Rules of Idtiba and Raml in Tawaf
أحكام الاضطباع والرمل في الطواف
Editorial
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
Número de edición
السنة السادسة والثلاثون العدد (١١٢) ١٤٢٤هـ/٢٠٠٤م
Géneros
المقدمة
الحمد لله الذي وعد المحسنين بجزيل الإنعام، والصلاة والسلام على أفضل من صلى وقام، وحج وصام، وطاف بالبيت الحرام. أما بعد:
فقد كتبت - بفضل الله وتوفيقه - بحوثًا عدّة حول الطواف، نُشرت - بحمد الله وتوفيقه - في مجلة البحوث الإسلامية، التابعة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء. فرأيت من المناسب أن أستكمل جوانب الموضوع، فأتناول السنن والمستحبات. ولم أر ما يمنع تجزئة الكتابة فيها، ليكون أيسر للإنجاز، وأدعى لمواصلة العمل حسب الطاقة والجهد.
وابتدأت ذلك بالاضطباع، لأنه أول السنن التي يقوم بها من أراد الشروع في الطواف. قال ابن الهمام: «وينبغي أن يضطبع قبل الشروع في الطواف بقليل» (١) . وقَرَنْت معه الرمل، لاشتراكهما في كثير من الأحكام.
والله أسأل أن يُعين على الإتمام، وأن يُهيأ الأسباب لبحث بقية الجوانب الأخرى المتعلقة بالطواف. وقد سميته بـ: (أحكام الاضطباع والرمل في الطواف)
* خطة البحث:
قسمت البحث إلى مقدمة، وتمهيد، وسبعة مطالب، وخاتمة.
أما المقدمة: فقد ضمنتها: الافتتاحية، وأهمية الموضوع، وخطته، ومنهجه.
وأما التمهيد: فأوضحت فيه علاقة الرمل بالاضطباع، وما بينهما من ارتباط في الأحكام.
وأما المطالب: فهي على النحو التالي:
_________
(١) فتح القدير ٢/٤٥٢.
1 / 221
المطلب الأول: تعريف الاضطباع والرمل.
المطلب الثاني: دليل مشروعية الاضطباع والرمل.
المطلب الثالث: الحكمة من مشروعية الاضطباع والرمل.
المطلب الرابع: حكم الاضطباع والرمل.
المطلب الخامس: وقت الاضطباع والرمل.
المطلب السادس: الطواف الذي يُشرع فيه الاضطباع والرمل،
المطلب السابع: من يُشرع له الاضطباع والرمل.
وأما الخاتمة: فضمنتها خلاصة البحث، وما توصلت إليه من نتائج.
* منهج البحث:
سلكت في كتابة هذا البحث، وجمع مادته العلمية، المنهج التالي:
١. جمعت المادة العلمية من مصادرها المعتمدة، سواء أكانت من الفقه العام، أم من فقه المناسك.
٢. رقّمت الآيات القرآنية الواردة، وعزوتها إلى سورها.
٣. خرّجت الأحاديث النبوية، وآثار الصحابة (.فإن كانت في الصحيحين، أو أحدهما اكتفيت بتخريجه منهما، وإن كان في غيرهما، اجتهدت في تخريجه من كتب السنة المعتمدة، وبيان درجته صحة، أو ضعفًا، مستعينًا في ذلك - بعد الله - بأقوال علماء الحديث قديمًا وحديثًا.
عند تخريج الحديث أشير إلى اسم الكتاب والباب، وإلى ما يُحدد ذلك من أرقام. فأقول مثلًا: «أخرجه البخاري في اللباس، باب اشتمال الصماء (٢٠) (٧/٤٢) وأعني بذلك: أن البخاري أخرجه في كتابه الجامع الصحيح. في كتاب اللباس، باب اشتمال الصماء. ورقم الباب عشرون. وإذا كان الرقم بعد الجزء والصفحة، فهو لبيان رقم الحديث. وأكتفي أحيانًا بذكر رقم الحديث، كما في الإشارة إلى سنن ابن ماجة، أو ما أورده
1 / 222
١. الألباني في كتبه. وأكتفي حينًا آخر، بذكر رقم الجزء والصفحة، كما في الإشارة إلى مستدرك الحاكم على الصحيحين، والسنن الكبرى للبيهقي. وهذا الاختلاف في الإحالات يرجع إلى مناسبة ذلك للكتاب الحال إليه.
٢. رجعت إلى «مسند الإمام أحمد» الموسوعة الحديثية، لبيان درجة الحديث صحة، أو ضعفًا، ونبّهت على ذلك بقولي: «في التعليق على المسند» .
٣. وثّقت الأقوال من مصادرها الأصلية. وذلك بالرجوع في كل مذهب إلى كتبه المعتمدة. وأنقل من مصدر واحد، أو أكثر في كل مذهب ما يؤكد صحة ما عزوته لتلك المذاهب. وإن كان في هذا الصنيع نوع تطويل، أو إثقالٍ للحواشي، إلا أن الذي دفعني إليه ما رأيته من وقوع كثير من الباحثين في أخطاء، وأوهام في العزو والنسبة، أو النقل والتوثيق.
٤. نبّهت على الرواية المشهورة، أو المعتمدة في المذهب، بالرجوع إلى المصادر المعنية في ذلك من كل مذهب.
٥. شرحت الكلمات الغريبة، والمصطلحات العلمية، إذا اقتضى الأمر ذلك. ولم أتكلف شرح الواضحات لذوي الاختصاص.
٦. أغفلت الترجمة للأعلام، مراعاة للاختصار.
وأسأل الله العلي العظيم بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، أن يوفقني إلى السداد، ويلهمني الرشد والصواب.
