Rousseau: Una Introducción Muy Corta
روسو: مقدمة قصيرة جدا
Géneros
أحلام يقظة جوال
استنادا إلى دليل مستخلص من رواية «إلواز الجديدة» التي تصور أحداثها على اعتبار أنها وقعت على مدار فترة تمتد لأكثر من 12 عاما بدءا من حوالي عام 1732، عرف أن روسو ابتكر بطلا خياليا، يدعى سان-برو، يضاهيه عمرا بالضبط. ونسب روسو لهذه الشخصية المحورية في قصته، كما أوضح في عمله «اعترافات» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ اعترافات)، أحاسيس راقية ونقاط ضعف في الشخصية ترجع إلى طبيعته، وإذ صوره باعتباره معلما جوالا يراه والد جولي لا يستحق حبها لكونه أدنى منها منزلة، فقد أعطى الانطباع بوجود بطل رومانسي منبوذ اجتماعيا، محكوم عليه بالتعاسة، ويستطيع القراء أن يروا فيه بسهولة مؤلف النص. ولقد أثار هذا التوازي، إضافة إلى عدد من أوجه التشابه الظاهرية الأخرى بين شخوص الرواية والشخصيات التي سكنت عالم روسو الخارجي، الشكوك من أن أشهر أعمال روسو في القرن الثامن عشر وضع كتمثيل خيالي لأحداث عاشها روسو بالفعل، وإضفاء للمثالية على سيرته الذاتية المعبر عنها في شكل رسائلي شائع آنذاك للأعمال الروائية الرومانسية. ولكن الأكثر دقة أن نفسر العشق الثلاثي المتقطع بالرواية بين سان-برو وجولي وولمار، إضافة إلى الأحداث التي تدور في فلكها علاقاتهم، باعتبارها تعبيرات عن أشواق دفينة لم يكد يستطيع روسو الإفصاح عنها في واقع الأمر، ولم يشبعها بالقدر الكافي في حياته الشخصية. لقد سمح روسو، شأنه إلى حد ما شأن معاصره ديدرو - الذي كثيرا ما اشتهر بكونه في قمة أوجه عبر شكل من أشكال الإسقاط ينطوي على الإفضاء عن مكنون صدره وكأنه ينقل مزاعم أناس آخرين - لخياله الخصب على نحو مميز بإضفاء شكل ملموس بقدر أكبر على العوالم التي يمكن أن يسكنها، والمشاعر التي يقدر أن يسيطر عليها، في الخيال وحسب.
عندما شرع روسو في تأمل روايته، علق بأنه سمح لخياله، إلى حد كبير بسبب أن أوان الحب قد فات، وجل آماله في إشباع رغبته الجنسية التي عجزت تيريز في أن تثيرها بداخله والتي تبددت في منتصف عمره؛ بأن يأخذه إلى «عالم من الخيال»، عالم راق تسكنه أكمل المخلوقات السامية فضيلة وجمالا، والتي تتحلى بموثوقية مخلصة لم يشهد مثلها بين أصدقائه على الأرض. ولقد ولدت روايته «إلواز الجديدة» من رحم تلك الجاذبية السامية لمثل هذا «العالم المسحور» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ اعترافات). وتكشف الرواية عن أسرار حب غامر، وقد تمنى لاحقا أن يكون فعليا المفتاح للوصول إلى قلب صوفي دوديتو؛ ولكن رغم الشائعات التي اكتنفت طبيعة هيامه بها - والتي اختلقتها السيدة ديبينيه الغيور، والتي سرعان، إلى جانب عوامل أخرى، ما أفضت إلى أكثر أزمات حياته صعوبة، بما في ذلك انفصاله عن ديدرو وعزلته في نهاية المطاف عن معظم أصدقائه الباريسيين - لم يستطع روسو اقتحام قلب صوفي كما سمح، في مخيلته، لسان-برو وجولي أن يغوي كل منهما الآخر. ولقد ألهمت «الرغبة المتأججة» و«الهذيان العاطفي» اللذان زعم روسو في عمله «اعترافات» أن صوفي هي التي أثارتهما فيه تأليفه لاثنين من أكثر رسائله المحركة للمشاعر في روايته (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ اعترافات)؛ واحدة عن البستان الخفي لوولمار وجولي بالملاذ الذي أسمته «الفردوس»، والثانية عن اليوم الذي أمضاه سان-برو مع جولي في غياب وولمار في المياه وعلى ضفاف بحيرة جنيف (الرسالتان رقم 11 و17 بالجزء الرابع، على الترتيب). قال روسو في «اعترافات» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ اعترافات) إنه بحلول شتاء عام 1756، هام بالفعل عشقا بالشخصية التي ابتكرها في يونيو، حيث أغدق حبه عليها وعلى ابنة عمها كلير، وكأنها بجماليون ثانية. وألهمه الظهور المدوي في حياته لصوفي في العام التالي، بعد لقاء عابر سابق لم يكن مؤثرا، استثمار كل مفاتن جولي في رفيقته الجديدة أيضا؛ مما جعله لا يحلم إلا بصوفي نفسها حيث بدأ يشعر بخفقات قلبه المتصاعدة وعاطفته المشبوبة لشيء أمسى الآن حقيقة وواقعا.
