La Detención en la Calle de la Salvación mediante un Resumen del Camino

Ibn Hazm d. 456 AH

La Detención en la Calle de la Salvación mediante un Resumen del Camino

التوقيف على شارع النجاة باختصار الطريق

Investigador

د . إحسان عباس

Editorial

المؤسسة العربية للدراسات والنشر

Número de edición

الثانية

Año de publicación

1987 م

Ubicación del editor

بيروت / لبنان

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم

- 4 - رسالة التوقيف على شارع النجاة باختصار الطريق

قال الشيخ الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن حزم رضي الله عنه :

الحمد لله رب العالمين كثيرا ، وصلى الله على محمد عبده ورسوله ، وسلم تسليما وبالله نستعين على كل ما يقرب منه ، أما بعد فإن خطابك اتصل بي فيما شاهدته من انقسام أهل عصرنا قسمين : فطائفة اتبعت علوم الأوائل وأصحاب تلك العلوم ، وطائفة اتبعت علم ما جاءت به النبوة ، ورغبتك في أن أبين لك وجه الحق في ذلك بغاية الاختصار ، لئلا ينسي آخر الكلام أوله ، وبنهاية ( 1 ) البيان ، ليفهمه كل من قرأه ، بلا كلفة ، وأن يكون عليه من البرهان ما يصححه لئلا يصير دعوى كسائر الدعاوي ، فسارعت إلى ذلك متأيدا بالله عز وجل لوجوب نصيحة الناس والسعي في استنقاذهم من الهلكة ، وحسبنا الله تعالى :

1 - اعلم - وفقنا الله وإياك لما يرضيه - أن علوم الأوائل هي : الفلسفة وحدود المنطق التي تكلم فيها أفلاطون وتلميذه أرسطاطاليس والإسكندر ( 2 ) ومن قفا قفوهم ، وهذا علم حسن رفيع لأنه فيه معرفة العالم كله ، بكل ما فيه من أجناسه إلى أنواعه إلى أشخاص جواهره وأعراضه ، والوقوف على البرهان الذي لا يصح شيء إلا به ، وتمييزه مما يظن من جهل ( 3 ) أنه برهان ، وليس برهانا ، ومنفعة هذا العلم عظيمة في تمييز الحقائق مما سواها .

Página 131

2 - وعلم العدد الذي تكلم فيه أندروماخش ( 1 ) مؤلف كتاب الأرثماطيقي في طبائع العدد ، ومن نحا نحوه ، وهو علم حسن صحيح برهاني . إلا أن المنفعة به إنما هي في الدنيا فقط : في قسمة الأموال على أصحابها ونحو هذا ، وكل ما لا نفع ( 2 ) له إلا [ 142 ب ] في الدنيا فهي منفعة قليلة وتحة ( 3 ) لسرعة خروجنا من هذه الدار ولامتناع ( 4 ) البقاء فيها ، وكل ما ينقضي فكأنه لم يكن ، وكما يقول يحيى ( 5 ) : ( 6 ) وما هذه الدنيا سوى كر لحظة . . . يعد بها الماضي وما لم يحن بعد هي الزمن الموجود لا شيء غيره . . . ( 7 ) وما مر والآتي عديمان يا دعد

3 - وعلم المساحة التي تكلم فيها جامع كتاب أقليدس ( 8 ) ومن نهج نهجه ، وهو علم حسن برهاني ، وأصله معرفة نسبة الخطوط والأشكال بعضها من بعض ، ومعرفة ذلك في شيئين : أحدهما فهم صفة هيئة الأفلاك والأرض ، والثاني في رفع الأثقال ( 9 ) والبناء وقسمة الأرضين ونحو ذلك . إلا أن هذا القسم منفعته في الدنيا فقط . وقد قلنا إن ما لا نفع له إلا في الدنيا فمنفعته قليلة لسرعة انقطاعها ، ولأنه قد يبقى المرء في دنياه - طول مدته فيها - عاريا من هذين العلمين ، ولا يعظم ضرره بجهلهما ( 10 ) لا في عاجل ولا في آجل .