وأن يجعل عملي خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله ذُخرًا لي يوم الدين. وأن يغفر لي ولوالدي، ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين. إنه ولي ذلك، والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 / 223
التمهيد: علاقة الرمل بالاضطباع
الاضطباع والرمل في الطواف فعلان مترابطان، يُشرعان معًا، وأحكامهما، وأدلتهما متقاربة. ولذا فإن كثيرًا من العلماء يصرِّحون بهذا التلازم، والترابط بينهما.
قال النووي: «قال أصحابنا: الاضطباع ملازم للرمل (١) . فحيث استحببنا الرمل بلا خلاف، فكذا الاضطباع، وحيث لم نستحبه بلا خلاف، فكذا الاضطباع، وحيث جرى خلاف، جرى في الرمل والاضطباع جميعًا. وهذا لا خلاف فيه» (٢) .
وقال البهوتي: «ومن لا يُشرع له الرمل، لا يُشرع له الاضطباع» (٣) .
ومن هنا كانت مناسبة الحديث عنهما، والتعرف على أحكامها في آن واحد، لاتحاد أدلتهما غالبًا، واشتراكهما في كثير من الأحكام والمسائل. ولا يعني هذا التلازم والترابط بينهما أنه إذا تُرك أحدهما لعذر أو غيره، تُرك الآخر. قال الإمام الشافعي: «فإذا طاف الرجل ماشيًا، لا علة به تمنعه الرمل، لم أُحِب أن يدع الاضطباع مع دخوله الطواف» (٤) . وقال الماوردي: «فإن ترك الرمل لعلة، اضطبع. وإن ترك الاضطباع لجرح به، رمل» (٥) .
_________
(١) تنبيه: جاء في رحلة الصديق إلى البيت العتيق، لصديق حسن خان ص٩١: «قال الشافعية: هو - أي: الاضطباع - في طواف ليس فيه رمل» فهذا إما أن يكون خطأً مطبعيًا، وإما سبق قلم.
(٢) المجموع ٨/٤٣.
(٣) كشاف القناع ٢/٥٥٨.
(٤) الأم ٢/١٧٤.
(٥) الحاوي للماوردي ٤/ ١٤١.
1 / 224
المطلب الأول: تعريف الاضطباع والرمل
قبل الشروع في بيان أدلة مشروعية الاضطباع والرمل، ومعرفة الحكمة من مشروعيتهما، وأحكامهما. يحسن البدء بتعريفهما، والتعرف على حقيقتهما. وسأعرض لتعريف كلٍ منهما في فرع مستقل.
* الفرع الأول: تعريف الاضطباع (١) .
الاضطباع، افتعال من الضَّبْع بإسكان الباء، وهو العَضُد. وقيل: النِّصف الأعلى من العضد. وقيل: منتصف العضد. وقيل: الإبط. قال ابن فارس: اشتقاقها من ضَبْع اليد، وهو المد. والجمع أضْبَاع، كفرخ وأفراخ. والْمَضْبَعَة: اللحمة تحت الإبط من قُدُم. وقال الجوهري: يقال للإبط: الضَّبْع، للمجاورة.
والضَّبْع والضِّبَاع: رفع اليدين في الدعاء.
والضَّبُع: بضم الباء الموحدة، وسكونها، أخبث السِّباع. ويُجمع الضَّبُع على ضِبَاع، والضَّبْع على أَضْبُع. والضَّبُع: السَّنَة الْمُجْدِبَة. ومنه قول عباس بن مرداس:
با خُرَاشَةَ أَمَّا أنت ذا نَفَرٍ ... أفإنَّ قَومي لم تأكُلْهُمُ الضَّبُعُ
وضَبَعَت الناقة تَضْبَع ضَبْعًا وضَبَعَةً: إذا أرادت الفحل.
قال ابن فارس: «الضاد، والباء، والعين، أصل صحيح، يدل على معان ثلاثة: أحدها: جنس الحيوان. والآخر: عضو من أعضاء الإنسان. والثالث
_________
(١) انظر في معنى الاضطباع: معجم مقاييس اللغة ٣/٣٨٧، الصحاح ٣/١٢٤٧، القاموس المحيط ص ٩٥٦، لسان العرب ٨/٢١٦، المعرّب ص ٢٧٩، المصباح المنير ٢/٣٥٧، النهاية في غريب الحديث ٣/٧٣، تحرير ألفاظ التنبيه ص ١٥٠. مادة: ضبع.
1 / 225
صفة من صفة النُّوق» (١) .
واضطبع الشيء: أدخله تحت ضَبْعَيه. ويُقال للاضطباع أيضًا: التَّأبُّط، والتَّوشُّح. ويُقال له أيضًا: اليابطة، لأنه يجعل وسط الرداء تحت الإبط، ويُبدي ضبعه الأيمن.
وأصله: اضتباع. وإنما قُلِبت التاء طاء، لمجاورة حرف الاستعلاء، كما يُقال: اضطباع، واصطياد، واضطرار، واضطهاد.
والاضطباع في الصلاة: اشتمال الصماء. وقد جاء ذلك مفسرًا في حديث أبي سعيد (: «نهى رسول الله (عن لبْستين، وعن بيعتين» الحديث. وفيه: «واللبستين: اشتمال الصماء، والصماء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه، فيبدو أحد شِقيَّيْه ليس عليه ثوب..» (٢) .
والاضطباع في الطواف: أن يجعل وسط ردائه من تحت إبطه الأيمن، ويُغطي به عاتقه الأيسر. ويكون المنكب الأيمن مكشوفًا. سُمِّي به لإبداء أحد الضَّبْعَيْن.
قال الإمام الشافعي: «الاضطباع أن يشتمل بردائه على منكبه الأيسر، ومن تحت منكبه الأيمن، حتى يكون منكبه الأيمن بارزًا» (٣) . وقال في إرشاد الساري: «أي: على هيئة أرباب الشَّجَاعة، إظهارًا للجلادة في ميدان العبادة» (٤) .
_________
(١) معجم مقاييس اللغة ٣/٣٨٧.
