، اللذين هما جوهر الشريعة، فالحلال حلال لأن شريعة الله قد أحلته، والحرام حرام لأن شريعة الله قد حرمته، وهما بغير شك مطاعان عند المسلم لمجرد أنهما شريعة الله، وهناك علماء من أفضل العلماء، يرون أن طاعة المسلم فيما حلل له وما حرم، يجب أن تؤخذ بغير أن يسأل: لماذا كان الحلال حلالا وكان الحرام حراما؟ والرأي عند كاتب هذه السطور هو - بكل التواضع الذي يقبل التصحيح بلا تردد إذا ظهر له أن في الرأي خطأ هو لا يراه، أقول: إن الرأي عند كاتب هذه السطور هو أن الخير كل الخير أن نسأله: لماذا؟ وأن نحاول الجواب والبيان.
وهذا الرأي أبنيه على ازدواجية القراءة التي أسلفت ذكرها، فإذا كان الأمر هو كما بينه الفلاسفة المسلمون الأولون، أن العقل يمكنه بالاستدلالات الصحيحة من وقائع العالم كما تقع لنا، أن يستنتج الأحكام التي نزلت وحيا، كان معنى ذلك هو أن الحلال والحرام هما النافع والضار فيما يدركه العقل، لو أنه تعقب حقائق الأشياء وطبائعها ونتائجها القريبة والبعيدة، فكل حلال إنما هو في حقيقته الواقعية، شيء يفيد فائدة مطلقة، لا يحتمل أن يشوبها ضرر مهما امتد حبل النتائج التي تترتب عليه، وكل حرام هو شيء ضار، قد يظهر ضرره فور وقوعه، وقد يكون ضررا كامنا تظهر نتائجه بعد حين قصير أو طويل، وأعتقد أن بيان ما هو حلال وما هو حرام، لمن نربيه على الإسلام، يزداد عمقا في نفس المتعلم - وفي نفس المسلم عامة - إذا «عرف» بعقله لماذا حلل والحلال وحرم الحرام، إن الأوامر والنواهي لا يتبدل فيهما شيء، عندما ينتقلان من مرحلة القبول الذي لا يسأل عن الأسباب، إلى القبول ومعرفة أسبابه، ففي تربية الوالد الرشيد لولده، يأمره بأفعال وينهاه عن أفعال، لكنه يمسك عن ذكر الأسباب إذا رأى طفله أقل قدرة على إدراك تلك الأسباب، لكن كلما نما ولده وازداد قدرة، اتسع المجال أمام ذلك الوالد، ليشرح لولده لماذا كان الأمر ولماذا كان النهي.
لكنه في الوقت الذي لا يتغير فيه شيء من الحلال والحرام، بين أن يكون الإنسان على علم عقلي بالأسباب، أو لا يكون على شيء من ذلك العلم، فإن الفرق كبير في الإنسان نفسه، بين أن يعلم تلك الأسباب وألا يكون على علم بها، فاستعداد الإنسان لقبول أحكام بغير علم بمبرراتها، قد يتسع مداه في حياته الإدراكية - دون أن يشعر بذلك - من دائرة الطاعة الصامتة في مجال الدين، إلى الطاعة الصامتة كذلك في مجال العلاقات الاجتماعية، بما في ذلك علاقة الحكومة بالشعب، وعندئذ قد يطغى من يطغى، دون أن يكون من حق المحكوم أن يسأل لماذا؟ ... ثم قد يتسع المدى كذلك لينتقل الإنسان السلبي في طاعته، من دائرة الأحكام الدينية، إلى دائرة الاعتقادات التي لا هي من أحكام الدين فتطاع بغير سؤال من العقل، ولا هي من المعرفة العلمية التي محصها العقل وأثبت صحتها قبل قبولها؛ وأعني بتلك المجموعة الضخمة من الاعتقادات، التي لا هي من دين، ولا هي من علم، تلك «الخرافات» التي إذا شاعت ودامت مع الناس، رسخت في نفوسهم كأنها حقائق لا موضع فيها لجدل أو سؤال، لا سيما إذا كانت الأغلبية الغالبة من الشعب قد حرمت من الحد الأدنى من التعليم والتثقيف، ذلك الحد الأدنى الذي لا يسمح لصاحبه أن يقبل رأيا، أو فكرة، أو حكما أو صورة من صور السلوك، إلا إذا كان لها مبرر معروف.
