يتمتم رستم بصوت متحشرج، أنا أخطأت في حقك، سامحيني، أنا أخطأت في حق كارمن وكل امرأة عرفتها، أنا ملعون مطرود من الجنة مثل إبليس، أنا مثل إبليس بدون أم، لو كان لإبليس أم ربما لم يكن إبليس! آه من الهلاوس ... ما دخل إبليس بما أنا فيه، وهل آمنت أنا بوجود إبليس؟
فتح رستم عينيه عن آخرهما وصاح: كل شيء عبث! كان يردد هذه العبارة دائما في لحظات الفشل، حين تهجره كارمن، حين يسقط في الانتخابات، حين يتسلم جائزة عن رواية تافهة، حين ينجذب إلى امرأة لا تنجذب إليه، وحين يرى صورة ابنه غير الشرعي ملزوقة على جدار بيته، يضرب الهواء بقبضة يده صائحا، كل شيء عبث في هذا العالم! ويشوح بيده ويتحشرج صوته: عبث!
من وراء جفونه يراها تنظر إليه، عيناها ثاقبتان ملامحها منحوتة في الحجر، كأنما ميتة، يجهد عينيه في السيطرة على عينيها، يفكر في سميح، لماذا أحبت سميح ولم تحبه هو؟ يستدير ويواجهها، يرفع يده عاليا ليصفعها فوق عينيها، يريد أن يشق قلبها بسكين، ويرى من هو الرجل داخل قلبها، هي كارمن عن يقين أو نسخة منها طبق الأصل، الوحيدة من النساء التي أحبها، والوحيدة من النساء التي لم تحبه. •••
سيارته المرسيدس تجتاز شوارع القاهرة، تتحرك عجلة القيادة وحدها تحت يده النائمة، المقعد إلى جواره خاليا، يرمقه بطرف عين مندهشا، كأنما كارمن كانت جالسة في هذا المقعد منذ لحظة، ثم غادرته في الحلم، أو دخل حلم مضى منذ سنين، تبدو الوجوه في الشوارع نائمة، نصف ميتة، محنطة بطريقة غريبة، مثل الفراشات التي كان يحنطها داخل الكتب في المدرسة، دوائر رمادية حول عيونهم نجت من الموت، ترمقه العيون من وراء سحابة سوداء، يسوق رستم المرسيدس وهو نائم بكفاءة أكبر، لا يبطئ ولا يسرع، بالاتزان المعهود فيه حزب الحكومة، يمسك العصا من الوسط، لا يحب اليمين ولا اليسار، لا يمشي أبدا إلى نهاية الطريق، يخاف النهاية كأنما الموت، يفحص وجهه في مرآة السيارة، لا يحب هذا الوجه منذ رآه في الطفولة، كانت خالته تقول إنه جميل، يحقد عليه الرجال لأنه جذاب للنساء، ينافسونه في الانتخابات وفي الحب سيان، من خلفه امرأة تشبه كارمن تقود سيارتها الفيات الصغيرة، تطارده كارمن في الحياة وفي الموت، كان المفروض أن تمضي من دون أثر كما يمضي كل البشر، لكنها تركت وراءها الرواية، لتنغص عليه عيشته، لتؤكد له أنها موجودة وإن ماتت، وهو غير موجود وإن دخل المجلس الأعلى ونال أعلى الجوائز، أصابه الذعر رغم اتزانه، كأنما لم يكتب أية رواية، كأنما كتبه المقررة على المدارس تلاشت من الوجود، شوارع المدينة ترمقه بعيون مزدوجة وظلال مراوغة، تمتلئ الشوارع بالعيون والأنوف والأفواه، يقبض بيديه على عجلة القيادة، تهتز الأرض تحت العجلات، هل أصابه الجنون أم أنه زلزال حقيقي؟ ملايين الأفواه تهتف بصوت يرج الأرض، يسقط رستم! هي مظاهرة ضده نظمها المنافسون له في المجلس؟
وضع رأسه فوق عجلة القيادة، نام بضع لحظات، يشعر بما يشبه الإرهاق، لا يصيبه الإرهاق إلا عند الفشل، يفتعل خناقة مع زوجته لأي سبب، يتصور على نحو عجيب أنها السبب وراء فشله، يزعق بأعلى صوته حتى يسقط في النوم، ماتت زوجته ولم يعد له أحد يزعق فيه، يصحو رستم من النوم فجأة، لا تزال يداه فوق عجلة القيادة، لم تكن زوجته امرأة، كانت كاتبة، تزعق فيه بمثل ما يزعق فيها، يرتفع صوتها على صوته، فيسكت، لا شيء يسكته إلا الصوت الأعلى منه، يستقر في النهاية بين ذراعيها، لم تكن تشتهي شفتيه، كانت تشتهي شيئا آخر، رجلا آخر أو امرأة أخرى، أو ربما هي شهوة الكتابة، تفوق الشهوات الأخرى، وكان هو يشتهي شهوتها، يحاول أن يكتب مثلها وهو لا يحب الكتابة، لا يندم على شيء في حياته إلا الكتابة، كانت الصفحة البيضاء ترمقه بعين حمراء، مثل عين إبليس، أو عين أبيه وهو طفل، عين مفتوحة ترقبه، لا تكف عن مراقبته، تؤنبه لأي حركة، أو من دون حركة، لمجرد الجلوس أمام الصفحة البيضاء من دون أن تكتب حرفا، ويقول رستم لنفسه: ربما عين أبيه هي السبب وراء فشله في الكتابة، أو ربما هي عين زوجته. لو كانت كارمن امرأة وليست كاتبة ربما أصابه النجاح، كأنما الكتابة فيروس يأكل خلايا المرأة.