4 - وعلم الهيئة : الذي تكلم فيه بطليموس ، ولونخس ( 11 ) قبله ، ومن سلك

Página 132

مسلكهما ، أو سلكا مسلكه ، ممن كان قبلهما من أهل الهند والنبط والقبط ، وهو علم برهاني حسي حسن ، وهو معرفة الأفلاك ومدارها وتقاطعها ومراكزها وأبعادها ، ومعرفة الكواكب وانتقالها وأعظامها وأبعادها وأفلاك تداويرها ، ومنفعة هذا العلم إنما هو في الوقوف على أحكام الصنعة وعظيم حكمة الصانع ( 1 ) وقدرته وقصده واختياره ، وهذه منفعة جليلة جدا لا سيما في الآجل .

5 - وأما القضاء بالكواكب فباطل لتعريه من البرهان ، وإنما هو دعوى فقط ، ولا نحصى كم شاهدنا من كذب قضاياهم المحققة ، وإن أردت الوقوف على ذلك فجرب ، تجد كذبها أضعاف صدقها كالراقي والمتكهن سواء سواء ولا فرق .

6 - وعلم الطب الذي تكلم فيه [ 143 / أ ] أبقراط وجالينوس وذياسقوريدس ( 2 ) ومن جرى مجراهم ، وهو علم مداواة الأجسام من أمراضها مدة مقامها في الدنيا ، وهو ( 3 ) علم حسن برهاني ؛ إلا أن منفعته إنما هي في الدنيا فقط ، ثم ليست أيضا صناعة عامة ، لأننا قد شاهدنا سكان البوادي وأكثر البلاد يبرأون من عللهم بلا طبيب ، وتصح أجسامهم بلا معالجة كصحة المتعالجين وأكثر ، ويبلغون من الأعمار كالذي يبلغه أهل التداوي في القصر والطول ، وفيهم من يرتاض ومن يخدم ولا يرتاض ، ومن لا يرتاض ولا يخدم كأهل اليسار منهم والدعة من الرجال والنساء . فان قيل : إن لهم علاجات يستعملونها ( 4 ) قلنا تلك العلاجات ليست جاريات ( 5 ) على قوانين الطب بل هي مذمومة عند أهل العلم بالطب ، واكثر ما يقدمون عليه بالرقي ولا مدخل له عند أهل الطب .

7 - فاعلم الآن أن كل علم قلت منفعته ، ولم تكن مع قلتها إلا دنياوية وعاش من جهله كعيش من علمه - مدة كونهما ( 6 ) في الدنيا - فإن العاقل الناصح لنفسه لا يجعله وكده ، ولا يفني فيه عمره ، لأنه ينفق أيام حياته ، التي لا يستعيض في الدنيا منها ( 7 ) فيما لا ضرورة به إليه ولا كثير حاجة تدعوه نحوه

Página 133

8 - ووجدنا ما جاءت به النبوة ومنفعته في ثلاثة أشياء : أحدها : إصلاح الأخلاق النفسية وإيجاب التزام حسنها : كالعدل والجود والعفة والصدق والنجدة في موضعها ، والصبر والحلم والرحمة ، واجتناب سيئها كأضداد هذه التي ذكرنا . وهذه منفعة عظيمة لا غنى لساكني الدنيا عنها ، ولا شك في العقل في أن صلاح النفس ومداواتها من فسادها ، أنفع من مداواة الجسد وإصلاحه ، لأن مداواة الجسد تابعة لمداواة النفس . إذ في مداواة النفس إيجاب ألا يدخل الإنسان على جسده ما يؤلمه بالمرض ، فيقطع به عن مصالحه [ 143 ب ] . وما عم إصلاح النفس والجسد معا أفضل وأولى بالاهتبال به مما خص إصلاح الجسد فقط - هذا برهان عقلي ضروري حسي .