(٢) أخرجه البخاري في اللباس، باب اشتمال الصماء (٢٠) ٧/٤٢. وانظر: التمهيد ٢١/ ١٦٩، ١٧٠، المبدع ١/٣٧٥.
(٣) الأم ٢/١٧٤. وانظر: مختصر المزني مع الحاوي ٤/١٣٩.
(٤) ص ٨٨. وانظر: مفيد الأنام ص ٢٣٨.
1 / 226
* الفرع الثاني: تعريف الرَّمَل (١) .
الرَّمَل، بفتح الراء والميم، سُرْعة المشي. قال ابن الأثير: «يُقال: رَمَل يَرْمُل - بضم الميم - رَمَلًا ورَمَلانًا، إذا أسرع في المشي وهزَّ منكبيه» (٢) .
ورَمَل الحصير يَرْمُلُه رَمْلًا، ورَمَّلَه، وأَرْمَلَه، إذا سَخَّف نَسْجَه. والرُّمَال ما رُمِل. أي: نُسِج. قال الزمخشري: «ونظيره الْحُطَام، والرُّكَام، لما حُطِم ورُكِم» (٣) .
والرَّمَل: القليل الضعيف من المطر، وجمعه أرمال. وترمَّل القتيل بدمه، إذا تلطَّخ.
والرَّمَل من الشَّعْر، كل شَعْر مهزول غير مؤْتَلِف البناء.
والمُرْمِل: الذي لا زاد معه، سُمِّي بذلك لأحد شيئين: إما لرِقَّة حاله، وإمِّا لِلُصوقه بالرَّمْل من فقره. كما يُقال: للفقير: التَّرِب. وأرمَل القوم، نَفِد زادهم.
وأَرْمَلَت المرأة: إذا مات زوجها. فهي أرْمَلَة. سُمِّيت بذلك لذهاب زادها، وفقد كاسبها.
ورجل أرمل، وامرأة أرْمَلَة: محتاجة. والأرامل يقع على الذكور
_________
(١) انظر في معنى الرمل: معجم مقاييس اللغة ٢/٤٤٢، الصحاح ٤/١٧١٣، لسان العرب ١١/٢٩٤، المعرّب ص ١٩٨، غريب الحديث لأبي عبيد ٤/٤١٥، الفائق ٢/٨٣، النهاية في غريب الحديث ٢/٢٦٥، تحرير ألفاظ التنبيه ص ١٥٠. مادة: رمل.
وانظر أيضًا: المبسوط ٤/١٠، الهداية ٢/٤٥٣، طلبة الطلبة ص٦٨، تحرير ألفظ التنبيه ص ١٥٢، التعريفات ص ١١٢، المجموع ٨/٤٠، شرح النووي على صحيح مسلم ٨/١٧٥، إيضاح المناسك ص ٦.
(٢) النهاية في غريب الحديث ٢/٢٦٥.
(٣) الفائق ٢/٨٣.
1 / 227
والنساء. قال ابن منظور: ولا يُقال للمرأة التي لا زوج لها، وهي موسرة، أرملة. قال جرير:
هذي الأرامل قد قضَّيْت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
والأرْمَل من الشاء: الذي اسودَّت قوائمه كلها.
والرَّمْل: نوع من التراب. وجمعه رِمَال. قال الجوهري: «الرَّمْل واحد الرِّمَال، والرَّمْلَة أخص منه» (١) . ورمَّل الطعام: جعل فيه الرَّمْل.
وقال ابن فارس: «الراء، والميم، واللام، أصل يدل على رِقَّة في شيء يتضام بعضه إلى بعض» (٢) .
والرَّمَل في الطواف: الإسْرَاع في المشي مع تقارب الْخُطى (٣)، من غير
_________
(١) الصحاح للجوهري ٤/١٧١٣.
(٢) معجم مقاييس اللغة ٢/٤٤٢.
(٣) تنبيه: هكذا عرّف عامة العلماء الرمل: بأنه الإسراع في المشي..، وأما ابن نجيم من الحنفية فقد أورد تعريفًا آخر عزاه لصاحب الهداية، فقال: (والرمل كما في الهداية: أن يهز في مشيته الكتفين، كالمبارز يتبختر بين الصفين. وقيل: هو إسراع مع تقارب الخطى، دون الوثوب والعدو) البحر الرائق ٢/٣٥٥. وانظر: الهداية مع فتح القدير ٢/٤٥٣.
وتعريف صاحب الهداية قريب من تعريف صاحب المبسوط، إذ عرّفه السرخسي بقوله: (الرمل هو: الاضطباع، وهزّ الكتفين. وهو أن يُدخل أحد جانبي ردائه تحت إبطه ويلقيه على المنكب الآخر، ويهز الكتفين في مشيه، كالمبارز الذي يتبختر بين الصفين) . المبسوط ٤/١٠.
وأما قاضيخان فلم يُشر إلى المشي مطلقًا في تعريفه للرمل. فقال ١/٢٩٢: (يرمل في الثلاثة الأول. يعني: يهز كتفيه، ويُري من نفسه القوة والجلادة. ويمشي على هينته في الأربع) .
والذي يظهر لي: أنه ليس بين هذه التعاريف تعارض. فمراد من أطلق المشي، أو أغفل ذكره، أن يكون مشيًا فيه سرعة. ولذلك قيّد بعض الحنفية المشي بقيود فيها معنى الإسراع. فقال ابن الهمام في فتح القدير ٢/٤٦٢: (الرمل في الطواف إنما هو مشي فيه شدّة وتصلب) . وقال في الدر المختار ٢/٤٩٨: (ورمل. أي: مشى بسرعة مع تقارب الخطى، وهز الكتفين) . ونحو ذلك في حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص٤٧٩. وفي الفتاوى الهندية ١/٢٢٦: (الرمل: أن يُسرع في المشي ويهز كتفيه، شبه المبارز يتبختر بين الصفين) .