وأرتفع بالمسألة المطروحة درجة، لأقول إن عقيدة المسلم هي أن الإسلام دين لكل زمان ولكل مكان، ومن الحكمة أن نبين للناس ذلك الأساس الذي يؤيد صدق عقيدة المسلم في دينه، والأساس هو استناد الإسلام إلى «العقل» ليكون هو أداة الإدراك كلما أريد للفكرة المدركة أن يكون لها ثبوت وثبات، وليس الإسلام هو المسئول، إذا نشأت جماعة من المسلمين على تربية تبيح لهم أن يبيعوا عقولهم من أجل خرافة ووهم، فالحقيقة العقلية وحدها هي التي تستطيع بحكم طبيعة تكوينها - أن يدوم لها صدقها مهما تغير بها المكان أو الزمان، وإذا قلنا الحقيقة العقلية فقد قلنا الحقيقة العلمية، إذ لا فرق - في الأساس - بين العبارتين، وهل يتأثر الصدق في قولنا «إن الاثنين نصف الأربعة.» مهما تغير المكان أو الزمان الذي تقال فيه؟
من هنا يكون الفرق بين أن تذكر لي أسلوبا معينا من أساليب العيش، قائلا لي إنه أسلوب جيد أو أسلوب رديء، وبين أن تذكر لي في الوقت نفسه «المبدأ» العقلي (أي التعليل) الكامن وراء ذلك الأسلوب من أساليب العيش ، فيجعله حسنا أو رديئا؛ لأن المبادئ العقلية، أو قل: الحقائق العلمية هي وحدها التي لا يتغير من صدقها شيء برغم تحولات المكان والزمان، وفي هذه المناسبة أروي عن سقراط، وقد كان في موقفه من تاريخ الفكر الإنساني، ينقل المفاهيم العامة والهامة في حياة الناس، ينقلها من حالات الغموض والإبهام إلى حالة التحديد العلمي؛ ليتبين صدقها أو بطلانها، فلقد صادف سقراط شابا في ساحة المحكمة، وسأله عما جاء به إلى هناك، فقال له الشاب (وهو أوطيفرون): جئت لأشكو أبي؛ لأنه قتل عبدا في المزرعة بغير حق، مما قد جاوز بالوالد حدود التقوى، فسأله سقراط، وما هي حدود التقوى؟ فأجابه الشاب بما معناه أنها هي الحدود التي جعلت أباه في قتله للعبد على باطل وضلال، وجعلته هو في رفع الأمر إلى القضاء، مع أن القاتل هو أبوه، على حق وهدى، فاعترض سقراط على تلك الإجابة، مبينا للشاب أنه إنما يحدد معنى التقوى بسلوك معين في موقف معين، مع أن التحديد لا تتوافر فيه الشروط العقلية - إلا إذا جاوزنا الموقف المعين، لنستخرج ما يكمن وراءه من «مبادئ»؛ لأن المبدأ هو الحقيقة العامة التي تتخطى جزئية السلوك الفردي في مكانه المعين وزمانه المعين، ليشمل كل سلوك لأي فرد، في أي مكان، وفي أي زمان ...
وهذه النقطة هي عندي بيت القصيد، فلقد كان الإسلام آخر الرسالات الدينية لهذا السبب نفسه، وهو أن الإسلام قد أوكل المشكلات التي قد تنشأ في حياة الناس، مما لا يكون قد ورد فيه حل قاطع، أو كلها إلى «العقل» الإنساني؛ أي أنه أوكلها إلى «العلم»، فكل مشكلة هامة تعترض حياتنا، هي بمثابة موضع يختص به علم معين، أو مجموعة علوم، إذ قد تكون من اختصاص علماء الطب أو علماء الاقتصاد أو علماء النفس والاجتماع، أو غير ذلك من سائر العلوم، بحسب طبيعة المشكلة المطروحة، وما دام الأمر في تدبير الحياة إذا ما أشكلت على الناس، قد أحيل (في الإسلام) إلى عقل الإنسان وعلمه، ففيم تكون الرسالات الدينية بعد ذلك؟
إنها رؤية إسلامية، تنظر إلى الإسلام من ناحية إقراره لعقل الإنسان وأحكام ذلك العقل في استدلالاته إذا ما التزم فيها منهج العلم، وهي رؤية أذكرها، لا لأضيف بها جديدا من حيث الأساس، بل لأذكر بها من نسيها أو تناساها والذكرى تنفع المؤمنين.
العقل يهدي ويهتدي
Página desconocida