9 - ولا يمكن ألبتة إصلاح أخلاق النفس بالفلسفة دون النبوة ، إذ طاعة غير الخالق - عز وجل - لا تلزم . وأهل العقول مختلفون في تصويب هذه الأخلاق ، فذو القوة الغضبية التي هي غالبة ( 1 ) على نفسه لا يرى من ذلك ما يراه ذو القوة النباتية ( 2 ) الغالبة على نفسه ، وكلاهما لا يرى من ذلك ما يرى ذو القوة الناطقة الغالبة على نفسه ( 3 ) .

10 - والوجه الثاني من منافع ما جاءت به النبوة : دفع مظالم الناس الذين لم تصلحهم الموعظة ولا سارعوا إلى الحقائق ، وحياطة الدنيا والأبشار والفروج والأموال ، والأمن على كل ذلك من التعدي والغلبة وكفاية من ضاع ولم يقدر على القيام بنفسه . وهذه منفعة عظيمة جلليلة ، لا بقاء لأحد في هذه الدنيا ، ولا صلاح لأهلها إلا بها . وإلا فالهلاك لازم والبوار واجب . وليست كذلك منفعة العلوم التي قدمنا قبل ، وقد قدمنا أنه لا سبيل إلى منع التظالم ولا إلى إيجاد التعاطف بغير النبوة أصلا ، لما ذكرنا من أن طاعة غير الخالق تعالى لم يقم برهان بوجوبها ، ولأن الفسوق ومختلفة الأهواء لا ينقاد بعضها إلى بعض .

11 - والوجه الثالث من منافع ما جاءت به النبوة هو التقدم لنجاة النفس فيما بعد خروجها من هذه الدار ، من الهلكة التي ليس معها ولا بعدها شيء من الخير ، لا ما قل ولا ما كثر ، ولا سبيل ألبتة إلى معرفة حقيقة مراد الخالق منها ولا إلى معرفة

Página 134

طريق خلاصنا إلا بالنبوة ، وأما بالعلوم الفلسفية التي قدمنا فلا - أصلا - ومن ادعى ذلك فقد ادعى الكذب ، لأنه يقول ذلك بلا برهان ألبتة ، وما كان هكذا فهو باطل ، ولا يعجز أحد عن الدعوى ، وليست [ 144 / أ ] دعوى أحد أولى من دعوى غيره بلا ( 1 ) برهان . ثم البرهان قائم على بطلان هذه الدعوى ، لأن الفلاسفة الذين إليهم يستند هذا المدعي يختلفون في أديانهم كاختلاف غيرهم سواء سواء ، فوجب طلب الحقيقة في ذلك عند من قام البرهان على انه إنما يخبر عن خالق العالم ومدبره - عز وجل - . وهذا مكان يلزم العاقل الناصح لنفسه ألا يجعل كده ولا اجتهاده إلا في الوقوف على حقيقته ، وإلا فهو موبق لنفسه ، ولا يشتغل عن ذلك بعلم من العلوم تقل منفعته ، ومن فعل هذا فهو ضعيف العقل ، فاسد التمييز ، سيئ الاختيار ، مستحق للذم ، جان على نفسه عظيم الجنايات .

12 - فأول ذلك أن ينظر : هذا العالم محدث كما قالت الأنبياء - عليهم السلام - وأكثر علماء الأوائل والفلاسفة ، أم لم يزل كما قال غيرهم . ومعرفة حقيقة ذلك قريبة جدا لصحة البرهان الحسي الضروري المشاهد على تناهي عدد الأشخاص النامية من كل نوع من أنواع الحيوان والنبات ، فإن أشخاص نوعين منها اكثر عددا بلا ( 2 ) شك من أشخاص أحد ذينك النوعين . فإذ لا شك في هذا عند أحد ، فقد ثبت المبدأ في وجود كل عدد متناه ، فقد وجب لها المبدأ ضرورة - ولا بد - وإن زمان وجود الفلك الكلي - بكل ما فيه - يزيد عدد ساعاته بما يأتي منه ، وبالضرورة يدري كل أحد ( 3 ) أن ما قبل الزيادة ، فإن النقص موجود فيه قبل تلك الزيادة ، عما صار إليه بتلك الزيادة . ولا شك في [ أن ] الزيادة والنقص لا يمكن وجودهما إلا في ذي نهاية ومبدأ . فصح المبدأ للعالم ضرورة ، وصح أنه محدث مبتدأ ( 4 ) ، والله أعلم .