فاقتصار العظيم آبادي في تعريف الرمل عند الحنفية على ما ذكره صاحب الهداية، لا يخلو من قصور. انظر: عون المعبود ٥/٢٣٦.
1 / 228
وثْبٍ ولا عَدْوٍ (١)، ويهز الكتفين في مشيه، كالمبارز الذي يتبختر بين الصفين. وهو: الْخَبَب (٢) . قال ابن عبد البر: «وأما الرَّمَل، فهو المشي خببًا، يشتد فيه، دون الهرولة (٣) .
_________
(١) تنبيه: قال خليل في منسكه ص ٦٩: (وليحذر مما يفعله بعضهم من الجري في طواف القدوم. فإن الرمل المسنون أن يهز منكبيه، ويُسرع في مشيه دون الجري) .
(٢) الخبب: ضرب من العَدْو. قال النووي: هو الرمل. وقال الشافعي: (الرمل: هو الخبب. لا شدة السعي) انظر: مختصر المزني ٤/١٤٠.وقال: (ولا أحب أن يثب من الأرض وثبًا) الأم ٢/١٧٤. وانظر: النهاية ٢/٣، التمهيد ٢/٧٠، شرح النووي على صحيح مسلم ٩/٧.
(٣) تنبيه: وَصَف ابن عبد البر الرمل بأنه: (دون الهرولة) ومراده بالهرولة: العدو. وخالفه في ذلك آخرون، فوصفوا الرمل بالهرولة. كالجوهري، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وأبو الحسن المالكي. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والرمل مثل الهرولة، وهو مسارعة المشي مع تقارب الخطى) . مجموع الفتاوى ٢٦/١٢٢. وقال أبو الحسن المالكي في كفاية الطالب ١/٦٦٧: (الخبب، الرمل، وهو الهرولة. فوق المشي، ودون الجري) . وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح إلى عمر بن عبد العزيز:» أنه كان يهرول في الطواف «انظر: هداية السالك ٢/٧٩٦. وتوسط ابن دريد بين الرأيين، فقال: (هو شبيه بالهرولة، وأصله أن يُحرك الماشي منكبيه في مشيه) . انظر: شرح الزرقاني على الموطأ ٢/٤٠٣.
والذي يظهر لي: أنه لا تعارض بينهم. إذ الجميع متفقون على أن الرمل ليس عدوًا سريعًا، أو سعيًا شديدًا. قال الماوردي في الحاوي ٤/١٤٠: (أما الرمل فهو: الخبب. فوق المشي، ودون السعي) . وقد نبّه الزركشي على ذلك في شرحه ٢/١٩٢. فقال: (تنبيه: الرمل. قال الجوهري: الهرولة. وقال الأزهري: الإسراع، وفسّر الأصحاب الرمل: بإسراع المشي، مع تقارب الخطى من غير وثب) .
1 / 229
وهيأته أن يُحرك منكبيه لشدة الحركة في مشيه» (١) . قال صديق خان: «ومعنى الرمل: الإسراع في المشي مع تقارب الخطى. وهو دون العدو، وفوق المشي المعتاد. ولا يعدو، كما يفعل العوام» (٢) .
_________
(١) الاستذكار ١٢/١٢٦.
(٢) رحلة الصديق ص ٩٢. وقال النووي في المجموع ٨/٤٥: (قال المتولي: تكره المبالغة في الإسراع في الرمل. بل يرمل على العادة، لحديث جابر) .
1 / 230
المطلب الثاني: دليل مشروعية الاضطباع والرمل
دلّ على مشروعية الاضطباع والرمل في الطواف أحاديث كثيرة، منها:
١- عن ابن عباس (: «أن رسول الله (وأصحابه اعتمروا من جِعْرَانَة (١)، فاضطبعوا، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، ووضعوها على عواتقهم، ثم رملوا» وفي لفظ: «وقذفوها على عواتقهم اليسرى» (٢) .
٢- وعن يَعْلَى بن أمية (: «أن النبي (طاف بالبيت مضطبعًا وعليه بُرْد» (٣) .
_________
(١) الجعرانة: موضع بين مكة والطائف. وهي على سبعة أميال من مكة. وهي بالتخفيف. قال ابن المديني: العراقيون يُثَقِّلُون (الجعرانة، والحديبية) والحجازيون يخففونهما، فأخذ به المحدثون. وقال الشافعي: المحدثون يخطئون في تشديدها. وكذلك قال الخطابي. قال البلادي: لا زالت تُعرف في رأس وادي سَرِف، حين تعلقه في الشمال الشرقي من مكة.
انظر: المصباح المنير ١/١٠٢، معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية ص ٨٣.
(٢) أخرجه أحمد ١/٣٧١، واللفظ له. وبنحوه ١/٣٠٦، وأبو داود في المناسك، باب الاضطباع في الطواف ٢/١٧٧ (١٨٨٤)، والبيهقي ٥/٧٩، بإسناد صحيح على شرط مسلم. انظر: نصب الراية ٣/٤٣، هداية السالك ٢/٨٠٦، الإرواء ٤/٢٩٢، التعليق على المسند ٥/٤٥٩.
(٣) أخرجه الترمذي في الحج، باب ما جاء أن النبي (طاف مضطبعًا ٢/١٧٥ (٨٦١)، والبيهقي ٥/٧٩، من طريق قبيصة عن الثوري. وقال: هذا حديث الثوري عن ابن جريج، لا نعرفه إلا من حديثه، وهو حديث حسن صحيح، والدارمي ٢/٤٣ من طريق يوسف عنه دون زيادة» وعليه برد «، وابن ماجة (٢٩٥٤) من الطريقين. ونبّه على أن الزيادة من طريق قبيصة. وأبو داود، باب الاضطباع في الطواف ٢/١٧٧ (١٨٨٣)، والبيهقي ٥/٧٩ من طريق محمد بن كثير عنه بلفظ:» .. ببرد أخضر «، وأحمد ٤/٢٢٣، ٢٢٤، من طريق وكيع بلفظ:» ببرد حضرمي «ومن طريق عمر بن هارون ٤/٢٢٣ بلفظ:» رأيت النبي (مضطبعًا بين الصفا والمروة ببرد له نجراني «. ومن طريق عبد الله ابن الوليد ٤/٢٢٢ بلفظ:» رأيت النبي (مضطبعًا برداء حضرمي «، كلهم كما قال الترمذي: من طريق الثوري عن ابن جريج عن عبد الحميد بن جبير، عن ابن يعلى عن أبيه. إلا أن ابن جريج يدلسه عن ابن يعلى مرة، ويرويه عن رجل مبهم عن ابن يعلى مرة أخرى. قال في التعليق على المسند ٢٩/٤٧٣: إسناده قوي.