لم تكن صوفي من ناحيتها، رغم أنها تأثرت بوجوده الحميم بقدر ما تأثر هو بوجودها، مهتمة به بالقدر نفسه. واختلطت آهاتهما وعبراتهما معا بينما غرقا في الحب، بحسب روسو؛ غرق هو في حبها وهي في حب عشيقها الغائب، سان-لامبرت الذي التقى به روسو منفردا وبدأت في الوقت نفسه براعم صداقة تنمو بينهما بالفعل. ولذا، لازم حبه لصوفي الذي كان من طرف واحد دوما طرف ثالث أضفى مرارة على الفور على احتياج صوفي لروسو كشخص ثقة؛ مما جعل من المستحيل بالنسبة إليه في الوقت نفسه، مع حبه لها الممزوج باحترام شديد، أن يسعى إلى امتلاكها. ولكن بعد أن أثارت صوفي في نفسه كل الشوق الذي أحست به تجاه سان-لامبرت إثارة هي أشبه بضرب من العدوى، استطاع روسو الآن أن يشبع رغبة مضاعفة فقط من خلال التفريغ العاطفي إذ وجه تلك الرغبة إلى جولي، المرأة التي كان بإمكانه امتلاكها وحسب في مخيلته والتي نشأت من صوفي؛ ولذا قال روسو إن عاطفة صوفي الحقيقية تجاهه كانت كأسا حلوة مسمومة تجرعها بجرعات كبيرة (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ اعترافات). لقد حصرت الأشهر الأربعة التي أمضاها الاثنان معا، في حميمية عذبة يخفق لها القلب، بحسب تصريح روسو، والتي لم يشهدها مع أي امرأة أخرى، في حدود الواجب الذي ترك فرضه لإنكار الذات روحه في حالة من التحفظ الواضح للبراءة الجبرية، بحسب كلماته لها في الرسالة الرائعة التي أرسلها لها في أكتوبر 1757 (المراسلات الكاملة، الرسالة رقم 533)، والتي صاغ لاحقا هذا القسم من «اعترافات» بناء عليها. ورغم ذلك، كانت أحاسيسه متأججة جدا بتصورات لقبلة منتظرة منها لدرجة أنه عندما كان يمشي بمحاذاة منحدرات آندلي قاصدا بيتها في أوبون الذي يبعد خمسة كيلومترات تقريبا عن ليرميتاج، كانت أوصاله تتخبط، وجسده ينهار، ويعجز عن صرف انتباهه عنها والتفكير في شيء آخر، فيريق منيه ويصل إلى بيت عشيقته التي لم يظفر بها خاويا من رغبته، متطهرا من النشوة الغامرة لخياله الخاص، ليستثار مجددا فور أن تقع عليها عيناه بفعل «حيويته العقيمة دوما» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ اعترافات).
شكل 6-1: السيدة دوديتو، بريشة كورو.
