Pioneros del renacimiento moderno
رواد النهضة الحديثة
Géneros
وعمت المطبعة هذه الربوع وكان أكبرها وأعمها فائدة مطبعة الأمير كان ومطبعة اليسوعيين، والمطبعة الأدبية لخليل سركيس، فطبعت كتب كثيرة ساعدت على نمو النهضة واشتداد ساعدها. وأنشأ الرواد المهاجرون - الشدياق وغيره - المطابع العربية في الأستانة وباريس وغيرهما من عواصم الدنيا؛ فانتشرت لغة الضاد، وذاعت حيث حلت ركاب أبنائها.
وعرف الشرق الصحافة فكانت «حديقة الأخبار» أول جريدة أهلية لا تشوب لغتها تلك الركاكة التي كانت تشوب لغة الجرائد الحكومية «الرسمية»، وولدت بعدها جريدة مرآة الأحوال لرزق الله حسون، ثم جريدة «الجوائب» لأحمد فارس التي استقام معها لسان العرب.
أما المدارس، فأقدمها عين ورقة، التي أنشئت في القرن الثامن عشر، وفيها نشأ كبار الرواد كالشدياق والبستاني والدحداح إلخ. أما أوفرها فضلا على هذه النهضة المباركة - وإن كان الفضل للمتقدم - فالكليتان اليسوعية والأميركية، إنهما منبع التجديد والتطعيم، بعد أولئك المهاجرين الذين سبقوا مولد هذه الكليات في الشرق.
وقد أدى نشوء مثل هذه المدارس الكبرى إلى إنشاء جمعيات أدبية كثيرة، فتعاضدت عناصر عديدة كالتمشرق والتمغرب، فخلقت هذه النهضة الميمونة فكان لنا أدب جديد. ولسنا نعدو الحق إذا قلنا إن كتب الأب لويس شيخو اليسوعي نحلة، والسرياني نبعة، والعربي لسانا، قد كان لها أبيض يد على هذا التوجيه، فهو واضع أول دفتر من روائع الأستاذ فؤاد أفرام البستاني، وعلى أثره تمشى، وشيخو - أيضا - هو واضع مجاني الأدب، أول مجموعة من المختارات الأدبية، على النسق الغربي، مع المحافظة على التبويب العربي. وسيأتي الكلام عن هذا الرجل وآثاره الجليلة النفيسة.
لقد كان التنافس الديني الأجنبي في لبنان من أهم بواعث هذه النهضة الحديثة، وحسبك دليلا عليها تلك الكلمة المأثورة عن فنديك: «رايح أفتح مدرستين.» يعني أنه متى أنشأ مدرسة بروتستانتية ينشئ اليسوعيون مدرسة كاثوليكية، كما أنشئوا البشير قبالة النشرة الأسبوعية، والمطبعة الكاثوليكية بإزاء المطبعة الأميركية. كل هذا كان يجري والمسلمون جامدون، ينظرون إلى هذه المدارس الأجنبية بحذر، وإلى هذا التجديد في التفكير والتعبير بتحفظ، ولكنهم لم يلبثوا أن جروا - أخيرا - في الميدان، مقتدين بالغزالي حين بل يده بقائم سيف المنطق، وانبرى للمعتزلة.
ولا ننسى معرفة اللغات الأجنبية فهي النبع الأغزر الذي روى تربة النهضة فنمت فروعها، ونضرت غصونها. عرف قدماء «الرواد» الطليانية التي خلقت النهضة الأدبية الفرنسية، ولكنهم كانوا منصرفين عن الأدب إلى ما هو ديني، فعربوا ما يتصل بالدين دون غيره، ثم ترجموا إلى اللغات الأجنبية بعض الآثار العربية.
إن معرفة اللغات الأجنبية والتضلع من السريانية كان لهما هذا الأثر الأبعد في تعبير هؤلاء، فجاء مميزا من تعبير أصحاب اللغة الواحدة. كان هؤلاء كما قال النابغة في مدح الغساسنة: عصائب طير تهتدي بعصائب، فما وقفوا عند حد، بل تنافسوا في كل فن ومطلب، ولم يتركوا بابا من أبواب العلم إلا طرقوه. لقد فعلوا كما فعل مشايخنا الخوازنة في زمن الإقطاع، فملئوا كسروان ديورة لمختلف الأمم والنحل. كان إذا وقف شيخ منهم عقارا على رهبان طائفة، وقف شيخ آخر شطرا مما يملك على رهبان طائفة أخرى، وهكذا صارت المقاطعة الكسروانية كعلية صهيون، حين فاجأ البارقليط التلاميذ فيها، فنطقوا بألسن عديدة ...
أما النسخ، وقد كان مدرسة ثانية للناسخين، فلم ينقطع؛ إذ لا يزال عندنا كتب لم تطبع، كالسنكسار - سير القديسين - ففي نسخ هذا الكتاب كان يتبارى النساخ في إضافة عجائب ومعجزات إلى قديسين يحبونهم. خذ مثلا، مار روحانا - شفيع قريتنا - فهذا القديس لا يعرف بهذا الاسم في السنكسار العام، ولكنه لم يعدم من كتب له سنكسارا خاصا، فضمنه من العجائب أبعدها مدى، ومن المعجزات أغربها؛ زعم الناسخ أن قديسنا المكرم أنقذ غلامين من أسد كاد يفترسهما، وجاء المصور - فيما بعد - فرسم نهرا كبيرا بين الغلامين، وصور الأسد مقعيا عبر النهر، ينظر إلى فريستيه بعين محمرة ... فعل المصور ذلك؛ لتستسيغ معد المؤمنين العجيبة، ولكن تعليله لها زاد في الطين بلة. أما كان في مكنة القديس المعظم - وهو صاحب القدرة - أن يكم فم الأسد، مثلا، ولا يصدع خاطره في إجراء نهر لا بد أن يكون كنهر العاصي؛ كيلا يقطعه ذاك الأسد. إذا كان في استطاعة أولياء الله أن يشفوا المريض بوضع اليد، فأية حاجة إلى الدمل الاصطناعي ... ثم شاءت العاصفة، بعد سنين، فحطت الصورة من عل، فصورت ثانية مستعيدة بساطتها.
هذه بعض آفات النسخ، ولا ننس الأخطاء والتحريف والتصحيف. لقد انبرى اليوم للتصحيح والتمحيص علماء مختصون فأصلحوا ما أفسدته يد النساخ، ولكن النسخ - في كل حال - قد كان من عناصر النهضة الحاضرة، شارك في إنمائها مشاركة مثلى؛ فحفظ آثارا كثيرة من الضياع، كما طبع الكثيرين من الرواد على غرار البلغاء الذين كانوا ينسخون كتبهم.
وقصارى القول أن الضعيف المقهور يلجأ إما إلى بيت مهجور، أو إلى كهف، وهذا ما أصاب اللغة العربية في بدء نهضتنا، هربت من وجه طغيان التركية، فآووها في الديورة، فصح فيها مثل جريح أريحا ...
Página desconocida