1 / 231
١- وعن ابن عمر (: «أن رسول الله (كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول خبَّ ثلاثًا، ومشى أربعًا..وكان ابن عمر يفعل ذلك» (١) .
٢- وعن جابر (في وصف حجة النبي (وفيه: «.. حتى إذا أتينا البيت معه استلم الرُّكن، فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم» الحديث (٢) .
٣- وعن أسلم مولى عمر بن الخطاب (قال: سمعت عمر (يقول: «فيمَ الرَّمَلان (٣) الآن، والكشف عن المناكب، وقد أطَّأ الله (٤) الإسلام، ونفى الكفر وأهله؟ ومع ذلك لا ندع شيئًا كنا نفعله على عهد رسول الله (» (٥) .
_________
(١) متفق عليه. أخرجه البخاري في الحج، باب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة (٨٠) ٢/ ١٧٠، ومسلم في الحج، باب استحباب الرمل في الطواف ٩/٦.
(٢) أخرجه مسلم في الحج، باب حجة النبي (٨/١٧٤.
(٣) الرَّمَلان: قيل: تثنية الرمل. والمراد: الرمل في الطواف، والسعي بين الصفا والمروة. قال ابن الأثير: وهو قول غريب حكاه الحربي، وقال: الرملان مصدر. والمصدر يكثر مجيئه على هذا الوجه في أنواع الحركة، كالنَّزَوان، والنَّسَلان، والرَّسَفان وأشباه ذلك. ويؤيد ذلك أن عمر (أراد الرَّمل الذي أمر به النبي (في عمرة القضية، ليُري المشركين جَلَدهم، لما وهنتهم حمّى يثرب. أما السعي بين الصفا والمروة، فهو شعار قديم، من عهد هاجر أم إسماعيل ﵇. فإذن المراد بقول عمر: رملان الطواف وحده. قال محب الدين الطبري: وكذلك شرحه أهل العلم. لا خلاف بينهم فيه. فليس للتثنية فيه وجه. والله أعلم.
انظر: النهاية ٢/٢٦٥، ٢٦٦، القِرى ص ٣٠١، ٣٠٢.
(٤) أطَّأ الله، بتشديد الطاء. أي: أثبته وأحكمه. أصله وطىء، فأبدلت الواو همزة، كما في وقتت، وأقتت. وقال الخطابي: إنما هو وطأ. أي: ثبته وأرساه. والواو قد تبدل ألفًا. ونحوه قاله ابن الأثير. انظر: معالم السنن ٢/١٩٥، النهاية ١/٥٣، عون المعبود ٥/٢٣٩.
(٥) أخرجه أحمد ١/٤٥، وأبو داود، باب الرمل ٢/١٧٨ (١٨٨٧)، وابن ماجة (٢٩٥٢)، وابن خزيمة (٢٧٠٨)، والحاكم ١/٤٥٤، وقال: صحيح على شرط مسلم، وأبو يعلى (١٨٨)، والبيهقي ٥/٧٩. كلهم من طريق هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم عن أبيه. قال النووي في المجموع ٨/١٩: رواه البيهقي بإسناد صحيح. وقال في التعليق على المسند: صحيح لغيره، وهذا إسناد حسن، ورجاله ثقات، رجال الشيخين، غير همام بن سعد، فمن رجال مسلم. وهو حسن الحديث. وأخرجه البخاري في المناسك، باب الرمل في الحج والعمرة (٥٧) ٢/١٦١ من طريق محمد بن جعفر، عن زيد بن أسلم بلفظ:» ..ما لنا وللرمل؟ إنما كنا راءينا به المشركين، وقد أهلكهم الله. ثم قال: شيء صنعه النبي (فلا نحب أن نتركه «.
1 / 232
المطلب الثالث: الحكمة من مشروعية الاضطباع والرمل
الأصل في مشروعية الاضطباع والرمل: أن المشركين قالوا - قبل دخول النبي (وأصحابه (مكة في عمرة القضية سنة سبع ـ: إنه يقدم عليكم غدًا قوم قد وَهَنَتْهُم الْحُمَّى، ولقوا منها شدّة، فجلسوا مما يلي الحِجْر. وأمر النبي (أصحابه (أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين، ليرى المشركون جَلَدَهم. فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم. هؤلاء أجلد من كذا وكذا. قال ابن عباس (: ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبْقَاء عليهم» (١) .
فرملوا واضطبعوا ليرى المشركون قُوَّتهم بالرمل، وصحة أبدانهم بالاضطباع. قال ابن عباس (: «إنما سعى رسول الله (ورمل بالبيت، ليُرِي المشركين قوَّته» (٢) .
وعنه (قال: قال النبي (لأصحابه حين أرادوا دخول مكة في عمرته
_________
(١) متفق عليه من حديث ابن عباس (. أخرجه البخاري في الحج، باب كيف كان بدء الرمل (٥٥) ٢/١٦١ مختصرًا، ومسلم في الحج، باب استحباب الرمل في الطواف ٩/١٢ مع شرح النووي.
(٢) أخرجه مسلم ٩/١٣.
