الإحساس بالغربة يزحف على جسدها كالهواء البارد، ينتابها الحنين إلى غرفتها في الزقاق، رائحة شوربة العدس تتصاعد من المطبخ، صوت جمالات يرتفع يناديها: أنا عملت شوية شوربة تاكلي صوابعك وراها.
جاءها الجرسون يسألها ماذا تطلب. من فضلك، شوربة عدس وصلاطة خضراء. سميح طلب سمكا مقليا وصلاطة طحينة، رستم طلب لنفسه ولكارمن مكرونة اسباجتي وإسكالوب بانيه، وشيئا آخر لم تلتقط اسمه.
خرجت كارمن من الحمام، تمددت تحت الشمس يتقاطر من جسمها الماء دهنت ذراعها وساقيها بالكريم، يتحرك جسمها داخل المايوه على نحو طبيعي، كأنما ترتدي ملابسها كاملة، التهمت الطعام بشهية الطفلة، ثم ألقت بنفسها في الماء من جديد، غطست مسافة طويلة ثم ظهرت. سمعتها تناديها: تعالي خدي غطس المية حلوة!
همس سميح في أذنها: تحاول أن تغيظك، تجاهليها.
غربتها كانت أشد في ملجأ الأيتام، معلقة كالقشة بين الأجواء، لا تحب الفقر ولا الثراء، تريد أن يضمها قلب كبير دافئ وبيت صغير هادئ، تريد أن تنام بعمق دون أن تلدغها البراغيث، دون أن تزعجها الميكروفونات، تريد أن ترى الشجر من نافذتها ومياه البحر، تريد أن تحقق حلم طفولتها الذي لا تعرفه، لم تكن لها طفولة، لا أم ولا أب، لا إخوة ولا أخوات، ولا جدة تحكي لها قصة الشاطر حسن، وتلعب معها التعلب فات فات.
كان سميح يقول: أنت تتكلمين عن الحرية دون أن تتحرري، تفكرين في المستقبل وتعيشين في الماضي، أنا وأنت تعاهدنا على الصدق والاختيار الحر، لا أجبرك على شيء، أنت حرة تماما، حرة!
كلمة «حرة» ترن في أذنها «عرة»، الفرق بين حرف الحاء والعين يتلاشى. في أعماقها ترقد المرأة الأسيرة، لا تعرف الحرية، لا تملك جسدها، لا تعطي نفسها دون ورقة مختومة ومبلغ من المال، المهر والخاتم، ودفع ثمن الكهرباء والسرير والإيجار.
جمالات تقول: الرجل لا يعرف قيمة امرأة لا يدفع فيها ثمنا غاليا، كلما ارتفع ثمنك ارتفعت قيمتك، تعترض مريم الشاعرة، لا! أنا قيمتي تعلو فوق العقارات والمال، أنا لست بضاعة في السوق للبيع والشراء.
تضحك جمالات في سخرية وتهز رأسها الملفوف بالحجاب: ومن أنت يا عزيزتي؟ - أنا مريم الشاعرة!
يرن صوتها في أذن الفتاة قويا مملوءا بالكرامة: أنا مريم الشاعرة. عيناها السوداوان يشتد بريقهما، بشرتها الخمرية بلون طمي النيل، شعرها يهتز بثقة فوق كتفيها، يتحرك رأسها بكبرياء وهي تنشد:
Página desconocida