قد علم مما تقدم أن مرغريت تحب ابن عمها روجر، لكن شتان ما بين الحبين الأول والثاني، وقد قال الشاعر:
نزه فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
نعم، إن حبها وعشقها وميلها وهواها وقلبها، كل ذلك كانت قدمته إلى ألبير الذي عرفته أولا، ومعلوم أن الحب كلما عظم ازدادت الغيرة. على أن مرغريت عندما رأت ما كان من أمر زوجها ألبير مع صديقتها بلانش، كبر عليها وصعب احتماله، فأسرعت إلى أمها وقصت عليها الخبر، مظهرة لها عظيم حزنها وشديد كدرها، غير أن هذه لم تكن ذات تعقل ورزانة وحكمة لتسكين جأشها وتهدئة روعها، فهاجت وماجت لدى سماعها ذلك، وانتقضت انتفاضا وقالت: تبا له من رجل دنيء، ووغد لئيم، عادم الشرف، فاقد الإحساسات الإنسانية، أسألك رباه أن تخلص ابنتي من هذا الوحش الضاري!
ولم تكتف العجوز بهذا الكلام المهيج العواطف دفعة، بل كانت تتلفظ به مرارا وتراجعه تكرارا أمام ابنتها، مظهرة لها فظاعة عمل زوجها وخيانته التي لا يطاق احتمالها، ولم تزل على هذا ومثله من اغتياب ألبير وتخطئته بأسمج الألفاظ والتعابير، حتى بدأت مرغريت تشعر بأن مراجل العداوة والحقد تغلي في أحشائها، وصارت تكره ألبير كرها عظيما، وشعرت بأنها لا تقدر أن تساكنه ولا أن تعيش معه؛ فعزمت على طلب الطلاق. على أنها عندما أعلنت ذلك لوالدتها قالت لها: هذا الصواب بعينه، كيف لا، وإن الزوج هو سيئ المبادئ فاسد السيرة، فلا تطيب السكنى معه بوجه من الوجوه؟!
أما ألبير، فإنه سمع في إحدى المرات الحديث الذي كان يدور بين الأم وابنتها بهذا الخصوص، وعندما طرقت مسمعيه كلمة «طلاق» أسرع طالبا مواجهة مرغريت، فأبت مقابلته كل الإباء، ثم كتب لها بعد ذلك عدة رسائل، غير أنها أعادتها إليه على الأثر مختومة كما كانت. فاستعان ببعض الأشخاص من ذوي الرزانة والرصانة والمعرفة التامة بحقائق الأمور ليحادثوها في الأمر، فرفضت مقابلتهم، وأبت أن تسمع كلام وسيط أو حديث رسول في هذا الشأن. وبعد أن استعمل كل الوسائط الفعالة لإصلاح ذات البين بينه وبينها ولم تفد شيئا بل ذهبت أدراج الرياح، لم يشأ أن يحتقرها ولا أن يعاملها معاملة سوء، فعزم أخيرا على أن لا يعود يفاتحها بهذا الأمر، بل يدعها وشأنها تاركا حبلها على غاربها.
هذا، وبعد أن تم أمر الطلاق بين الزوجين، شعرت مرغريت بوخز الضمير المتعب وضيق في صدرها، وما ذلك إلا لأنها كانت تحب ألبير حبا لا زيادة بعده، وكانت تبكي بكاء مرا وتندب حظها حينما كان يخطر في بالها أنها قد فارقته فراقا لا اتحاد بعده، ولم يجر ذلك إلا بمجرد إرادتها وقبولها التام. على أن والدتها كانت تبذل أقصى الجهد من جهة ثانية بإقناعها بأن تتزوج ابن عمها روجر، الذي كان يحبها حبا شديدا، غير أن مرغريت لم تعبأ بهذا الكلام في أول الأمر، وحسبته أمرا ساقطا لا يلزم أن يذكر بشفة، ولكن نظرا لما رأته من حنو ابن عمها روجر، وحسن أمانته وشفقته، أخذت تفكر في هذا الأمر من وقت إلى آخر، إلى أن أضحى شغلا لها صباح مساء، وكثيرا ما كان هذا الفكر يقلقها في غدواتها وروحاتها، وإذ لم تر مناصا من هذه الأفكار المتعبة والهواجس المضنية، اضطرت أن ترضى الاقتران بابن عمها روجر، على أنها عزمت عزما أكيدا ثابتا على أن تمحو من فكرها اسم ألبير، واسم كل شخص يذكرها به.
أما روجر فقصد اتخاذ كل الوسائط الفعالة لكي يجعلها سعيدة ذات عيش رغد وقلب مطمئن؛ لتنسى ذكر تلك الآلام الماضية. وكان يقرأ غمومها وسائر أحزانها بل وأعماق أفكارها في عينيها وملامح محياها، وكان يدل على كل هذا إشاراتها وحركاتها. وقد فهم روجر في ذلك المساء أن مرغريت تتعذب عذابا مبرحا بتذكر أمر محزن.
كان يجري ذلك في مخيلة مرغريت، وأخيرا طرق أذنيها صوت أمها تخاطب روجر في قاعة الطعام. - إني في قلق شديد؛ فدعني أذهب إليها. - لا ضرورة لذهابك، بل الزمي مكانك. - إنها وحدها، فلا شك أنها تضجر. - دعيها منفردة؛ إن الوحدة تفيدها في هذا الوقت. - على أنها عصبية المزاج! - لا عجب في ذلك؛ فإنها قد ذاقت من أنواع العذاب في ما مضى من حياتها ألوانا. - تبا له من قاس!
فأنكر الدكتور روجر عليها ذلك، وقال لها بلطف: أرجو يا حماتي أن لا تعودي إلى ذكره. - أهلك الله ألبير الذي كان سبب شقائها وعذابها. - بل الأولى بك السكوت؛ لأنها إذا سمعت شيئا من هذا فإنه يزيدها آلاما. - لا أستطيع أن أسكت. - إن كان الأمر كما تقولين، فأنا أشير عليك بالنوم العاجل كهذه.
Página desconocida