كانت تقول ذلك وهي تزعم بأنها تعرف الفراسة وقراءة الأفكار؛ إذ إنها لم تصف الرجل وما هو مفطور عليه من وفرة ذكائها وحسن إدراكها، وكانت تنتظر تعجبا وعلامة استحسان من سيدتها مرغريت، لكن هذه ظلت صامتة لا تنطق بكلمة، ولا تبدي إشارة سلب ولا إيجاب، على أن ما فاهت به المرضع كان يخرق فؤادها كسهام نارية، وكادت تجهش بالبكاء لو لم تضبط نفسها بعد الجهد الجهيد. ولما خرجت المرضع من الحجرة، طفقت تفكر في هيجان بالها واضطراب بلبالها وما تلاقيه من العذابات المبرحة لدى تذكرها ألبير، فوطدت النفس على أن تبحث عنه في كل ناحية وصوب لتراه؛ إطفاء لغليل أشواقها التي كادت تذهب بحياتها، بيد أن عزيمتها فترت عندما تمثلت ناظريها أمانة روجر وحبه المفرط لها، فصعب عليها إذا أن تخون من يحافظ على الأمانة لها أشد المحافظة، ولا يزال يبحث عن أسباب سعادتها ورفاهيتها.
إن مرغريت افترقت عن صديقاتها، وانفصلت عن صواحبها من عهد زواجها بروجر؛ ولهذا أخذت تشعر يوما بعد آخر بضجر الوحدة وصعوبة الانفراد؛ فملت هذه العيشة، مع أنها في مدة إقامتها مع ألبير كانت قد اعتادت على مبادلة الزيارات والاجتماعات البيتية، والرغبة في اللبس والتبرج والتزين بأنواع الحلي الثمينة. ومنذ اقترنت بروجر رغبت عن كل ذلك واستقلت بذاتها استقلالا تاما، اجتهدت أن لا تلتقي بمن يعرفنها خوفا من تجديد جراحها العميقة وذكر الأيام الماضية.
أما الدكتور روجر، فإنه كان ميالا جدا إلى هذا الاستقلال، ويستحسن جدا عشرة مرغريت ومحادثتها؛ ولذا لم يكن يخالط أحدا من الناس غيرها، إلا في النادر وعند الضرورة الماسة. وكان والداه وشقيقته المتزوجة بأحد ضباط العسكرية يقطنون في جهة بعيدة عنه، وأخوه البكر كان مهندسا يسكن في ضواحي باريس مع زوجته وأولاده، وبما أن المسافة بعيدة كانت المواصلات متعذرة إلا مرات قليلة في أثناء السنة.
لكن في إبان الربيع كانوا يتزاورون على رغم البعد، وكانت مرغريت تحب سلفتها وأولادها الثلاثة، وهذه لم تكن بأقل محبة لها ولمكسيم الصغير، وكانتا تجلسان وتتجاذبان أطراف الحديث أوقاتا طويلة تقضيانها بأرق المعاشرات وألطفها.
فعلى هذا الأسلوب كانت حياة مرغريت، أي بين تدليل زوجها وعبادته لها وقبلاتها اللذيذة الحلوة لولدها مكسيم، وبين حنو أسرة روجر عليها واحترامهم لها وملاطفتهم إياها، إلى أن جمعها الاتفاق بألبير في ذلك المساء كما تقدم ذلك في حينه. وهي تهتز شوقا وتحن حنينا إلى ذكر أيام تقضت ما كان أحلاها وأشهاها.
وفي أحد الأيام عندما ضربت الساعة الخامسة، هتفت بصوت عال من غير انتباه: لا بد لي من أن أراه، ولي الاختيار العام بذلك؛ إن روجر لا يسألني أبدا عن ذهابي وإيابي، وألبير كان زوجي وإني لأحبه حبا مفرطا، فما المانع لي؟
نهضت في الحال وذهبت مسرعة إلى المكان المعهود؛ إذ لم تستطع أن تصبر أكثر من ذلك، ولم يكن سوى القليل حتى وصلت إلى المعهد.
الفصل السابع
اعتادت مرغريت أن ترى ألبير من وقت لآخر، ويكون موضوع الحديث معه إيڤون، وبما أنه كان منكسر القلب ملازم الوحدة والوحشة، وتخفف أحزانه بعذوبة كلامها وحسن مسايرتها. وأما ألبير فكان أطوع لها من بنانها، لا يخالفها بشيء وينتظر أوامرها انتظار هلال العيد، وجل القصد من معاملته هذه صيدها بحبائله واستجلابها إليه ثانية. وفي مساء إحدى ليالي ديسمبر الباردة، قال لها وهما يتجاذبان أطراف الحديث، بعد أن سعلت سعالا شديدا: لا أريد أن تأتي إلى هنا فيما بعد؛ فإن البرد قارس لا يحتمل! فقالت باضطراب: وكيف نلتقي؟
فرمقها بنظرة معنوية لو حدثت في الأيام الأولى لألقت بنفسها بين ذراعيه، وكانت تنتظر الجواب من فيه، فخاب أملها!
Página desconocida