وفي الجملة ينبغي أن يتفقد كل حال وكل أمر للنفس فيه فرح واستبشار، من نعمة أو وجود لذة أو أنس بشيء، فيقطعه عنها، وأنه كلما هويت النفس شيئًا أعطاها فرحت به، فينبغي له أن يمنعها ولو شربة من ماء بارد تريد أن تشربها، فيمنعها في تلك الفورة التي تشوفت لوجود بردها ولذتها، حتى تسكن تلك الفورة، وينغص عليها، ثم يسقيها بعد ذلك حتى يملأها غمًا، ويوقرها همًا، لأن من شأنها إذا حبس عنها هذه الأفراح بهذه الأشياء وبهذه الأحوال، فكأنه يصيرها في سجن، فيقترب إلى الله ﷿ بغمها وهمها، فيجعل الله ﷿ له ثوابه نورًا على القلب، فيزداد القلب بذلك النور قوة على منع النفس شهواتها، وعلى أخذ سلطانها، ويستولي عليها وهي تذل وتذبل، والعدو يخسأ ويتحير، ويبطل كيده ومكره؛ حتى إذا انتهى إلى أعمال البر، فكل عمل يراها تفرح به أو تأنس به، يقطع عنها ذلك العمل، حتى إنه لو قرأ القرآن فرجع فيه وغنى، منعها ذلك، لأنها متى وجدت شيئًا مفروحًا به، أنست واطمأنت إليه، ومدت القلب إلى ذلك الأنس، فمتى يصل القلب إلى الأنس بالله ﷿، والطمأنينة إليه، والوله إلى عظمته. وصفاء الحب له، فهذا صدق المريدين ربهم ﷿، والسائرين إليه، والطالبين له في منازل القربة.
فينبغي أن ينفي كل فرح للنفس فيه نصيب، حتى يصل إلى ربه تعالى، فإذا وصل إلى ربه ﷿ امتلأ قلبه به فرحًا وسرورًا ويقينًا، فكل شيء مد إليه يدا من
دنيا أو آخره لم يضره، لأنه منه يقبل، فإذا قبل منه حمده عليه وشكره، وكانت جوارحه مستقيمة، حافظة للحدود، معتصمة بخوف الله ﷿، ولسانه ذاكر، وبدنه شاكر صابر، لأنه امتلأ قلبه بالله تعالى فرحًا، فلم تجد أفراح الدنيا فيه مكانًا،
1 / 54