كلمات مريم الشاعرة تشجعها على الحياة، تملأها شجاعة الإقدام على كل شيء تحبه، كانت الفتاة تحب الجلوس على شاطئ النيل تحت ضوء القمر ، تستمع إلى أبيات الشعر وكلمات الحب، تعشق القراءة والسباحة في البحر، لم يكن مسموحا بحسب قانون النادي أن تسبح في حمام «الليدو» أو أي حمام آخر، يسمونه «البيسين»، لم يكن مسموحا أن تجلس على الكراسي في حديقة الشاي، «تي جاردن»، ولا أن تشرب فنجانا من القهوة في أي مكان يجلس فيه الأعضاء والعضوات، كانت تحمل في حقيبتها ساندويتش، إن شعرت بالجوع تلتهمه بسرعة جالسة في المكتبة، مع كوب الماء من المطبخ، أو كوب شاي يحمله الجرسون محمد، بشرته السمراء بلون طمي النيل، أسنانه البيضاء تلمع كإشراقة الشمس في وجهه النحيل، عيناه سوداوان مليئتان بالحنان، تخرج محمد في جامعة القاهرة، كلية الآداب، حصل على الماجستير في الأدب العربي المعاصر، لم يعثر على عمل إلا جرسونا في مطعم النادي، لا يحصل على راتب شهري، يعيش على ما يقدمه الأعضاء والعضوات من «البقشيش»، كلمة يلفظها بطرف لسانه، «بقشيش»، لا يتلقاه إلا الخدم، أراد أن يتحرر من الفقر والمهانة، مزق شهادته الجامعية وألقى بها في صفيحة القمامة.
يختلس محمد بضع لحظات، يقفز السلالم إلى الدور الثاني، يدخل من باب المكتبة مترددا، وجهه مشرق بالابتسامة، يستعير كتابا لمدة يوم أو يومين، يناولها كوب الشاي الساخن، يتبادل معها وهو واقف بضع كلمات، قبل أن يراه أحد من الملاحظين، يطلق عليهم في النادي اسم «الكونترول». •••
ذات يوم رفعت عينيها من فوق الكتاب، رأتها واقفة أمامها متحفزة كالنمرة، أول مرة تراها، رسمت ملامحها في خيالها كما وصفها لها سميح، كانت وحدها بالمكتبة، وقفت صامتة ترمقها بعينين نفاذتين، ساقاها مفتوحتان داخل بنطلون ضيق من جلد النمر، لم تر في حياتها نمرا إلا في الصور، ظلت واقفة ترمقها، من قمة رأسها حتى القدمين، توقفت عيناها عند حذائها القديم المعفر بتراب السيدة زينب، إصبعها أبيض له ظفر أحمر طويل مدبب يشير إليها. - جربوعة زيك تاخد سميح مني أنا؟
لم تستطع أن تنظر في وجهها المبقع بالمساحيق، بيضاء وحمراء وظلال خضراء على الجفون، خطوط بالقلم الأسود حول العينين، بياضها جاحظ، صفراوين تشوبهما حمرة، شعرها أصفر منقوش أطرافه حمراء، شفتاها رفيعتان مصبوغتان بالروج، منفرجتان عن أسنان مدببة لامعة، أنفاسها تلهث، صوتها حاد له رنة معدنية: أنت جربوعة! - وانتي مين؟ - أنا ستك وتاج راسك سوزان هانم.
كأنما مشهد كوميدي في المسرح، وهي جالسة في مقعد ضمن المشاهدين، ليس لها علاقة بالمسرحية.
قدمت لها مقعدا لتجلس، ترددت مندهشة ثم جلست بحركة قوية، واضعة ساقها اليمنى فوق اليسرى، قدمها المرفوعة تهتز أمام وجهها بحركة لا إرادية، داخل حذاء أحمر لامع، له بوز مدبب.
تعلقت عيناها بذبذبة القدم، لم ترفع عينيها إلى وجهها المبقع بالمساحيق. - انتي يا ... اسمك إيه؟
تذكرت صوت المديرة في ملجأ الأطفال، اللهجة نفسها والطريقة وحركة الرأس وملامح الوجه المختفي تحت حجاب من القماش أو طبقة سميكة من المساحيق، تلاقي الأضداد في مشهد واحد، توقفت قدمها عن الاهتزاز حين رأتها تبتسم. منذ التحقت بالمكتبة قررت الانسلاخ عن حياتها القديمة، توقفت عن لقاء سميح ورستم وكارمن، أدركت أنهم ينتمون إلى طبقة أخرى لا تريد الانتماء إليها، ربما عقدة النقص، أو الإحساس بالذنب، أو لأنها اكتشفت عالما جديدا داخل المكتبة، عالم القراءة والكتابة، كأنما عثرت على نفسها الضائعة منها، متعة جديدة تفوق متع الحياة الدنيا، عالم جديد ينفتح أمامها، تسير فيه إلى الأمام لا تنظر إلى الخلف، عالم القراءة والكتابة، كأنما تولد من جديد، من أم أخرى من وطن آخر، شاطئ جديد ترسو عليه بعد الضياع في المحيط. - لازم تقطعي علاقتك بسميح!
رنت كلمة سميح في أذنها فانتبهت، بدت كلمة غريبة بصوتها المعدني كادت تسألها من هو سميح، ثم عادت إليها الذاكرة، رأت وجه أمها وهي طفلة تحبو، كأنما «أمها وسميح» اسم واحد لشيء في الماضي البعيد.
أطرقت طويلا تبتلع الدمعة الحبيسة، أغمضت عينيها كأنما تسقط في النوم، أفاقت على صوت خائر منهزم، أنا غلطت في حق سميح، عرفت قيمته بعد ما فقدته، أرجوك ساعديني لأسترده.
Página desconocida