تنحرف السيارة لتدخل جاردن سيتي، كأنما تعرف الطريق وحدها، لا يزال الحي هادئا كما كان إلا ميكروفون ضخم أصبح معلقا فوق مئذنة طويلة برزت فجأة كأنما من بطن الأرض، ومحل جديد لبيع الهامبرجر ظهر فجأة أيضا عند ناصية الشوارع، بالإعلان الذي تضيء حروفه وتنطفئ ثم تضيء وتنطفئ، لتعود تضيء من جديد، من دون توقف إلى الأبد. يتنهد بصوت مسموع متذكرا قصيدة مريم الشاعرة، ليس هناك إلى الأبد حتى الحب، ويضيف بصوت غير مسموع، حتى ماكدونالد. •••
يتقلب رستم فوق سريره العريض مؤرقا، أصبح السرير بعد غيابها أعرض مما كان، هذه المرة لا تغيب كارمن على نحو مؤقت، بل هو غياب إلى الأبد، تتوقف كلمة إلى الأبد في حلقه كالغصة، لا يتخيل شيئا إلى الأبد، ربما هي في الحمام، يكاد يسمع صوتها تغني داخل البانيو، لم تكن تغني بهذا الصوت العذب إلا بعد أن تنتهي من الرواية، كأنما بلغت قمة الأورجازم ودخلت تستحم، تملأ البانيو بالماء الدافئ، تدعك جسدها بالليفة والصابون، كأنما تغسل عن نفسها إثم اللذة.
يضغط رستم على زر النور، يرى الرواية إلى جوار السرير فوق الكوميدينو، مكتوب عليها اسمها: كارمن الحرف وراء الحرف محفور، يكاد يشبه تقاطيع وجهها الحجرية، كأنما منحوتة في الصخر، وعيناها ثاقبتان لا يطرف لهما جفن.
فتح رستم الرواية عند الفصل الأخير، لم يبق أمامه إلا آخر فصل، بدت حروفها غير واضحة. التيار الكهربائي يضعف أم عيناه تضعفان؟ يتذكر فجأة أنه لا يرتدي نظارة القراءة، يبحث عنها في غرفة النوم، في المكتبة، في أدراج المكتب، في صالة الداخلية، في أي مكان البيت، من دون جدوى، اختفت نظارة القراءة، لا شيء يغضبه مثل اختفاء نظارة القراءة قبل النوم، ويزعق بصوت غاضب: راحت فين النضارة؟ - ... ... - فين النضارة؟ - ... ... - طبعا مش سمعاني! غرقانة في الرواية! - ... ... - فين النضارة يا ست هانم؟ - ... ...
لم تكن كارمن ترد عليه، تقول لنفسها، رجل يسأل زوجته أين وضع نظارته، المفروض أن يسأل نفسه لو عنده منطق، لكن المنطق يغيب عن عقل الرجل المتزوج، يتصور أن زوجته مسئولة عن نزواته وزلاته وضعف ذاكرته، وسقوط شعر رأسه، واختفاء نظارته أو مفتاح سيارته أو زجاجة الحبوب الخافضة لضغط الدم، أو الرافعة للمعنويات، أو الحبوب المقوية زوجيا أو جنسيا.
Página desconocida