فتنهدت مرغريت وقالت: وبعض الأمور لا تكون إلا تعاسة. - إني أوافقك في هذا؛ فقد تعذبت كثيرا في ماضي حياتك، فعليك إذا أن تستأصلي ذكر هاتيك العذابات من فكرك.
غيري أسلوب معيشتك هذا، اذهبي مثلا لزيارة مدام فارز صديقتك القديمة. وقد سألتني عنك عندما التقيت بها في إبان غيابك عند بائع القبعات، وهي تستقبل يومي الأربعاء والسبت، ولا يخفى عليك أنه يزورها كثيرون من ذوي الأفكار السامية والآداب الفائقة والذكاء الرائع، زوريها من وقت لآخر وانظري ما ألطف ابنتها أودت التي اشترت لها أمها قبعة من أجمل القبعات هناك، تتعرفين ببعض السيدات النبيلات حيث تتوفر لديك أسباب اللهو والتسلي ولذة الاجتماعات العالمية التي تنبه الفكر من غفلته وتوسع دائرة العقل وتنعش القلب، هذا وقد ألحت علي تلك السيدة النبيلة بأن أبلغك وافر أشواقها وتحياتها، بعد أن سألتني عنك باهتمام كثير. - لله درها ما ألطفها! نعم، كنت أحبها كثيرا في الماضي، وسأفتكر في هذا الأمر وأطلب فيه رأي روجر. - حسنا تفعلين، وإذا وجد مانع من جهة مكسيم، فإني لا أفارقه ولا دقيقة واحدة في غيابك، وأبقى بقربه حتى رجوعك من زيارتك. - أشكرك يا والدتي غاية الشكر . - إنك بكيت كثيرا بالماضي يا ابنتي، وقد نظرت دموعك الجارية واطلعت على جميع أحزانك، فدعيني أن أراك ضاحكة مسرورة القلب قريرة العين قبل أن أموت.
إن كلمات مدام موستل هذه وقعت موقعا حسنا في قلب ابنتها، بل كانت كقطرات ندى على قلب يتلهب ظمآن، وبعد بضعة أيام عزمت مرغريت على أن تزور مدام فارز من غير أن تخبر روجر بذلك.
الفصل العشرون
لم ينفك ألبير عن التردد إلى بيت مدام فارز؛ حيث كانت مرغريت موضع أحاديثه الطويلة، ومدام فارز تسمع كلامه شاعرة بأن نارا محرقة تلتهب في أحشائها فتصعد إلى ناظريها ووجنتيها، وهي تعجب كثيرا من حنين ألبير إلى زوجته؛ لأنها كانت تعتقد أن وداد الرجال لا يكون إلا كسحابة صيف ثم تنقشع، ومتى توارى عنهم من هو موضع حبهم، أو التزموا أن يبتعدوا عنه لسبب من الأسباب أو غير ذلك، خمدت تلك النار المحرقة وأصبحت آثار ذلك الحب هباء منثورا.
وإذا كانت تسمع حديث ألبير المملوء من آيات الحنو والعواطف الغزلية الشريفة، جعلت تلوم نفسها على اعتقادها ذلك في كل الرجال دون أن تفرق بينهم، أو أن تعرف البعض منهم معرفة خاصة، وكانت تأسف على ماضيها لأنها لم تحب فيه؛ إذ كانت ترغب في الحب الحقيقي المخلص الدائم.
وكان ألبير لا يمل من تعداد مزايا مرغريت وسجاياها، ويثني على سلامة قلبها وأمانتها، ويسأل مدام فارز متعجبا من أنها كيف أمكنها أن تبتعد عنه وترضى بالاقتران مرة ثانية. فتجيبه بأن غدر الرجل يفوق صبر المرأة واحتمالها، ويصعب على الإنسان أن يثق بثبات حب شخص يخونه، وعندما سمع هذا منها في إحدى المرات هتف قائلا: هذا فكر نسائي، بل جنون محض. - هل تقدر أن تحب امرأة خدعتك؟ وهل تعتقد صحة حبها لك؟ - يوجد فرق بين هذا وما نحن بصدده. - فيما يتعلق بالإحساسات لا فرق بين هذه الحالة وتلك، وعليه فإني أعذر مرغريت التي لم تكن تبتغي إلا أن تدوم على عهد الأمانة، لكن دعك الآن من هذه الأفكار التي تحزنك وتقلق راحتك. أما أودت فكانت تسر كثيرا في عشرة ألبير وتباحثه مرارا في شئون هذه الحياة ومشاكلها الصعبة، وهو يكلمها عن الحب مبرهنا لها أنه موضع الحياة الدنيا، ولولا الحب لما وجد الشعراء والمصورون والموسيقيون وغيرهم من ذوي الفنون وأصحاب الشهرة، وكانت أودت تسمع هذا الكلام بغاية الانتباه والإصغاء، وتمعن التأمل فيه من غير أن تجيب بشيء، أما مدام فارز فكانت تسخر بهما قائلة لألبير إنه غير خال من الجنون ولو قليلا، وإن كيفية الحياة على غير ما يعهد، نعم إنه يتألم لأنه لا يعرف كيف يحيا. وفي ذات يوم كانت تتحدث مع ابنتها أودت في شأن ألبير هذا فقالت أودت: يجب أن يتزوج هذا الرجل يا أمي فإنه شاب. - هو كهل، فإنه يناهز الأربعين، أما هذا تقدم في السن؟! - لا، أنا لا أبالي قطعيا بتقدم الرجل في العمر إذا كانت صفاته تعجب وترضي، فلو خيرت بين ليوناردي فانشي البالغ عمره 80 سنة، وبين أجمل شاب من شبان عصرنا هذا، لاخترت الأول بدون تردد. حينئذ ضمت ابنتها إلى صدرها وقبلتها.
أما ألبير فكان يغذي صبره بالآمال، وينتظر انتظار هلال العيد انبثاق فجر الغد، عله يرى ذلك الشخص الذي أحرمه لذة النوم في لياليه الطويلة، ويعتاض برخيم ذلك الصوت عن كل ما يراه ويسمعه. نعم، كان يقول مرارا: ستعود مرغريت وتدري بكل ما قاسيت واحتملت من جراء بعادها، وإذ ذاك تشفق علي وتعود إلي كالأول، فحبذا تلك الأيام!
الفصل الحادي والعشرون
في ذات يوم من أيام شهر مارس البهيجة، والساعة الرابعة بعد الظهر، كانت مدام فارز تجامل زائريها وبينهم شقيقتان آنستان تسمى الكبيرة منهما ماسكا، والصغيرة فدورا، ولم تكونا جميلتي المنظر بل قبيحتي الشكل، تجلل ملابسهما «التخاريم» والشرائط الكثيرة، ولا تحلمان إلا بالزواج؛ إذ كل واحدة منهما تتجاوز الثلاثين سنا. ومدام فارز تدعوهما غالبا لزيارتها وتستقبلهما بلطفها المعتاد، وخصوصا بما أن ماسكا كانت ذات صوت رخيم يخلب الألباب ويأخذ بها كل مأخذ، وأودت كانت تقول لها كل مرة: لو كان صوتي نظير صوتك لكنت الأولى بين الممثلات في الأوبرا.
Página desconocida