1 / 233
بعد الحديبية: «ثم إن قومكم غدًا سيرونكم، فليروكم جُلْدًا» . فلما دخلوا المسجد استلموا الركن ثم رملوا، والنبي (معهم حتى إذا بلغوا إلى الركن اليماني مشوا إلى الركن الأسود، ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم مشى الأربع» (١) . وفي لفظ «أن النبي (اضطبع فاستلم وكبّر، ثم رمل ثلاثة أطواف، وكانوا إذا بلغوا الركن اليماني وتغيّبوا من قريش مشوا، ثم يطلعون عليهم يرملون. تقول قريش: كأنهم الغزلان. قال ابن عباس: فكانت سنة» (٢) . قال الشوكاني: «والحكمة في فعله - أي: الاضطباع - أنه يُعين على إسراع المشي» (٣) .
ثم استمر النبي (يرمل بعد ذلك في عُمَرِه وحجته، فرمل في طوافه أول قدومه مكة في حجة الوداع من الْحَجَر إلى الْحَجَر ثلاثًا، ومشى أربعًا. فاستقرّت سُنَّة الرمل والاضطباع. فعن ابن عمر (: «أن رسول الله (كان إذا طاف في الحج أو العمرة أوّل ما يقدم، سعى ثلاثة أطواف، ومشى أربعة، ثم سجد سجدتين، ثم يطوف بين الصفا والمروة» (٤) . وعنه (قال: «رمل رسول الله (من الْحَجَر إلى الْحَجَر ثلاثًا، ومشى أربعًا» (٥) . وقال عمر (: «مالنا والرمل
_________
(١) أخرجه أحمد ١/٣١٤، وابن ماجة (٢٩٥٣)، وابن حبان كما في الإحسان (٣٨١٤) كلهم من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن خثيم، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس به. قال في التعليق على المسند ٥/٥٩: إسناده قوي على شرط مسلم. رجاله ثقات، رجال الشيخين، غير ابن خثيم، فمن رجال مسلم.
(٢) أخرجه أبو داود في المناسك، باب في الرمل ٢/١٧٩ (١٨٨٩) من طريق الأنباري، عن يحيى بن سليم، عن ابن خيثم. قال ابن جماعة في هداية السالك: إسناد لا بأس به ٢/٨٠٢.
(٣) نيل الأوطار ٥/١١١.
(٤) متفق عليه. أخرجه البخاري في الحج، باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة (٦٣) ٢/١٦٣، ومسلم باب استحباب الرمل ٩/٧. وأخرج البخاري نحوه في الرمل في الحج والعمرة (٥٧) ٢/١٦١ بلفظ:» سعى النبي (ثلاثة أشواط ومشى أربعة في الحج والعمرة «.
(٥) أخرجه مسلم في الحج، باب استحباب الرمل ٩/٩.
1 / 234
إنما كنا راءينا به المشركين، وقد أهلكهم الله؟ ثم قال: شيء صنعه النبي (فلا نُحب أن نتركه» (١) .
قال ابن تيمية: «إن العبادة قد تُشرع أولًا لسبب ثم يزول ذلك ويجعلها الله سبحانه عبادة وقربة، كما قد رُوي في: الرمل والاضطباع، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار» (٢) .
وقال بعض العلماء: إن الحكمة في بقاء مشروعيته بعد زوال العلة، تَذَكُّر ما أنعم الله تعالى به على المسلمين من العِزِّ والكثرة بعد القلة، والقوة بعد الضعف، فيكون ذلك باعثًا على الانقياد، ويحصل به تعظيم الأولين، لما كانوا عليه من احتمال المشاق في امتثال أمر الله تعالى، والمبادرة عليه، وبذل الأنفس فيه (٣) .
_________
(١) أخرجه البخاري في الحج، باب الرمل في الحج والعمرة (٥٧) ٢/١٦١.
(٢) شرح العمدة ٣/٤٢٢. وقال الخطابي في معالم السنن ١/١٩٤: (فيه دليل على أن النبي (قد يَسُن الشيء لمعنى، فيزول وتبقى السنة على حالها) . وقال المحب الطبري: (وقد يحدث شيء من أمر الدين لسبب، ثم يزول السبب ولا يزول حكمه، كالعرايا، والاغتسال للجمعة ونحو ذلك) القِرى ص ٣٠٢.
(٣) انظر: هداية السالك ٢/٨٠٣، إعانة الطالبين ٢/٢٩٩، عون المعبود ٥/٢٣٩. وقال الحافظ في فتح الباري ٣/٤٧٢: (إن عمر كان همَّ بترك الرمل في الطواف، لأنه عرف سببه، وقد انقضى، فهمّ أن يتركه، لفقد سببه، ثم رجع عن ذلك، لاحتمال أن تكون له حكمة ما اطلع عليها، فرأى الاتباع أولى من طريق المعنى. وأيضًا إن فاعل ذلك إذا فعله تذكر السبب الباعث على ذلك، فيتذكر نعمة الله على إعزاز الإسلام وأهله) .
1 / 235
المطلب الرابع: حكم الاضطباع والرمل
اتفق العلماء – ﵏ – على أنّه (اضطبع ورمل في طوافه، إلا أنهم اختلفوا في بقاء مشروعيتهما بعد زوال سببهما، بتمكن الإسلام وظهوره، وذهاب الشرك وأهله من مكة.
واختلف القائلون بمشروعيتهما في حكمهما، هل هما من شروط الطواف وواجباته، أم من سننه ومندوباته؟ وسأعرض لذلك في الفروع التالية:
* الفرع الأول: مشروعية الاضطباع.
اختلف العلماء ﵏ في بقاء مشروعية الاضطباع في الطواف، على قولين:
القول الأول: إن الاضطباع مشروع، وهو سنة باقية.
وإلى هذا القول ذهب: جمهور العلماء، ومنهم: أصحاب المذاهب الثلاثة: الحنفية، والشافعية، والحنابلة (١) .