13 - وأيضا فإن الزمان كله يوم ثم يوم - هكذا مدة وجوده - وكل يوم فله مبدأ ونهاية بالمشاهدة . فإذ كل جزء من أجزاء الزمان ذو مبدأ ونهاية - والزمان ليس هو شيئا غير أجزائه التي هي أيامه [ 144 ب ] - فالزمان ذو مبدأ ونهاية - ولابد - ضرورة ، ومن ادعى مدة غير الزمان فقد ادعى الباطل وما لا يقوم به برهان أبدا . ومن أراد إيقاع الزمان على الباري تعالى فقد تناقض بالباطل ، لأن الزمان - كما بينا - ذو مبدأ ، والباري

Página 135

لا مبدأ له ، فهو خالق الزمان ، فهو في غير زمان - ولابد - .

14 - ثم ينظر هل له محدث مبتدئ أو لا ، فوجب بأول العقل أن الحدوث والإبتداء فعل ، والفعل يقتضي فاعلا ضرورة ، ولا يمكن غير ذلك أصلا .

وأيضا فإن النشأة والتربية والعيش ، وعمارة ما لا عيش إلا به من نبات الأرض والحيوان المسخر ، لا يمكن شيء من ذلك ألبتة ولا يكون وجوده أصلا إلا بلغة يقع بها التخاطب والتفاهم ، ووجدنا كل من لم يعلم اللغة لا يتكلم أبدا . وهكذا وجدنا كل من يولد أصم ، فإنه لا يكون ضرورة إلا أبكم لا ينطق أبدا ؛ فصح ضرورة انه لا يتكلم أحد أبدا إلا من سمع الكلام وعلمه ، وكذلك جميع العلوم لا يمكن ألبتة أن يحسنها أحد أبدا إلا حتى يعلمها ، برهان ذلك المشاهد مدة عمر العالم إلى يومنا هذا ، فإن كل من لا يعلم الكلام لا يعلمه . والكلام التي لا علم فيها كبلاد الروم والصقالبة والترك والديلم والسودان والبربر والبوادي التي بين الحواضر لا سبيل إلى أن يوجد فيها شيء من العلوم التي لم يعلموها مذ وجد ( 1 ) العالم إلى يومنا هذا ، وكذلك جميع الصناعات من الحرث والحصاد والدرس ، وآلات كل ذلك ، والذرو والطحن وعمل الكتان والقطن والقنب والحرير وغزل ذلك كله ، لا سبيل إلى أن يعرف أحد شيئا من ذلك كله إلا حتى يوقف عليه فيقبله ويترفق به ويفتق ( 2 ) بذهنه في ذلك بما جعل في طبعه من قبوله ( 3 ) ، وبرهان ذلك انه من لم يعلمه قط لا يدريه ، وأن البلاد التي خلت من بعض هذه الصناعات لا توجد أصلا فيها مذ كان العالم إلى يومنا [ 145 / أ ] هذا ، بخلاف ما تقتضيه الطبيعة مما لا يحتاج فيه إلى معلم : كالرضاع والأكل والشرب والجماع وغير ذلك مما لا يحتاج فيه الإنسان إلى معلم وكذلك سائر الحيوان . فصح ضرورة - صحة حسنة مشاهدة - أنه لا بد في اللغات من معلم ، ولابد في الصناعات من معلم ، ليس من المعلمين الذين في طبعهم تعلم ذلك دون تعليم ، إذ لو كان ابتداء ذلك موجودا في الطبيعة لوجد ذلك في كل عصر وفي كل مكان ، لان الطبيعة واحدة في جميع النوع ؛ وكذلك نجدهم يستوون كلهم فيما توجبه الطبيعة لهم ، إلا أن يعرض عارض حائل في بعض النوع . فوجب ضرورة أن مبتدئ إيجاد ( 4 ) العالم هو الذي ابتدأ تعليم اللغات وابتدأ تعليم الصناعات ، لابد من ذلك ، وانه تعالى علم كل ذلك أول من أحدث

