فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه .
وليس بين كل الأديان دين يدعو إلى الخمول والكسل انتظارا لفيض نعم الله وبركاته، وإنما كلها تدعو إلى العمل والاجتهاد، مع التوكل والاعتماد عليه تعالى.
ولو سأل سائل عن أحسن الأديان لما استطاع حكيم الإجابة على هذا بغير تفكر طويل ومخاطرة؛ لأن الأديان جميعا تدعو إلى الفضائل، وتحرض على اجتناب الرذائل. والعقل يتحاشى الجزم برأي معين عند ولوج مثل هذا المبحث؛ لأنه لا يستطيع تفضيل شريعة على الأخرى بغير تحامل وتحيز، وبغير إثارة سخط البعض على حكمه، مع أن الحقيقة لا بد وأن ترضي الجميع، ولا يقوم دليل على غير صحتها.
فخير ما يفعل العاقل أن يضع السؤال على صورة أخرى، ويسأل عن ماهية الدين القويم الصالح للدنيا وللآخرة، فيكون الجواب أن الدين القويم هو الذي ينير البصائر، ويرفع قدر الحياة، ويحض على العمل مع التوكل والأمل والطيبة. الدين القويم هو الذي ينتصر للخير والفضيلة، ويخذل الشر والرذيلة، وينشط الإنسان، ويدفعه إلى التكمل بالفضائل والصفات الحميدة، وإلى اكتساب كل خلال الرجولة الحقة. الدين القويم هو الذي يعين على احتمال الآلام بصبر وقبول، ويدعو إلى احترام الغير ومراعاة حقوقهم، ويساعد على التسامح، ويقلل من الكبرياء والعتو، ويحث على عمل الواجب.
فالدين الذي تكون هذه تعاليمه هو الدين الصحيح، وشريعته هي الشريعة السمحاء التي تقرب الإنسان إلى الله، وتجعله من عباده المتقين.
وكل دين تزين تعاليمه الخيلاء والكبر والأفضلية على سائر المخلوقات البشرية، وتدعو إلى النزاع والشقاق، وتدفع إلى التغلب على الغير والاستئثار بإرادتهم وحريتهم، أو ترمي إلى انقياد الإنسان نفسه للصغار، فما تعاليم مثل ذلك الدين إلا باطلة وفاسدة، لا ترضي الخالق ولا المخلوق، بعيدة عن محجة العقل والصراط المستقيم.
فهل لا ترى في التعاليم الأولى جلالا واعتدالا، وفي الثانية صغارا وشططا؟ وهل يكون للفكر السخيف قوة على تمييز الحسن من القبيح، أم يسقط بصاحبه فيكون من الضالين الذين ساءوا منقلبا، وكانوا من المفسدين؟
ألا إن مدار الحياة ورقي الاجتماع على الفكر السليم المعتدل؛ لأنه ينبوع الحكمة وعماد النظام وأساس الرقي والكمال.
القول والاعتدال
للإعراب عن الفكر عدة وسائل، أهمها: القول؛ وهو مقياس العقل وميزانه. فالعاقل من يربأ بلسانه أن يهفو، وقلمه أن يشط ويجعل قوله حكيما كفكره، والحكيم من يفكر بروية ويتكلم بصراحة.
Página desconocida