القول الثاني: لا يُشرع الاضطباع، وأنه ليس بسنة بعد ذهاب سببه، بظهور الإسلام.
وإلى هذا القول ذهب: المالكية (٢) . وحكى ابن المنذر عن مالك أنه قال:
_________
(١) انظر: المبسوط ٤/١٠، بدائع الصنائع ٢/١٤٧، الهداية ١/١٤٠، حاشية ابن عابدين ٢/٤٩٥، الأم ٢/١٧٤، حلية العلماء ٣/٢٨٤، الحاوي الكبير ٤/١٤٠، الوسيط ٢/٦٤٨، المهذب والمجموع ٨/١٩، إعانة الطالبين ٢/٣٠٠، المغني ٥/٢١٦، فتح الباري ٣/٤٧٢، نيل الأوطار ٥/١١١، عون المعبود ٥/٢٣٦، قال ابن قدامة في المغني: (ويُستحب الاضطباع في طواف القدوم..، وبهذا قال الشافعي، وكثير من أهل العلم) . وقال ابن حجر في فتح الباري: (وهو مستحب عند الجمهور، سوى مالك. قاله ابن المنذر) .
(٢) انظر: البيان والتحصيل٣/٤٤٩، ٤٥٠، المغني ٥/٢١٦، الحاوي ٤/١٤٠، المجموع ٨/٢١، فتح الباري ٣/٤٧٢، نيل الأوطار ٥/١١١، عون المعبود ٥/٢٣٦.
ونقل سند عن مالك أنه قال في الموازية: (ولا يحسر عن منكبيه، ولا يحركهما) . انظر: هداية السالك ٢/٨٠٨، وفي العتبية: (سئل مالك عن حَسْر المحرم عن منكبيه، إذا هو طاف بالبيت الطواف الواجب في الرمل. قال: لا يفعل) . قال ابن رشد- الجد -: (زاد في كتاب ابن المواز، ولا يحركهما. وهذا كما قال. إذ ليس من السنة أن يحسر عن منكبيه، ولا يحركهما بقصد منه إلى ذلك. فإذا انحسر منكباه، أو تحركا لشدة الرمل، فلا بأس به. فقد قيل: إن الرمل هو الخبب الشديد، دون الهرولة. الذي يحرك منكباه لشدته) انظر: العتبية مع البيان.
1 / 236
لا يَعرف الاضطباع، ولا رأيت أحدًا يفعله (١) .
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول، وهم الجمهور، بما يلي:
١- بما سبق ذِكْرُه من الأدلة الثابتة عن النبي (وأصحابه (، وأنهم طافوا مضطبعين. فدل ذلك على مشروعية الاضطباع.
ولم يأت ما يدل على نسخه (٢) .
٢- وعن أسلم مولى عمر بن الخطاب قال: سمعت عمر (يقول: «فيمَ الرَّمَلان الآن، والكشف عن المناكب، وقد أطّأ الله الإسلام، ونفى الكفر وأهله؟ ومع ذلك لا ندع شيئًا كنا نفعله على عهد رسول الله (» (٣) . فدلّ ذلك على بقاء حكم الاضطباع، وفِعْلِه من لدن الصحابة (بعد وفاة النبي (.
_________
(١) انظر: حلية العلماء ٣/٢٨٤.
(٢) قال ابن قدامة: (وقد ثبت بما روينا أن النبي (وأصحابه فعلوه، وقد أمر الله تعالى باتباعه، وقال: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة﴾ [سورة الأحزاب، آية: ٢١] .المغني ٥/٢١٦.
(٣) تقدم تخريجه.
1 / 237
واستدل أصحاب القول الثاني، القائلون بعدم استحبابه، بما يلي:
١- إن رسول الله (إنما فعله وأمر به في عمرة القضية، حين قالت قريش: أما ترون إلى أصحاب محمد قد وعكتهم حمى يثرب. فقال لأصحابه: «ارملوا» . كفعل أهل النشاط والْجَلَد، ليغيظ قريشًا. قال مالك: وهذا السبب قد زال، فيجب أن يزول حكمه (١) .
٢- وبما يُشبه الإجماع على عدم مشروعيته. فقال مالك: «لم أسمع أحدًا من أهل العلم ببلدنا يذكر أن الاضطباع سنة» (٢) .
* الرأي المختار:
لا ريب أن ما ذهب إليه جمهور العلماء في هذه المسألة، وهو أن الاضطباع سنة باقية، ومن مستحبات الطواف، وهو الرأي المختار، لما يلي:
١. إن الأدلة على أن النبي (كان يضطبع في عُمَرِه، بل وفي حجته أيضًا (٣)، نصوص صريحة صحيحة. وقد قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ (٤)، وقال (في حجته: «لتأخذوا عني مناسككم» (٥) .
_________
(١) انظر: الحاوي ٤/١٤٠.
(٢) انظر: المغني ٥/٢١٦، البيان والتحصيل ٣/٤٤٩.
(٣) قال ابن كثير في البداية والنهاية ٥/١٥٧: (فأما الاضطباع في حجة الوداع، فقد قال قبيصة، والفريابي عن خثيم، عن أبي الطفيل، عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة، عن ابن يعلى بن أمية، عن أبيه قال:» رأيت رسول الله (يطوف بالبيت مضطبعًا «رواه الترمذي من حديث الثوري. وقال: حسن صحيح..) .
(٤) سورة الأحزاب، آية: ٢١.
(٥) بهذا اللفظ أورده الفقهاء. وهو جزء من حديث أخرجه مسلم في الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة ٩/٤٤. ولفظه:» .. رأيت النبي (يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول: " لتأخذوا عني مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه".. «الحديث.
1 / 238
١. ثبت أن الصحابة (اضطبعوا بعد وفاة النبي (، كما دلّ على ذلك أثر عمر (.