إذا كان بإمكان روسو في أعماله الروائية أن يختلق عالما متطهرا من مثل هذه التوترات والإحباطات المرهقة، فقد سعى في كتاباته الأخرى وراء متع تبعث على السعادة بالقدر نفسه بتطهير الحياة الأخلاقية من المؤسسات السيئة والمعتقدات المنحرفة التي اعتبر أنها تقف في طريق الإشباع الذاتي للبشر لرغباتهم. ولقد كان للعالم الخيالي الذي بناه روسو في روايته «إلواز الجديدة» والذي كان واهنا على الفور بسبب التوتر الدراماتيكي ولكنه كان أيضا ساطعا برونق لا زخرفة فيه، نظير في موضع آخر بتفكيكه للعوالم المبهمة والقمعية التي كانت مثاليات رواياته بديلا لها. في «رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح» التي خطها روسو تقريبا إبان فترة تأليفه روايته «إلواز الجديدة» والتي كانت تحوي العديد من الأفكار المتداخلة، قابل روسو بين سبل الترفيه النافعة لجمهورية - تشبه جنيف إلى حد بعيد - تقام فيها الاحتفالات البهيجة في الخلاء تحت غطاء السماء، وسبل اللهو الضارة لسكان مدينة كبرى - تشبه كثيرا باريس - التي أفسد التراخي أهلها الخبثاء الكسالى، والتي تتحول بغية إمتاعهم إلى وسائل للإلهاء تقوم على النفاق تؤدى على خشبة المسرح. لندع المشاهدين يمسون مصدر تسلية لأنفسهم! هكذا علق روسو، بحيث يمنح كل منهم دور الممثل المشارك بقوة لا المشاهد المأسور لبه وحسب، الذي يحب أن يرى نفسه في الآخرين، «بحيث يتوحد الجميع توحدا أفضل» (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ السياسة والفنون: رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح). لقد أسفت شخصية جاك الحزينة في مسرحية شكسبير «كما تشاء» لأن «ما الدنيا كلها إلا مسرح»، لكن جان جاك روسو كان سيسعد لو كان الأمر كذلك.
في «خطاب عن اللامساواة»، كان روسو قد شكل صورة للإنسان الهمجي لا تقل تطهرا بشكل خيالي من شوائب وملوثات المجتمع عن تطهر جولي من العيوب الدنيوية لبنات جنسها. وفي «إميل»، قدر لروسو لاحقا أن يبتكر شخصية كاهن خيالي بالقدر نفسه، وذلك عن طريق التجريد من شخصيات حقيقية، تطرح فكرة تقديسه لرب غير غامض في الطبيعة باعتبارها تطهيرا روحيا للإيمان الديني الحق من كل المظاهر الاحتفالية لأية كنيسة وثنية. وبينما «عالم الواقع له حدوده، فإن عالم الخيال لا حدود له»، بحسب تعليق روسو في الكتاب الثاني من «إميل »، مضيفا في الكتاب الرابع منه، ردا على قرائه الذين افترضوا أنه لا يحيا إلا في عالم الخيال لدرجة أنه يراهم «دوما في أرض التعصب» (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية). وأغلب أعمال روسو الرئيسية، الروائية منها وغير الروائية، دليل على صحة ملاحظة جيمس بوزويل الواردة في رسالة بتاريخ 15 أكتوبر عام 1766 إلى ألكسندر دولير، بأن روسو كان لديه أفكار «خيالية بالكامل، ولا تناسب شخصا في مكانته» (المراسلات الكاملة، الرسالة رقم 5477). إن هذه «الإثارة غير الطوعية» أو «الرغبة الشديدة» أو «الجنون السامي» أو «النار المقدسة» أو «الهذيان النبيل» أو «الحماس الطاهر» التي يتحدث عنها روسو في فقرة واحدة وحسب من الرسالة الرابعة في «رسائل أخلاقية» الموجهة إلى صوفي (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع)، تشعل انفصام قدراتنا عن صلاتها الدنيوية. ولاحظ روسو أنه بينما يزحف عقلنا، تحلق روحنا. ولم يلهم أي كاتب من كتاب القرن الثامن عشر الحركة الرومانسية التي ظهرت، ولا سيما في ألمانيا وإنجلترا، مع أفول عصر التنوير، بقوة مشاعره ونشوة أحلامه وتلقائية خياله كما فعل روسو.
وحتى قبل أن تستحوذ أحلام يقظة روسو الجوال على انتباهه في الأعمال الرئيسية التي يذكره العالم بها، فقد جذبته على نحو مثمر جدا باتجاه الموسيقى، وهي الموضوع الذي أصر في عمليه «اعترافات» و«محاورات» أنه خلق ليتناوله (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ اعترافات). وفي تأملاته عن عدم ملاءمة اللغة الفرنسية للتعبير الموسيقي، وفي اعتراضاته على مزاعم رامو عن أولوية الانسجام على اللحن، تصور روسو أن الموسيقى كانت في فترة من الفترات الشكل الغني الذي اتخذته لغة البشر الطبيعية، الشكل غير المتكلف التلقائي، الفاتن في نطقه فتنة جمال جولي كلما تصورها في مخيلته. إن الجملة الموسيقية الواضحة، التي تنشد بثقة بعبارات مصرفة وخالية من الجماليات الأوركسترالية وأوبرالية ومنغمة، كانت في بعض الأوجه أشهر الصور الخيالية الشعبية التي استدعاها روسو على الإطلاق لسبل التعبير الذاتي العتيقة للبشر؛ اللغة البدائية المفقودة للكلام الحر. وإذ إنها مجردة من الزعم بأن النظامين السائد ودون السائد للسلم الموسيقي الغربي كانا راسخين في كل شكل من أشكال الموسيقى، فمن الممكن إرجاع طبيعتها الأصلية في فلسفته إلى جذورها الشعرية أساسا، وتحولاتها التدريجية من فن قديم إلى علم حديث يمكن إعادة تحديدها على غرار معالجته للتدجين الذاتي للبشرية بطرق أخرى.