Página 136

من نوع الإنسان ، ثم علمها ذلك المعلم سائر نوعه . ثم تداولوا تعلم ذلك . وهذا برهان ضروري حسي مشاهد ، يقتضي - ولابد - وجود الخالق ووجود النبوة ، وهي تعليم الخالق اللغات ( 1 ) والعلوم والصناعات ابتداء ، ووجود الرسالة وهي تعليم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لمن أمر بتعليمه إياه .

15 - فإذ قد صح هذا كله من قرب ، فالنظر واجب : هل مبتدئ العالم واحد أم اكثر من واحد . ومعرفة حقيقة هذا يقرب جدا - وذلك أنه لولا الواحد لم يوجد عدد ولا معدود ، ففتشنا العالم كله هل نجد فيه واحدا فلم نجده أصلا ، لان كل ما في العالم فإنه ينقسم أبدا فهو كثير لا واحد ، فإذا لابد من واحد في العالم ، فالواحد هو غير العالم ، وليس غير العالم إلا مبتدئ العالم ، فهو الواحد الذي لا يكثر ، لا واحد سواه ؛ فوجدنا العالم محدثا تاليا كما وصفنا ، لم يكن ثم كونه مكونه الذي ابتداه ، ولابد من أول ، إذ لولا الأول لم يكن الثاني أصلا ، ووجود الثاني يقتضي ضرورة وجود [ 145 ب ] الأول ، ولابد ؛ والثاني موجود فالأول موجود . ففتشنا العالم كله عن أول لم يزل فلم نجده لأنه كله محدث ، لم يكن ثم كونه مبتدئه ، فوجب ضرورة أن الأول غير العالم ، وليس غير العالم إلا مبتدئ العالم ومحدثه .

16 - فإذ قد صح الخالق وأنه واحد أول لم يزل ، وصحت النبوة ، وصحت الرسالة ، فالنظر واجب في الأنبياء :

فوجدنا شريعة النصارى في غاية الفساد لوجوده : أحدها قولهم بخلاف التوحيد في الابن والأب وروح القدس ، والثاني لفساد نقلهم لرجوعه إلى ثلاثة فقط وهم مرقش ولوقا ويوحنا الناقل من متى ( 2 ) ، فوضح عليهم الكذاب وأن أناجيلهم متضادة ، ظاهرة الكذب ( 3 ) في أخبارها ، فبطلت الثقة بنقلهم ، مع أنها شريعة معمولة من أساقفتهم وملوكهم بإقرارهم ، وما كان هكذا فالأخذ به لا يجوز ؛ إذ لا يجوز في هذا المكان إلا ما صح أنه جاء به المرسل عن الله تعالى .

ووجدنا اليهود أيضا شريعتهم في غاية الفساد لأنها راجعة إلى كتب ضائعة النقل ، لم ينقلها من أول كونها إلى فشوها عندهم كافة ، بل دخلها التغيير والإتلاف وانقطاع

Página 137

حكمها ونقلها ، لكفرهم بها أيام دولتهم ، ثم بعدها ( 1 ) ، واتصال ذلك فيهم المئين من السنين ، مع عظيم ما فيها من كذب الاخبار ، مع بطلان شرائعهم التي أمروا بها بإقرارهم ، وامتناع إقامتها ، وما كان هكذا فليس هو من عند الله بل هو باطل مفتعل ، إذ لا سبيل إلى العمل بالواجب عندهم .