٢. إن قول ابن عباس (أكثر ما فيه أن سبب الاضطباع والرمل ما ذكره، ولكنهما صارا سنة بذلك السبب، فيبقى بعد زواله، كرمي الجمار سببه رمي الخليل ﵇ الشيطان، ثم بقي بعد زوال ذلك السبب (١) .
٣. ينتقض قول الإمام مالك بعدم مشروعية الاضطباع لزوال سببه، بالرمل، فإنه يقول ببقاء مشروعيته مع زوال سببه (٢) .
٤. إن بقاء السبب ليس بشرط لبقاء الحكم، كالبيع والنكاح وغيرهما (٣) .
٥. إن القول بزوال السبب ممنوع، لأن الحكم يجوز أن يثبت بعلل متعددة. فذهاب بعضها لا يستلزم زوال الحكم، وكون النبي (اضطبع في حجة الوداع بعد ذهاب غلبة المشركين، دليل على بقاء علة أخرى للحكم، كتذكر نعمة الأمن بعد الخوف، ليُشكر الله عليها (٤) .
_________
(١) المبسوط ٤/١٠. وعبّر الكاساني عن ذلك بقوله: (إن النبي (لما رمل بعد زوال ذلك السبب، صار الرمل سنة مبتدأة، فنتبع النبي (في ذلك، وإن كان لا نعقل معناه. وإلى هذا أشار عمر (حين رمل في الطواف) . بدائع الصنائع ٢/١٤٧. وقال الماوردي في الحاوي ٤/١٤٠: (قال الشافعي: رمل مضطبعًا، فقد أخبر بسنته، ثم فعل مثل فعله مع زوال سببه. وأكثر مناسك الحج، كانت لأسباب زالت، وهي باقية) .
(٢) انظر: المجموع ٨/٢١.
(٣) انظر: بدائع الصنائع ٢/١٤٧.
(٤) انظر: منسك ملا القاري ص ١٠٨. وقد عبّر عن ذلك ابن نجيم في البحر الرائق ٢/٣٥٤ بقوله: (واعلم أن الأصل زوال الحكم، ثم زوال العلة، لأن الحكم ملزوم لوجود العلة، ووجود الملزوم بدون اللازم محال. وقول من قال: إن علة الرمل في الطواف زالت، وبقي الحكم. ممنوع، فإن النبي (رمل في حجة الوداع تذكيرًا لنعمة الأمن بعد الخوف، ليشكر عليها، فقد أمر الله بذكر نعمه في مواضع من كتابه، وما أمرنا بذكرها إلا لنشكرها.
ويجوز أن يثبت الحكم بعلل متبادلة، فحين غلبة المشركين كانت علة الرمل، إيهام المشركين قوة المؤمنين. وعند زوال ذلك تكون علته تذكير نعمة الأمن. كما أن علة الرِّق في الأصل استنكاف الكافر عن عبادة ربّه، ثم صار علته حكم الشرع برقه، وإن أسلم. وكالخراج فإنه يثبت في الابتداء، ولهذا لا يُبدأ به على المسلم، ثم صار علته حكم الشرع بذلك حتى لو اشترى المسلم أرض خراج، لزمه عليه الخراج) .
1 / 239
١. إن مَن عَلِم حجة على من لم يعلم، وليس العكس. فخفاء هذه السنة على الإمام مالك لا يكون سببًا في إبطالها، وعدم العمل بها. ولذا نقول نحو ما قال ابن عبد البر، فيمن أنكر سنة الرمل: قد ثبت أن النبي (اضطبع بعد عمرة القضية، فصارت سنة معمولًا بها، لا يضرها من جهلها وأنكرها (١) . وقال صديق خان: «ولا يُشرع عند المالكية: الاضطباع في الطواف، ولا في غيره. والحديث يرد عليهم، وكأنه لم يبلغهم» (٢) . والله أعلم.
* الفرع الثاني: مشروعية الرمل.
اختلف العلماء ﵏ كذلك في بقاء مشروعية الرمل في الطواف بعد زوال سببه، وذهاب وقت الحاجة إليه، بظهور الإسلام وتمكنه، واضمحلال الشرك وأهله من مكة. على قولين:
القول الأول: إن الرمل سنة باقية، وشعيرة ثابتة، وإنْ زال سببها، وذهب وقت الحاجة إليها، شأنها شأن كثير من السنن والشعائر في مناسك الحج والعمرة الباقية وإن ذهب سببها، كالسعي، ورمي الجمار ونحو ذلك.
وإلى هذا القول ذهب: جمهور العلماء، ومنهم أصحاب المذاهب الأربعة (٣) .
_________
(١) انظر: الاستذكار ١٢/١٣٧.
(٢) رحلة الصديق ص ٩١.
(٣) انظر: أحكام القرآن للجصاص ١/٩٧، المبسوط ٤/١٠، بدائع الصنائع ٢/١٤٧، الاستذكار ١٢/١٢٧، الرسالة مع شرحها تنوير المقالة ٣/٤٣٥، قوانين الأحكام الشرعية ص ١٣٩، المجموع ٨/٤١، المغني ٥/٢١٧. وقد ترجم لذلك البخاري في صحيحه بقوله: (باب الرمل في الحج والعمرة) . قال ابن حجر في فتح الباري ٣/٤٧١: (والقصد إثبات بقاء مشروعيته، وهو الذي عليه الجمهور) . وقال الكاساني في بدائع الصنائع ٢/١٤٧: (وهو قول عامة الصحابة () . وقال ابن عبد البر في التمهيد ٢/٧٠: (روي ذلك عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر. واختلف فيه على ابن عباس. وهو قول مالك وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأبي حنيفة وأصحابه، والثوري، وأحمد ابن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وجماعة فقهاء الأمصار) .
تنبيه: نسب ابن رشد هذا القول إلى ابن عباس (، ولم يذكر قوله المشهور. انظر: بداية المجتهد ١/٣٤٠. وهو سبق قلم، أو وهم.
1 / 240