ومن غرائب القلب في سرعة تأثره وتقلبه أنه لا تكاد تسري إليه النظرة أحيانا حتى تفعل فيه لأول وهلة فعل سواها بعد طول الممارسة والتكرار، كأنما هي بين الحب والكره وقع السعادة والشقاء، فإن كليهما يملأ القلب عند وقوعه، وكثيرا ما تختلف نظرتان فتكونان بدء الحب الأكيد أو البغض الشديد عند أول مقابلة منهما في الغراء، وهما زهرة ورد يتهاداها القلبان من طريق العيون في الحب وفي الكره، سهمان مسمومان تتراشق بهما القلوب عن قسي الجفون، وهو سر من أسرار الطبيعة لا يعرفه إلا من يعرف سر الوداد والبغضاء، ولعله تشابه القلبين أو تباينهما جملة حتى يمتزجا أو يتنافرا في لحظة عين كما يمتزج النور بالنور، ويتنافر الضياء بالظلام، ولقد كان من هذا القبيل نظرة أرمان إلى حنة؛ فإنه لم يكد يقع نظره عليها حتى شعر أن جمالها يملأ فؤاده، كما يملأ النور العين عند انفتاحها، وأنها ارتسمت على جوارحه كما يرتسم أثر الختم عند الطباعة، وأنه قد أصبح لها وهو يعلم أنها أصبحت له بدافع الأمل الذي يرجوه فيها، واعتقاده أن من القلب إلى القلب دليلا، وما أدري هل استحسان النظرة هو الذي ينشئ هذا الأمل والاعتقاد، أم هما ينشئان تلك النظرة، ويكونان رائد القلب إلى العيون:
والذي حارت البرية فيه
داء قلب بنظرة العينين
وإن الذي زاد أرمان ميلا إلى حنة وحنوا عليها، ما استشفه في ظاهر هيئتها من ذلة الانكسار وآثار الشقاء والحزن، وهي آثار قد تفعل في القلب الشريف أحيانا ما لا تفعله طلائع الحسن والازدهاء. فلما وصل القوم إلى منزل سريز، دخلت إلى منزلها ودخل معها ليون وأمه، أما حنة فإنها اعتذرت وسألت أرمان أن يوصلها إلى منزلها، فسار وإياها وقال: إلى أين تريدين أن أوصلك؟ - إلى شارع مسلي.
وفيما هما يمشيان قال: أتعرفين سريز حق المعرفة؟ - نعم أعرفها أيام كان أبوها حيا، وكنا جيران. - عجبا! فإني أرى من تباين حالتيكما ...
فقاطعته الفتاة وقالت: صدقت يا سيدي، ولكن المصائب والشقاء تناسب بين القلبين في الألفة أكثر مما يناسب بينهما المقام.
ثم تنهدت تنهدا طويلا رق له قلب أرمان وقال لها: أتراك يتيمة؟ - نعم، فإن أمي قد ماتت من بضعة أشهر، وأبي راح قتيلا في ساحة الحرب.
وعند ذلك وصلا إلى منزل الفتاة فودعها، وقبل يدها باحترام، وعاد إلى منزله مفكرا مهموما وهو يقول: أتراني لا أزال فتيا، أم لا يزال في قلبي وتر لم تنقر عليه أصابع الغرام؟
ولما كان الصباح دعا إليه بستيان فقال له: البس ثوبك العسكري، واذهب في الحال إلى شارع مسلي نمرة 11، واجتهد أن ترى فيه منزلا معدا للأجرة، وإذا لم تجد فادفع للبواب قدر ما يشاء ليخلي لك أحد المنازل المأهولة، فإن ذلك لا يصعب عليه، وبعد أن تجد ذلك المنزل تنقل إليه الأثاث ثم تذهب إليه فتقطن فيه باسم باستيان، أما هذا المنزل نمرة 11 فإن ابنة تدعى حنة ساكنة فيه، ويهمني أمرها جدا، وأول ما تشرع به عندما يتيسر لك أن تكون بجوارها هو أن تفحص عنها، فقد علمت أنها ابنة رجل كريم النسب، وقد أحنى عليها الدهر بوفاة أبيها وفقد ثروتها، ثم تجتهد أن ترتبط معها بالعلائق الوثيقة، فإن ما بلغته من العمر يدفع عنك كل ريبة. فاذهب الآن وعد إلي سريعا في كل حال لأعلم ماذا فعلت.
وبعد أن ذهب بستيان قام أرمان إلى مكتبته فأخذ منها دفترا ضخما، وكتب فيه بالخط المصري هذين الاسمين «ليون رولاند في شارع البوربون، وسريز في شارع التامبل»، ثم كتب تحتهما هذه المذكرة: «يجب البحث عن الغاية التي دفعت نيقولا وفاتح الأقفال إلى الاعتداء على ليون وخطيبته.» وبعد أن فرغ من الكتابة أخذ يقلب صفحات الدفتر، ثم غلبت عليه الهواجس فغرق في تأملات عميقة.
Página desconocida