ثم نظرنا في المجوس فوجدناهم مقرين أن شريعتهم كثير منها من عمل أزدشير بن بابك الملك ، وأنه ضاع من شريعتهم وكتابهم نحو الثلثين ( 2 ) أيام أحرق الإسكندر كتابهم ، وما كان هكذا فلا يجوز التدين به لأن الدين [ الذي ] يزعمون انه الحق لا يختلفون في أنه قد علم ، وما كان هكذا فلا يتدين به عاقل .

ثم نظرنا [ 146/ أ ] في المنانية ( 3 ) فوجدنا نقلهم فاسدا غير متصل بصاحبهم مع ظهور الكذب في كتب صاحبهم ، وفساد ما أتى به وأخبر عنه . ولم ينقل له أحد أية معجزة نقلا يوجب صحة العلم بها ، وما كان هكذا فهو باطل بلا شك ، مع ما فيها من الفساد الظاهر من إيجابه قطع النسل ليعود النور إلى خلاصه ، وهذا أمر لا يمكن ألبتة لاختلاف أجناس الحيوان البحري والطائر والدارج وعدم القوة على قطع تناسلها ، فلا أفسد من شريعة مدارها على سبيل إيجاب ما لا سبيل إليه .

ثم نظرنا في الصابئين فوجدناها ملة قد بطلت بالكلية ، ولم يبق لها أثر مع أن أصولهم أصول المنانية التي لا شك في كذبهم . وأيضا فإن نقلهم قد انقطع فلا سبيل إلى تصحيح معجزة شاهدة لمن قلدوه دينهم . وأيضا فإن شرائعهم بإقرارهم من عمل أكابرهم ، وما كان هكذا فلا يتدين لبه عاقل .

فإذ قد بطلت هذه الديانات وليس في العالم ملة تقر بنبي غير هؤلاء - ولابد من ملة مأخوذة عن نبي إذ لا سبيل إلى معرفة ما يأمر به الخالق تعالى إلا بنقل نبي - لم يبق إلا محمد بن عبد الله عليه السلام وملته هو الذي كتابه منقول نقل الكواف من

Página 138

عنده إلينا - بخلاف نقل الإنجيل الراجع إلى ثلاثة قد ظهر كذبهم ، وبخلاف نقل ( 1 ) التوراة التي هي راجعة إلى واحد وهو عزرا ( 2 ) ، وكانت قبل ذلك أيام دولتهم ممنوعة من كل واحد إلا من الكاهن وحده - وأعلامه منقولة كذلك في الكتاب المذكور ، كإعجاز القرآن وعجز العرب عنه وكشقه القمر إذ سألوه آية ، وكتجربة اليهود بأن يتمنوا الموت وإعلامه انهم ( 3 ) لا يتمنوه أبدا ( 4 ) وإذعان ملوك اليمن وإيمانهم به دون خوف منهم له ولا طمع منه في حظوة [ 146 ب ] دنيا من مال أو جاه لديه ، بل دعاهم إلى ترك الملك والنزول عنه والدخول في العامة ، وإسقاط الفخر والثأر والعداوات وطلب الدماء . والرجوع إلى مؤاخاة من قتل الآباء والأبناء ، فأجابوه كلهم كملوك اليمن وملوك عمان والبحرين وغيرهم - حتى جبلة بن الأيهم ثم ارتد أنفة ولم يزل نادما على ردته - لا ينكر ذلك أحد ، مع براءة كتابه المنزل عليه من كل كذب ومن كل مناقضة ومن كل محال ، فصحت نبوته صحة لا مرية فيها ، وشريعته المتصلة من عهده عنه إلينا ، لأنها لم تكن قط منقطعة فيما بينه وبيننا ولا طرفة عين فما فوقها ، ولا كانت عند خاص دون عام ، بل منقولة من بين المشرق والمغرب .

