قالتها باللغة الكاتالانية الركيكة، مع الإشارات بيدها إلى فمها. هزت يولاندا رأسها وأشارت إلى الغرفة الداخلية في المطعم. رمقت جسمها الناحل ووجهها الشاحب الطويل: لا أظن أنك تأكلين كثيرا يا ابنتي.
نطقت كلمة ابنتي بصوت أمومي، لا ينم عنه مظهرها القاسي، له رنين معدني يشبه الآلة الحاسبة، قدمت لها صحنا من الباييلا الساخنة، بدأت الفتاة العمل في هذا اليوم الأول حتى منتصف الليل، ثم أخذت المصعد إلى الدور الأخير، ومنه صعدت السلالم إلى السطح، توقفت لحظة تستنشق هواء البحر، تشهد ميناء برشلونة من بعيد، أطراف السفن الراسية عند الشاطئ، تمثال كريستوفر كولومبس من طرفه، رافعا ذراعه مشيرا بإصبعه إلى البحر، ناحية الشاطئ الجنوبي، شمال أفريقيا.
جاءها فرانسيسك ذات ليلة، وقف إلى جوارها فوق السطح يشمان الهواء، بدأ يعلمها الكاتالانية وهي تعلمه العربية، قال إن كريستوفر كولومبس يشير بإصبعه إلى الاتجاه الخاطئ، لأنه سافر شمالا إلى أمريكا وليس جنوبا إلى أفريقيا، أمسك يدها بيده، ينظر في عينيها تحت ضوء القمر، عيناه زرقاوان تلمعان، تصبحان في الليل سوداوين، تشبهان عيني رستم، وأحيانا عيني سميح. •••
في النوم تسافر عبر البحر لتعود إلى غرفتها في الزقاق المسدود بحي السيدة زينب، تشبه غرفتها في برشلونة، تطبق جدرانها الكالحة على روحها، والسرير الخشبي القديم يئن تحت الجسدين المتلاطمين في الظلمة، تتعرف على أحدهما، إنه جسدها، تحمله معها منذ طفولتها حيثما ذهبت، تعرفه عن يقين، تلامسه بأطراف أصابعها بالحنين القديم، تغترب عنه لحظة كأنما جسد امرأة أخرى، ثم تعود إليه تتعرف عليه، الأصابع النحيلة السمراء، الأظافر الشاحبة المقصوصة بحسب أوامر يولاندا، الرعشة الخفيفة الناجمة عن الحزن الغامض الغائر في أعماقها.
الجسد الآخر لا تكاد تعرفه، يتقمص في السرير حركات البانتوميم، قد يهمس في أذنها باسم يشبه اسمها، ترد عليه من دون أن تعرف اسمه، تناديه فرانسيسك، وأحيانا رستم، أو سميح، أو اسما آخر عالقا بالذاكرة. •••
رغم تحررها تقبع في أعماقها امرأة حبيسة، انطلق عقلها وجسدها خارج القضبان، بقي جزء من كيانها أسيرا، ربما هي الروح العاجزة عن التحرر. كلمة «الروح» مؤنثة في لغة القرآن ومع ذلك ترمز إلى إله السماء.
كان رستم يقول: اللغة أقدم من الدين، حواء هي أصل الوجود، آدم ليس إلا الفرع ... ثم يرمقها بعينيه ذات البريق، يدرس أثر كلماته عليها، تسبقها زوجته كارمن في الإعجاب به، تصفق بيديها البيضاوين الناعمتين كالطفلة: برافو! أنت أجمل رجل في العالم يا رستم.
يرمقها بنظرة سريعة، تتلاقى عيونهما في لحظة ثم تشرد بعيدا، تنتابها أحاسيس غامضة، بعضها حزن، بعضها فرح، عيناه عسليتان كبيرتان، مزيج من دماء الشمال والجنوب، كيمياء الشرق والغرب ... درس الفلسفة في كامبريدج، ثم تركها ليكتب الرواية، في كيانه المزدوج تناقض الحياة، شفتاه ممتلئتان بشهوة متدفقة، في عينيه نظرة محايدة باردة تشبه القضاء والقدر.
سميح كان مختلفا، عيناه الخضراوان فيهما نظرة دافئة، شفتاه رفيعتان باردتان، كانت أمه راقصة في ملاهي الإسكندرية، تعشق الفن المصري القديم، بعد أن ترقص لا تعطي جسدها للرجال، تشاركهم الحديث عن الفن والفلسفة حتى يطلع الفجر، وقع في حبها ضابط جيش يملك دارا للنشر، قتلته قنبلة أثناء العدوان الثلاثي على بورسعيد عام 1956، كان سميح عمره ثلاثة أشهر، واصلت أمه مهنة الرقص حتى تخرج في جامعة الإسكندرية، أرسلته إلى باريس حيث حصل على الدكتوراه في علم الأنثروبولوجيا وثقافة الأجناس، في أعماقه حنين إلى الفن يشبه الحنين إلى الأم، ورث عنها شقة على البحر في الإسكندرية، وشقة على النيل في جاردن سيتي، وورث عن أبيه دار النشر في مصر الجديدة.
كانت كارمن تترك سيارتها الفيات في الجراج أحيانا، لا تحب القيادة في شوارع القاهرة أثناء النهار، تفضل القطارات تحت الأرض: مترو الأنفاق، من محطة سعد زغلول إلى حديقة الحيوان في الجيزة، تكتب رواية بطلها طبيب بيطري يعالج الحيوانات، كان اليوم دافئا في شهر أبريل، ترتدي ثوبا ربيعيا يكشف عن ذراعيها وجزء من الصدر، شعرها البني الداكن مسدل فوق كتفيها، في المترو كانت تجلس امرأة تختفي تحت عباءة سوداء، لا يظهر منها إلا عينان سوداوان مشتعلتان بالغضب.
Página desconocida