إن الدكتور توري قد أظهر من الهشاشة والبشاشة واللطف والدعة ما لم يكن يعهد فيه من قبل روجر، وكثيرا ما بالغ في الإطراء على صفات روجر وحسن أخلاقه، والخلاصة أنه كان موضوع كلامه، حتى إن مدام تورسي نظرت إلى أخيها نظرة المتعجب. وبعد تناول الطعام اتخذ مدام موستل موضوع اهتمامه واعتنائه، فنهض وجلس بالقرب منها وهو يمدح ويثني على ذوق أو لطف ابنتها، وذكاء وأمانة زوجها، مؤكدا لها أنه سينجح نجاحا عظيما ويشتهر اسمه بين قومه، فأجابته: إن ابنتي مرغريت قد سرت سرورا لا مزيد عليه بمعرفة حضرتك، وأنا أتأمل أنها تذهب من وقت إلى آخر إلى مدام فارز صديقتها. فلله در هذه السيدة، ما ألطفها وألذ عشرتها!
فصمت توري وأظهر ارتباكا متلعثما، أو كان لا يدري بماذا يجيب، ولكي يخفي ارتباكه هذا مكن نظارتيه تحت عينيه، فلاحظت ذلك مدام موستل. - وهل حضرتك تزور مدام فارز يا دكتور؟ - كنت أزورها في الماضي، لكني أرى من الآن وصاعدا أن لا حاجة لها إلى أصدقائها القدماء. - هل تسمح لي أن أسألك ما سبب ذلك؟ - السبب في غاية السذاجة، وهذا أمر لا يهمني، كما أنه لا يهمك. - وما هو؟ ولم لا تصرح بكلامك؟ - هو صهرك القديم، ولا أذكر اسمه خوفا من أن يردده الصدى، نعم هو يتردد دائما إلى بيتها وهي تستقبله بكل حرية، ولا تخفي هذا على أحد. - وهل تظن أن صداقة ... - نعم، صداقتهما تنتهي بالزواج، وعندي شواهد تثبت هذا الظن، لكن هذا لا يهمك، وكل منهما طليق الحرية. - هذا صحيح ولا جدال فيه. - لكن يخشى من زيارات مدام روجر وترددها إلى هناك؛ فأنا أخبرتك بهذا الخطر الممكن وقوعه مراعاة لحقوق الصداقة، فهل أنا مخطئ في ذلك؟ - كلا، فإني أضحيت في غاية الامتنان لشعائر حبك ومن أعظم الشاكرات.
الفصل الرابع والعشرون
انصرف المدعوون الواحد بعد الآخر، أما مدام موستل فظلت قلقة البال مضطربة البلبال؛ لما أنبأها به الدكتور توري، أخيرا خرج روجر لعيادة المرضى وبقيت مرغريت وحدها في حجرتها، حيث أضاءت النور الكهربائي ووقفت أمام المرآة ترى ذاتها، فسمعت كلام هنرى يرن في أذنيها وهو: يخال لي اليوم أنك مرغريت الأولى.
ثم نظرت إلى ذاتها مندهشة وقالت: وماذا تغير في عن الماضي؟ نعم، إنه مصيب في كلامه؛ إن ماضي لا يهدم، وما من قوة أرضية تقدر على هدمه؛ لأنه حي في قلبي. نعم، إن ماضي حي وسيحيا إلى الأبد، إن مصارعتي لنفسي لا تجدي نفعا، وأراني أجتهد في محو رسم ألبير من مخيلتي، غير أن شوقي يزداد إليه كل يوم، وودي له ينمو في كل ساعة.
ترى هل نسيني؟ بل لم لا يكتب لي ويسأل عني؟ ومن يعلم إن لم يكن انشغل عني بغيري؟ نعم، طالما تمنيت الابتعاد عنه إتماما لواجباتي، غير أني أصارع قلبي وفكري بدون فائدة على ما أرى.
إن واجباتي تنهاني عن البحث عنه والتوصل إليه والتمتع بحديثه الرائق، لكن من جهة أخرى لي الحرية بأن أحبه وأميل إليه وأشتاقه، بل وأبكيه كما لو كان تحت التراب.
ثم أجالت طرفها في ما حولها وهي مذعورة، فشعرت بألم في قلبها، وأغمضت عينيها ثم فتحتهما وصوبتهما نحو صورة وحيدها مكسيم، عند ذلك ابتسمت لهذا الوجه الصبوح الجميل وشعرت بقبلاته اللذيذة، ودعته لمساعدتها ليحميها من ذكر ألبير، وهيهات ذلك. وكان رسم إيڤون معلقا فوق صورة مكسيم.
عندما رأت رسم إيڤون وهي مائتة تحدق بها الأزهار، غلى دمها وجرى مسرعا في عروقها، ثم بسطت ذراعيها وهي لا تعي على شيء لكنها ترتعش شوقا وحزنا، ثم ضمتهما إلى صدرها وأغمضت مقلتيها، ولفظت بصوت مرتفع تلك الكلمة المحرقة التي كانت ترفرف دائما على شفتيها، ألا وهي: ألبير!
الفصل الخامس والعشرون
Página desconocida