فإذا قد صح هذا كله : فالواجب على العاقل ألا يقطع دهره إلا بطلب معرفة ما ينجيه في معاده ، ويخلصه من الهلكة ومن النيران المحيطة بها ، ويرفعه إلى السموات التي هي محل الحياة الأبدية والنجاة من كل مكروه ، وموضع السرور السرمدي واللذات الدائمة التي لا انقطاع لها ، ولا يشتغل من سائر العلوم إلا بمقدار ما يعرف به أعراضها ، ويزيل عن نفسه عمى ( 5 ) الجهل بأنه لعل فيها ما ليس فيها ، وما يتعلق بالديانة منها ، ثم يرجع إلى ما فيه خلاصه .

وإذ لاشك في هذا فاعلم ان الفلاسفة لم يدعوا قط انهم تخلصوا بها بعد الموت ،

Página 139

ولو ادعوا ذلك لكانت دعواهم كاذبة لتعريها من برهان يصدق الأبدية ، والنجاة من كل مكروه ، وموضع السرور السرمدي واللذات الدائمة التي لا انقطاع لها ، والله اعلم بالصواب . وأيضا فانهم في آرائهم في أديانهم يختلفون : هذا بين في كتبهم ، فبعضهم يثبت حدوث العالم كسقراط وأفلاطون ، وبعضهم يثبت أنه لم يزل وانه له فاعل لم يزل يخلق ، وهذا قول ينسب إلى أرسطاطاليس ، وبعضهم يثبت النبوة والمعاد والجزاء في المعاد ، والملائكة ، كأفلاطون وصاحب كليلة ودمنة من [ 147 / أ ] فلاسفة الهند ، وبعضهم يقول بتناسخ الأرواح ، كصاحب كتاب سندباد من فلاسفة الهند . فهم كغيرهم في الاختلاف ، ولا فرق ، ولا فضل.

فالعاقل الناصح لنفسه هو من اتبع من يخلصه ، والمجنون هو من اتبع من لا يخلصه ولا يغني عنه شيئا ، ولا ينفعه عاجلا ولا آجلا ، ليس في الحماقة أكثر من هذا . وإذ لا شك في هذا فهذه صفة تعم كل أحد حاشا الذي أرسله الله خالقنا تعالى إلينا ، لخلاصنا في عاجلنا وآجلنا .

18 - واعلم أن من طلب علم الشريعة ليدرك به رياسة أو يكسب به مالا فقد هلك ، لأنه طلبه لغير ما أمره خالقه ان يطلبه ، لان خالقنا - عز وجل - إنما أمرنا أن نطلب ما شرع لنا لننجو به بعد الموت من العذاب والسخط . فمن طلبه لغير ما أمره به خالقه ، فقد عطاءه وبطل تعبه وحبط عمله وضل سعيه .

19 - واعلم أن من أخذ الشريعة عن غير ما صح عن صاحب الشريعة الذي أرسله الله تعالى بها ، واتبع من لم يأمره الله تعالى باتباعه فقد خاب وخسر وبطل عمله ، والذي قلنا في هذا هو الذي مضى عليه جميع أهل الحق من الذين صحبوا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فمن بعدهم ، جيلا جيلا ؛ وحدث في خلال ذلك من الآراء الفاسدة ما لا يخفى على أحد حدوثه ومبدأه ، وقد لاح أن كل حادث غير ما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو باطل مفترى ، والباطل فرض اجتنابه ، وبالله التوفيق .

فهذا بيان ما سالت عنه بغاية الاختصار والبيان ونهاية البرهان ، والحمد لله كثيرا ، وصلى الله على محمد عبده ورسوله وسلم تسليما كثيرا .

كملت رسالة التوقيف على شارع النجاة باختصار الطريق ، بحمد الله تعالى وعونه وحسن توفيقه ، وبالله المستعان

Página 140