لكن أصول الموسيقى الحديثة والغربية لم تكن بعيدة جدا كأصول اللامساواة، وبالتالي كان روسو قادرا على تقييم مسار تطورها بأسلوب أقل تخمينا بكثير. لقد نمت إسهامات روسو بالفعل ل «الموسوعة» عن إلمام كامل بتاريخ الموسيقى وللأنواع الموسيقية المختلفة، ولا سيما النظرية الموسيقية المعاصرة، حيث تناول أفكارا في مقالاته «الموسيقى المصاحبة» و«التنافر الموسيقي» و«الجهير الأساسي» التي أسهبت إلى حد كبير في عرض آراء رامو الخاصة حول التعديل النغمي ورنين النغمات التوافقية لنغمة موسيقية مفردة؛ مما دفع بديدرو ودالمبير للزعم، في المجلد السادس من «الموسوعة»، بأن رامو هاجم بفظاظة رجلا كان في واقع الأمر مخلصا إلى حد كبير لمبادئه. وحتى في النسخ المطولة من هذه المقالات التي ضمنها «قاموس الموسيقى» عام 1767، لم يخف روسو أنه يدين بشدة لعمل رامو «نظرية الانسجام» الذي نشر عام 1722. ولكن لكي يلتزم بالموعد النهائي المبدئي لديدرو، اضطر روسو إلى الانتهاء من مقالاته الأصلية في غضون ثلاثة أشهر وحسب، وسعى طويلا لاغتنام فرصة للعودة إليها والإسهاب فيها، وتناول أوجه الاختلاف بينه وبين رامو حيثما وجدت، والإسهاب في الأفكار التي كان عاجزا عن بحثها في السابق.
وضع روسو «قاموس الموسيقى» كمرجع، ولم يثر هذا العمل فيه شطحات خيال كما فعلت أغلب مشروعاته الأخرى التي التفت إليها في ليرميتاج بعد أن رحل عن باريس. ولهذا السبب، كما أعلن في «اعترافات»، نحى هذا العمل جانبا بينما كان يخرج للتجول يوميا، مما أفرخ أحلام يقظته، وبشكل استثنائي طور أفكاره الخاصة بهذا العمل وهو جالس داخل معتزله في وقت هطول الأمطار (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ اعترافات). ورغم ذلك، فإن هذا العمل يعد واحدا من أبرز أعماله، حيث يتسم بالشمول في معالجته للموضوعات التاريخية والفنية والنظرية، ولم ينحصر وحسب في تبسيط تعقيدات مبادئ رامو للقارئ العادي، كما حاول دالمبير أن يفعل أيضا، بل قدم تعليقات مهمة ومنقحة تنقيحا دقيقا حول الممارسات القديمة والوسطى والحديثة للتدوين الموسيقي في مقالته «النوتات الموسيقية»، ودراسة جديدة حول تاريخ الدراما الغنائية (التي خصصت في «الموسوعة» بدلا من ذلك لجريم تحت عنوان «القصيدة الغنائية») في مقالته «الأوبرا»؛ وتحليل للنظرية الموسيقية لتارتيني في مقالته «النظام». لقد كتب تشارلز بيرني، الذي سبق أن ترجم النص الأوبرالي لأوبرا روسو «عراف القرية» إلى الإنجليزية، وسماها «الداهية»، في مؤلفه «التاريخ العام للموسيقى» دفاعا عن روسو ضد نقاد كل من «رسالة عن الموسيقى الفرنسية» و«قاموس الموسيقى»، بينما قيل إن روسو نفسه، الذي لا شك في أنه وضع تقييما مختلطا لأوبرا «ألسيست» لجلوك (1767)، اقترح أن مسرحية «إيفيجينيا في أوليس» (1774) لجلوك، بنصها الفرنسي، ربما دحضت زعمه بأنه من المستحيل تأليف موسيقى لكلمات فرنسية.
Página desconocida